فما أحوجنا جميعا إلي ان نتذوق طعم السعادة بملاعق تقدمها لنا حكوماتنا »قفي حيث انت ايتها الجميلة، رائعة الجمال» هكذا صاح فاوست بلحظة السعادة الهاربة، وهو يحاول ان يمد يده للقبض عليها، ناسيا انه لن يستطيع، فهو هنا كمن يحاول القبض علي نسمة من الهواء العليل، نشعر بالانتشاء لحظة مرورها، لكنه عصي علي اصابعنا ان تمسك بها. انها لحظة غالبا ما ننتبه إلي وجودها، بعد ان تكون قد مضت مسرعة كطيف غزالة شاردة، تمرق من امامنا، لتلتحق سريعا بالسراب. نعم لسحر وسر وغموض لحظة السعادة، التي لا يسعنا الا ان نقول مرحبا لطيفها الهارب، ومرحبا لضوئها الذي يلمع في أفق حياتنا ويختفي كما يلمع شهاب من البرق، ينطفئ لحظة اشتعاله، ولكن ماذا بشأن نقيضها في السحر والاسرار والغموض والالق والهروب كما يهرب الضوء، اي لحظة الكآبة، التي تأتي تجر حديد اثقالها كأنها ترسف في الاغلال، وثقيلة تحط في الصدور، وتعلن بصخب وقوة عن حضورها، تقتحم بقبحها وجلافتها خصوصية وحدتنا، وتأتي باحمالها من الهموم التي يصفها امرؤ القيس قائلا، وليل كموج البحر ارخي سدوله /علي بأنواع الهموم ليبتلي / الا أيها الليل الطويل ألا انجلي/ بصبح وما الاصباح منك بامثل ولعله قصد بالليل الطويل ليل الكآبة الذي يريده أن ينجلي لأنه أحس بانه يطول ويطول كأنه ليل بلا انتهاء. الظاهرة الجديدة التي جاءت مخالفة لمثل هذا المفهوم عن السعادة، والتعامل معها لا باعتبارها طيفا عصيا علي التجسد والحضور كحضور الواقع المادي، وانما باعتبارها مادة يمكن امتلاكها والسيطرة عليها، وخلق كيانات وزارية تقوم باداراتها والاشراف علي توزيعها في حصص علي المواطنين، وهانحن نري دولا كثيرا عمدت إلي انشاء وزارات ضمن مجالسها الوزارية اسمتها وزارات السعادة لا هدف لها ولا عمل الا توفير هذه المادة للمواطنين. وكانت الاممالمتحدة قد اتخذت قرارا بأن يوم 20 مارس يوما عالميا للسعادة، باعتبار ان السعادة هدف انساني يسعي البشر جميعا لتحقيقه ولهذا فلابد ان تتعاون الاسرة الانسانية في السعي لتحقيقه، ورأت ان شرطا اساسيا من شروط توفير السعادة للمواطن اتخاذ سياسات واعتماد خطط وبرامج من قبل الحكومات والمؤسسات الرسمية ترفع المستوي المعيشي للمواطن وتعمل علي تحسين الشرط الانساني الذي يعيشون تحته، وقد اعتبر مسح سنوي صدر أخيرا عن الأممالمتحدة ويتعلق بمؤشر السعادة العالمي، فنلندا كأسعد دول العالم، بينما صنفوا بروندي في ذيل القائمة. وجاءت الولاياتالمتحدة في المرتبة 18 متراجعة عن المرتبة 14 العام الماضي وحلت بريطانيا في المرتبة19 تليها دولة الامارات العربية في المرتبة 20 مما يؤكد ان معدلات الدخل القومي وارتفاع المستوي المعيشي علاقة كبيرة بمثل هذه القياسات. فالي أي مدي يمكن ان تحدث هذه الوزارات تغييرا في مفهوم السعادة، وتنجح في زرعها داخل قلوب المواطنين التابعين للدولة التي اعتمدت هذه السياسة ورBت انه يمكن التعامل مع السعادة كما يحصل مع قطاع الاسكان والمواصلات والتموين والتعليم وغيرها من وزارات الخدمات التي تستطيع تقديمها إلي المواطن، مع ان مفهومنا للسعادة كما تعلمناه من اهل الفكر مفهوم يقول انها احساس ينبع من داخل الانسان وليس من خارجه، وانها حالة نفسية وذهنية يصعب تصنيعها تصنيعا وتقديمها للانسان، كما تريد ان تفهمنا هذه السياسات الجديدة، التي تعمد إلي انشاء الادارات والوزارات لانتاج السعادة وتوزيعها علي ابناء