تنفتح رواية "عطلة رضوان" لعبده جبير، (دار آفاق، 2012) علي أفق واسع من التجريب، واللعب، باللغة السردية ومعها، لإنتاج نص يتألب علي الرواية الواقعية التقليدية. يوم واحد، يمسك بجسد الرواية المترامي، بامتداد صفحاتها التي تجاوزت الثلاثمائة، وبأزمنتها المتداخلة، حيث "رضوان"، المثقف الذي بات صعلوكاً، المتوحد في صخب "بورسعيد" الثمانينيات من القرن الماضي، بسياقها الاستهلاكي الذي أعقب الانفتاح، وبصيغتها الناشئة كمدينة مفتوحة تستقبل الجميع بسلعها، بعد أن كانت مدينة مواجهة في الحروب، يفر منها أهلها. تلك المدينة المفتوحة، في تأويل عميق، تتمثل كمكان مغلق، ضيق، في وعي رضوان، الذي تنفتح عليه الرواية وهو يفكرفي طريقة مثالية لملء فراغ يوم العطلة، عطلة شم النسيم، برحلة إلي القاهرة. رحلة لن تتحقق في الواقع، لكنها ستتحقق في حلم يقظة طويل، سيُدِّور حياة كاملة في حيز زمني ضيق، ليستعيد الصورة الأشمل لرضوان وسياقاته، ليس كذكري، لكن كمشهد كبير يتحقق "الآن"، وباللغة المضارعة غالباً التي تهيمن علي لغة السرد. ليس من حكاية واحدة كبيرة متماسكة في عطلة رضوان، بل عدد لا نهائي من المحكيات الصغيرة، المفتتة، والسائلة، غير المترابطة ظاهرياً.. والتي ترد في النص، محاكية سيولتها الحرة علي صفحة وعي السارد، تلقائية، متداخلة، مبتورة، متصاخبة بلا كابح، وبحيث يمكن أن نُوصف عطلة رضوان كرواية تنتمي لتيار الوعي علي مستوي آليات إنتاجها كخطاب، وبالأخص اعتمادها "المونولوج الداخلي" كتقنية رئيسية مهيمنة تتواتر من خلالها شظيات الحكي. وفق ذلك الاقتراح الجمالي، يتجاوز طموح "عطلة رضوان" محاكاة الواقع. المحكيات الصغيرة هنا تقف أمام الحدث المركزي الصلب، والقفزات الزمنية الحرة تواجه التنامي الخطي التقليدي القائم علي التعاقبية والعلل السببية. يُحاكي الخطاب وعي السارد، وكأنه يتحقق "الآن" علي الدوام. وخلف كل ذلك اللعب، لن يصعب بحال الوقوف علي لحظة اجتماعية شرسة، لحظة تحول جوهري في مصر، الممثلة في واحدة من مدنها شديدة الخصوصية. في "عطلة رضوان" يطل زمن الانفتاح بكل سياقاته وشخوصه "الناشئة" في ذلك الوقت، من مهربين وحرفيين باتوا في لحظة مهيمنين علي مقدرات السياق الذي يحيونه، إلي "بلطجية" صغار منحهم التحول المفاجئ إلي ما يسمي "باقتصاد السوق" فرصاً. ومن الطريف أن الكاتب نفسه اعترف في أحد حواراته الصحفية أنه عمل لفترة مهرباً في المدينة الباسلة! وهنا، يصبح "العبث" الذي يلقي بظلاله علي مقدرات الحكي، و "الخفة" المهيمنة علي رصد أشد المواقف كابوسية، بسخرية عميقة تجلب القهقهة حيناً، وبلامبالاة مقصودة في أحيان أخري، يصبح ذلك في ذاته وجهة نظر، يصير جزءاً من وجهة النظر الأشمل التي تعكسها الرواية عبر مؤلفها الضمني. 2 تبدأ كل الفصول، تقريبا، بواو.. بدءاً من الفصل الأول الذي يبدو معطوفاً علي فصل سابق لم نقرأه، فصل وقع وانتهي قبل بدء المبني الروائي، لكنه قائم بالتأكيد في المتن الحكائي. الخصيصة ستنسحب علي أغلب الفصول، كأنها بالكامل معطوفة علي فصول غائبة، والرواية برمتها معطوفة علي نصين كبيرين شاسعين، نص الواقع، بعلاماته وشفراته ونصوصه، ونص الكتابة، في فضاء شديد الشسوع يمزج، في عجينة واحدة، مقتبسات لا حصر لها من النصوص. الفاصلة هي البطل بين سطور الرواية، علي حساب النقطة. كأن لا وجود لجملة انتهت في عطلة رضوان، وكأن الرواية في جملتها عبارة وحيدة طويلة متصلة، سائلة. الفاصلة أيضاً تلائم زمناً دائرياً.. النقطة مكانها الخط المستقيم، الذي تخاصم عطلة رضوان كل ما يعكسه من دلالة وفلسفة. أما طبيعة لغة السارد، بانقساماته التي أشرت إليها، فهي عجينة ثقيلة تتداخل فيها الفصحي المقعرة مع العامية المبتذلة، والاستعادات المتشابكة لنصوص تبدو متنافرة ظاهرياً، كعبارة للنفري تمتزج مع كلمات أغنية لأحمد عدوية. وعلي رضوان لا يقذف فقط بحكاياته إذن، لكنه أيضاً