محمد الغزالى لم تغلق قضية فرج فودة حتي وإن أراد لها البعض ذلك، الحكم علي قاتله لم يكن كافياً لهذا، ولا الإفراج عنه يعني أن ثمة مصالحة مجتمعية قد تمت علي ما توحي به كلمة (العفو)، القاتل الذي أقر في محاكته عن فعلته بأنه لم يقرأ أياً من كتب الراحل لأنه (لا يعرف القراءة ولا الكتابة) لم يكن سوي أداة نفذت ما يريده شيوخ يرغبون في فرض تصور أحادي وقاصر عن الدين، ومن يجادل في رؤيتهم فعقوبته معروفة، وكلما ازدادت حجته في مواجهتهم ارتفعت درجة عقوبته، مثلما قال فودة نفسه»ولنا الله أيها القاريء، أنا وأنت، إن قدر لك أن تقتنع بما ذكرت لك، فسوف يحملون علينا كثيراً. وسوف يلصقون بنا كثيراً من الصفات، بدءا من العلمانية، وانتهاءا بالخروج من الدين«. لم يقل فرج فودة أبداً أن ما يملكه هو الحقيقة لكنه دعا إلي الحوار بوصفه الطريق الوحيد لتكوين أرضية يقف عليها الجميع من مختلف التيارات، لكن ذلك كان مستحيلاً عملياً، الجموع الهادرة التي احتشدت في معرض الكتاب ظهيرة يوم 8 يناير 1992 كانت تؤكد بتكبيراتها المستمرة علي أنها لا تريد أن تسمع، حشود جاءت تنتصر للإسلام الذي يسعي أمثال فودة إلي هدمه كما يوعز إليهم الشيوخ، ولم تكن تلك الجماهير (قدرت وقتها بثلاثين ألفاً) في حاجة سوي لإشارة بسيطة من شيوخها علي المنصة لتفتك بعدو الله الذي امتلك الجرأة ليقول لمحاوريه: »هذه المناظرة ذاتها هي إحدي ثمار الدولة المدنية التي تسمح لكم بأن تناظرونا هنا ثم تخرجون ورؤوسكم فوق أعناقكم، اعطوني نموذجاً لدولة دينية تسمح بمثل هذه المناظرة«. جاءه الرد سريعاً علي طلبه للحوار الذي عبر عن سعادته به يومها: »ولا أكتمكم سعادتي البالغة بأن أحضر لأحاور، وأحاور لأني مؤمن بأن الحوار هو الحل وأننا أصحاب حجة«. الرصاصات التي أنهت حياته بعد كلماته تلك بستة أشهر تحديداً كانت تؤكد علي أن نموذج الدولة الدينية واحد ولن يتغير، لا يسمح بالمناظرات ولا بالحوار، غالباً لأن مؤيدي هذا النموذج لا يملكون ما يقنعون به مخاليفهم. تنزيه الإسلام كانت الأمور واضحة أمام فرج فودة تماماً ف: االإسلام في أعلي عليين، أما الدولة فهي كيان سياسي واقتصادي، وكيان اجتماعي يلزمه برنامج تفصيلي يحدد اسلوب الحكم«. وفي هذا الإطار تأسس رفضه لفكرة الدولة انطلاقاً من مجموعة من الأسس والمعايير أوضحها من خلال كتبه بالتفصيل، وأجملها، في المناظرة المشار إليها، علي النحو التالي: من ينادون بالدولة الدينية لا يقدمون برنامجاً سياسياً في الحكم. تجربة الدولة الدينية استمرت 13 قرناً، فأين الفترة التي حكم فيها بالدين الصحيح؟ طوال 1300 عام واحد في المائة يناصر الدولة الدينية والبقية يريدون المدنية. الدولة الدينية في الواقع الحالي ليست وهماً ولا حلماً، فهناك البعض طبقها والبعض الآخر يحاول فما هو النموذج الأمثل لها مما القاتل الأمي صورة عن مجتمع يحكم علي المفكرين بالشائعات فقط هو موجود؟ قبل أن ندخل في هذه التجربة لم نر إلا إسالة الدماء وتمزيق الأشلاء والسطو علي المحلات العامة وتمزيق الوطن بالفتن فماذا يمكن أن يحدث إذا خضنا في اللجج، وإذا كانت هذه هي البدايات فبئس الخواتيم. نحن الذين ندعو إلي الدولة المدنية ننزه الإسلام عن ممارسات السياسة. أفكار فودة جاءت نتاج قراءة في الواقع الحالي وفي التاريخ حول ضرورة الدولة المدنية، فهو وعندما يضع الإسلام في مكانة عالية فإنه في الوقت ذاته يفهم، ومثلما أكد في كتابه» قبل السقوط «، أن: »الإسلام لم يتنزل علي ملائكة، وإنما تنزل علي بشر مثلنا، بعضهم جاهد نفسه، فارتفع إلي أعلي عليين، وبعضهم أرهقه الضعف الإنساني فأخطأ. وإنهم في تراوحهم بين السمو والضعف، إنما يقتربون منا أكثر بكثير، ويلتصقون بوجداننا