أشد المراقبين تشاؤماً لم يكن يعتقد قبل عامين فقط، أن تصل العلاقات بين الولاياتالمتحدةالأمريكية وأقرب حلفائها في أوروبا إلي هذا المستوي الذي أصبح فيه حتي الحفاظ علي الشكليات أمراً صعباً، وبات تبادل الاتهامات بين الزعماء مؤشراً علي مدي التدهور الذي أصاب علاقة كانت أساسية في حسابات موازين القوي بين الدول والتكتلات الكبري في العالم. ماحدث بين الرئيس الأمريكي من ناحية، وبين الرئيس الفرنسي ماكرون ثم المستشارة الألمانية ميركل من ناحية أخري في الأيام الأخيرة ليس خنافة شخصية، وإنما هو تطور خطير يكشف عن عمق الأزمة التي يمر بها التحالف الغربي والذي يهدد وجود »حلف الناتو» ويعطي مؤشرات عن مقدار التغيرات الكبيرة التي يبدو أن العالم مقدم عليها مع نظام عالمي انتهي عمره الافتراضي، ونظام آخر مازال في مرحلة الميلاد.. بتحالفات جديدة وموازين قوي أخري وصراعات تختلف عما كان سائداً. في البداية.. كان الأمر مجرد شكوي من »ترامب» بأن الدول الأوروبية لاتنفق الميزانية العسكرية المتفق عليها لتجهيز جيوشها »2٪ من الموازنة» وبالتالي فإن الولاياتالمتحدة تتحمل العبء الأكبر في موازنة حلف »الناتو». لم يكن الأمر صعباً، خاصة أن جيوش أوروبا تتجاوز 1٫7 مليون مقاتل، وأن موازناتها تتحمل، وأن التواجد العسكري في أوروبا »من خلال حلف الناتو» ليس كبيراً وإن كان فاعلاً بأسلحته النووية وقواعده الصاروخية والتزامه السياسي. لكن الأمور سارت بعد ذلك في اتجاه زيادة التصعيد. مع وضوح رؤية السياسة الأمريكية في ظل ترامب، فالرجل لم يخف سعادته الشديدة بانفصال بريطانيا عن الاتحاد الأوروبي، بل دعا باقي الدول الأوروبية للاقتداء بها »!!» والرجل لم يخف أيضاً اعجابه بقوي اليمين الأوروبي المتطرف في دعوته للتمسك بالهوية الوطنية والخروج من عباءة أوروبا. وهو اليمين الصاعد بقوة في أوروبا مستغلاً الأوضاع الاقتصادية المتراجعة، ومصعداً للحملة ضد الهجرة القادمة لأوروبا، وناشراً حملة من الكراهية ضد الإسلام وضد القادمين من أفريقيا والشرق الأوسط. وكان طبيعيا أن تتباعد المواقف بين ترامب وبين قوي الاعتدال والوسطية في أوروبا التي يقودها ماكرون وميركل وسط تحديات داخلية كبيرة. وكان جزء من الرد هو محاولة حشد قوي الوسط الأوروبي في مواجهة اليمين في انتخابات حاسمة قريبة. والتمسك بالاتحاد الأووربي وسط دعوات انفصالية متعددة. ثم جاءت خطوات أخري لتزيد التباعد بين حلفاء الأمس علي جانبي الأطلسي. فبجانب الحرب التجارية التي أعلنتها »ترامب» علي الجميع والتي لم تقتصر علي المنافس الأساسي »الصين» بل امتدت لدول أخري بعضها حليف مثل دول أوروبا وفي مقدمتها ألمانيا. ورغم مبادرات لتخفيف حدة الخلاف، فإن المشكلة مازالت تهدد بالاسوأ في ظل التهديد المتبادل بفرض الجمارك وغيرها من الاجراءات الحمائية. ثم جاء الأخطر مع إحساس أوروبا بعدم الاطمئنان مع قرارات تصدر عن الرئيس ترامب دون تشاور معها أو توافق عليها داخل حلف »الناتو» وآخرها وأهمها القرار حول الانسحاب من اتفاقية الحد من الأسلحة النووية. وهو القرار الذي يمس أمن أوروبا بصورة أساسية. من هنا كان تصاعد التوجه عند زعامة أوروبا المتمثلة الآن في فرنساوألمانيا، بضرورة الاعتماد علي النفس في توفير أسباب القوة ووسائل الدفاع عن القارة الأوروبية ضد أخطار اليمين الزاحف في الداخل، وضد ما لايمكن توقعه من اليمين المتطرف في الخارج!! المشهد أثناء احتفالات مرور مائة عام علي نهاية الحرب العالمية الأولي كان كاشفاً لعمق الأزمة التي تهدد حلف »الناتو» والعلاقات الأوروبية الأمريكية. ذهب ترامب إلي باريس ليجسد هناك الخلاف لا التوافق. ما حدث من تراشق بينه وبين الرئيس الفرنسي كان تعبيراً عن شرخ عميق في العلاقات.انضمام المستشارة الألمانية ميركل لموقف الرئيس الفرنسي مع استخدامها لتعبيرات أكثر أعتدالا يقول إن الكل يعيد ترتيب أوراقه استعداداً لتطورات هامة ونظام عالمي جديد يولد وسط الأزمات. البعض مازال يأمل أن تكون أزمة عابرة مع زعماء عابرين. لكن البعض الآخر يتوقع أن نكون أمام »زواج علي ورقة طلاق» ينتظر إتمام الإجراءات ويشكو من »قلة الاحترام» بين الحلفاء!!