يقذف بعشرات الاقتباسات المجتزأة من نصه الثقافي الأوسع. في عطلة رضوان، إذابة كاملة للحدود بين المقدس والمدنس، الراقي والمبتذل، النخبوي والشعبي أو الجماهيري، وكأنها، ضمنياً، تؤكد أن هذه الحدود في النهاية واهية، لا يمكن الارتكان إليها، لا يمكن الارتكان إلي طرف مقابل للآخر بتوصيف قيمة.. وهي خصيصة "ما بعد حداثية" بامتياز. التناص"، في الحقيقة، هو أفق هذه الرواية، ففيها انفتاح مهول علي النصوص الإنسانية، ولو تتبعنا عدد الاقتباسات المضخوخة في النص، فسنجد أنفسنا أمام متاهة من الشفرات التي أعيد تشكيلها وضخها منصهرة وملتحمة داخل النص، علي تباعداتها الزمنية والسياقية خارجه. إنها الخبرة الإنسانية التي تصير معها الحدود النظرية محض هراء. ثمة حرص شديد علي مشهدة كل شئ، حتي أصوات الناس التي لا تنتمي للكلام وأصوات الأشياء، من قبيل: " هأ هأ هأ.. تف تف:" شخ شخ شخ. دب.درب. تيك، تيك، ترك".. وغيرها. هذا التجسيم لأصوات تعودنا علي التعبير عنه بشكل غير مباشر، لكنه هنا أحالني لفن "الكوميكس"، بتجسيده المباشر للأصوات التي لم نتعود محاكاتها، أو محاولة محاكاتها، في السرد الروائي. علي المستوي الأشمل، تبدو عطلة رضوان علي تماس أصيل بألف ليلة وليلة، فهناك حكاية إطارية، ما إن توجد حتي تتواري، لتتولد عبرها حكايات تخرج الواحدة فيها من رحم الأخري. وكلما انهمرت الحكايات من رحم بعضها البعض، خفتت الحكاية الإطارية مكتفية بأمومتها. وبالتوازي مع ذلك، تنقُض عطلة رضوان تماماً البنية التعاقبية الاعتيادية للزمن السردي. بالتأكيد، سيكون ضربا من العبث أن يبحث المتلقي عن حكاية تتطور من نقطة لأخري. إنها أقرب لجدارية من الفسيفساء، تفصيلات صغيرة متجاورة، تتحقق دلالتها من التجاور وليس من التعاقب. العلاقات مكانية، بمنطق شعري، وليست زمانية. المدهش، أن حتي التفصيلات الصغيرة لا ترد مرة واحدة، بل تُجزأ بدورها لتفاصيل أصغر، حتي أن كل حكاية صغيرة تتحقق في ذرات صغيرة منثورة علي وجه النص، حكاية طلاق رضوان مثلاً، التي نظل نبحث عن تفاصيلها منذ السطر الأول وحتي الأخير. 3 أين يتموقع السارد في عطلة رضوان؟ السارد، يمارس لعبة تباديل، يندر أن نواجهها، فهو يتحرك عبر ثلاثة ضمائر "أنا"، و"هو"، و"أنت". السارد هو نفسه رضوان في كل مرة، الذي يتجاوز علي الدوام صيغته، أو خانته كذات مستقرة، لائذة بزاوية رؤية محددة، ليصنع واحدةً من كبري ألعاب الرواية. ولا يحدث ذلك بالتبادل بين المقاطع أو الفصول مثلاً، لكن اللعبة الدائبة تتحقق علي مستوي السطر الواحد، أو المشهد المتصل. انتقالات سريعة تحط بلا إنذار أو تهيئة للمتلقي، تخلق ارتباكاً مقصوداً وإجباراً علي الانتباه الدائب، تجعل من رضوان ثلاث ذوات، علي الأقل، تحمل الاسم نفسه: " ذهبتُ إلي الصالة، وعدت بحكم العادة، بحثت عن صحف الصباح التي أقرؤها بالليل، لكنني تهت عنها.... هل تستطيع أن تسأل أحداً عما فعل، انت عملت كدة ليه؟ لم تأخر الشاي، لماذا لم، لا، تسرع إلي الفراش، أنت تريدها... وعثر علي الصحف، وتمدد ممسكاً الأهرام، لكنه لم يستطع القراءة...". رضوان، في الوقت نفسه وبالقوة نفسها، "سارد عليم" تارة، يهيمن علي عالمه، شخوصه دمي في يديه، يعرف عنهم أكثر مما يعرفون عن بواطنهم، وهو تارةً أخري سارد مصاحب، تساوي خبرته بشخوصه خبراتهم دون زيادة أو نقصان، وهو أيضاً سارد محايد كعين الكاميرا في مواضع أخري، يملك معرفة أقل من معرفة شخوصه في لعبة ثالثة، لا يملك إلا ما ترصده رؤيته، سلوكياً، من الخارج، وعلي من يقرأ أن يؤول المشهد، يعيد إنتاجه، أو بالأحري، تخمينه. هذا اللعب الشكلي، هو نفسه تعميق دلالي لفصامية السارد. ليست الذات، وفق تأويلي لعطلة رضوان، بوجهة نظر مستقرة حددت وضعيتها سلفاً في ركن دافئ من السرد.. لكنها ذات تبحث نفسها مع كل سطر، ذات في الحقيقة لم تحظ بحياتها الكاملة، وربما بسبب ذلك، لن تحفل أبداً بموت أكيد.