أكثر بكثير، من أن نقرن أفعالهم بالمبالغات، أو نقرن صفاتهم بالتقديس المبالغ فيه، أو نقرن حياتهم بالمعجزات والأساطير«. قراءة فرج فودة المتمعنة للتاريخ أوصلته إلي حقيقتين الأولي: أن اليوتوبيا أمر لم يتحقق علي مدي التاريخ الإنساني كله، بما في ذلك تاريخ الخلافة الإسلامية كله حتي في أزهي عصوره، وأن: من يصورون للشباب الغض أن قيام حكم ديني سوف يحول المجتمع كله إلي جنة في الأرض (...) إنما يصورون له حلما لا علاقة له بالواقع، ويتصورون وهماً لا أساس له من وقائع التاريخ، ولا سند له في طبائع البشر. فودة يتوقف كثيراً في تحليلاته التي تناهض قيام دولة دينية علي ما حدث في عهد الخلفاء الراشدين الذين اغتيل منهم ثلاثة مع ظن باغتيال الخليفة الرابع (بعض الروايات تذكر أن أبو بكر مات مسموماً)، يتوقف أيضاً عند الخلافات التي اقتتل فيها المسلمون، ليصل إلي أن اهناك فرقاً كبيراً بين الإسلام الدين والإسلام الدولة، وأن انتقاد الثاني لا يعني الكفر بالأول والخروج عليه، وأنك في الثاني سوف تجد كثيراً يقال أو يعترض عليه، حتي في أعظم أزمنته، بينما أنت في الأول لا تجد إلا ما تنحني له، تقديساً وإجلالاً، وإيماناً خالصا«. يقولون ما لا يفعلون فرج فودة لم يكن يعتمد علي أقوال مرسلة، كانت كتاباته أشبه بالأبحاث العلمية التي تحلل وتفند الفرضيات في محاولة للوصول إلي رأي يكون بمثابة الأرضية التي يتم النقاش عليها، لكن في مواجهته كان الشيوخ يطلقون اتهامات أشبه بالأحكام القضائية، يقول الشيخ الغزالي في مناظرة معرض الكتاب: »ما هذا الحقد الغريب علي الإسلام؟ ما هذا الحقد الغريب علي الله ورسوله؟ ما هذا الحقد الغريب علي الكتاب والسنة؟ ما هذا الحقد الغريب علي التراث كله؟«. أسئلة من شأنها إثارة غضب جمهور ليس لديه استعداد لأن يقرأ، حتي وهو يردد صباح مساء أن الإسلام أمرنا بإعمال العقل، وأن أول آية نزلت في القرآن حملت هذا الأمر »اقرأ«، وأن الرسول الكريم حضنا علي الفهم مهما كانت المشاق»اطلبوا العلم ولو في الصين«، تعاليم يتم ترديدها فقط علي الشفاه وتعطيلها في المعترك الحقيقي اللازم لتفعيلها، مثل الحديث النظري عن الديموقراطية في الإسلام، ووضع المرأة وتكريمه لها، كأننا نعاني من انفصام في الشخصية، ألسنا في هذه الحالة من وصفهم الحكيم في كتابه بأنهم يقولون ما لا يفعلون. الرجل الذي أصبح شهيدا للكلمة، كان يعي المشكلة، هذا ما يبدو جلياً في اهداءه لكتاب » قبل السقوط«: لا أبالي إن كنت في جانب والجميع في جانب آخر، ولا أحزن إن ارتفعت أصواتهم أو لمعت سيوفهم، ولا أجزع إن خذلني من يؤمن بما أقول، ولا أفزع إن هاجمني من يفزع لما أقول. وإنما يؤرقني أشد الأرق، أن لا تصل الرسالة إلي من قصدت فأنا أخاطب أصحاب الرأي لا أصحاب المصالح، وأنصار المبدأ لا محترفي المزايدة، وقصاد الحق لا طالبي السلطان، وأنصار الحكمة لا محبي الحكم، وأتوجه إلي المستقبل قبل الحاضر، وألتصق بوجدان مصر لا بأعصابها، ولا ألزم برأيي صديقاً يرتبط بي، أو حزباً أشارك في تأسيسه، وحسبي إيماني بما أكتب، وبضرورة أن أكتب ما أكتب، وبخطر أن لا أكتب ما أكتب. في محاكمة القاتل قال الشيخ الغزالي أن فرج فودة كافر ومرتد. وهذا علي أساس اعتراضه علناً علي تطبيق شريعة الله، كما رأي الغزالي أن القاتل في هذه الحالة لا ينبغي معاقبته. واليوم وبعد عشرين عاماً يخرج القاتل من السجن قائلاً أن الزمن لو عاد به فلن يكرر فعلته، فما السبب يا تري، هل قرأ ما كتبه الرجل أخيراً وفهم أنه ليس بالكافر أو المرتد؟ وماذا عن الشيوخ الذين أصدروا الفتوي، والذين أهدروا الدماء، والذين برروا القتل، هل فهموا أيضاً، أم أننا وصلنا مرحلة »السقوط« التي حذر منها فرج فودة؟