الوطن، وانما هي امر ذاتي وليس امرا موضوعيا انه نتاج تفاعل داخلي في عقل وقلب الانسان ووجدانه، وليس هناك اثر كبير لاي عامل خارجي في انتاج السعادة، كما انها عملية لها علاقة بالقيم وراحة الضمير وعمل الخير ولا امكانية ان تأتي عبر قنوات لا مكان فيها للقيم والضمير وجوانب الخير في الحياة، حالة في الروح والذهن وليست حالة في السوق اوفي مكتب حكومي تنتقل منه إلي الروح والقلب، فالي أي مدي يمكن ان يتحقق الهدف من هذه الادارات وهذه الوزارات؟ لابد بادئا ذي بدء، من ان نستمع إلي المنطق الذي بنيت عليه هذه السياسات الجديدة، وهي انه جزء من رسالة الحكومة ووظيفتها تحقيق فرحة الحياة للمواطن والسعي لان تجعله سعيدا، وهي حتي وان اعترفت بالعامل الذاتي للسعادة تري ان البيئة والمحيط والشرط الانساني لحياة هذا المواطن وظروفه الخارجية لابد ان تلعب دورا في انعاش العامل الذاتي الذي ينتج السعادة او تدميره، ولذلك فان مهمة هذه الوزرارت بالتأكيد مهمة شديدة الصعوبة، وستواجه احدي اكبر التحديات غير المسبوقة في تاريخ التعامل الاداري الروتيني الحكومي مع المواطنين، وكل ما نرجوه ونتطلع اليه بشديد الامل هو ان يكتب لوزارات السعادة النجاح في مهمتها فما احوجنا جميعا إلي ان نتذوق طعم السعادة بملاعق تقدمها لنا حكوماتنا وكنا في ازمان سابقة لا نجدها تقدم الا رحيق الحنظل في هذه الملاعق. صيرورة تاريخية رأيته غريبا وعجيبا أن نجد أناسا عانوا أكثر من أربعة عقود من حكم جائر ظالم يحنون اليه ويلهجون بالثناء عليه ويعبرون عن امانيهم بعودة ايامه ولياليه، ولكن ليس معني ذلك اعطاء شهادة براءة وصك غفران للنظام القديم، وانما هي صيرورة تاريخية، رأينا كيف يشرحها احد الفاعلين في المشهد السياسي العربي، الرئيس عبد الفتاح السيسي عندما اشار لبلدان مثل ليبيا واليمن وسوريا وكيف ان الفراغ الذي حدث بعد زلزال التحول الكبير ملأته قوي غير تلك التي كان الشعب يرجو ان تصل إلي الحكم، وكيف ان مصر بسبب مؤسستها العسكرية استطاعت انقاذ الموقف، ولكن القوي التي تملأ الفراغ ليست دائما جاهزة لتركه الا بمواصلة النضال، واعتقد ان ليبيا تسير علي الطريق، بعد ان تحققت خطوات مهمة علي طريق استتباب الامن والاصلاحات الاقتصادية. ولم استطع فهم هذا الحنين علي عصر الاستبداد والديكتاتورية الا بعد ان قرأت اسطرا تشير إلي ما حدث في ألمانيا بعد سنوات من زوال النازية وانتحار هتلر. ففي عدد شهر سبتمبر عام 1948 ولم تمض غير ثلاثة اعوام علي انتهاء الحرب العالمية الثانية، نشرت مجلة الهلال القاهرية، في صفحة 37، تحقيقا منقولا عن صحافة الغرب تحت عنوان »نريد هتلر» قدمت له بالسطور التالية: ((أجرت الهيئات المسئولة شبه استفتاء بين الالمان من مختلف الطبقات في منطقتي الاحتلال البريطاني والامريكي، للتعرف علي ميول الشعب الالماني، ومدي تفضيله للديمقراطية او النازية، فأبدت الغالبية الساحقة منهم أسفها علي انقضاء العهد الهتلري وسخرت من ديمقراطية الانجليز والامريكيين)). ونشرت المجلة عينات من الرسائل التي تحمل تمجيدا وانبهارا بالديكتاتور الالماني هتلر وعهده، فاسعدتني قراءة هذا التحقيق لانني وجدت فيه تفسيرا لما نراه من بعض عبيد الطغيان في بلادنا، فاذا كان هذا قد حدث في بلد ينتمي إلي العالم المتقدم، ماذا نقول عند حدوثه في بلد استوطن فيه التخلف منذ عشرات القرون، ولم يعرف حكما ديمقراطيا طوال تاريخه. • روائي ليبي