أين تكمن فتنة السرد في قصص حسن عبد الوجود » حروب فاتنة» الصادرة مؤخراً عن دار الكتب خان؟ هل تكمن في أن الكاتب استطاع أن يشكل حالات سردية علي غير نموذج سابق التجهيز، لها منطقها الخاص، الجامع بين الجد الظاهر علي السطح، والسخرية اللاذعة الكامنة في العمق؟ إنك تقرأ بينما يستغرقك الضحك أحيانا، لكنه لا يتركك لمتعته أو جنونه، إنما يلسعك بما وراء المشهد من تردٍ، قد لا تدرك أنت نفسك هوله وفداحته. قد يتساءل القارئ أيضا ألسنا في عالم »الكيتش» الذي تحدث عنه ميلان كونديرا في رواية » خفة الكائن التي لا تحتمل» أو » كائن لا تحتمل خفته» بحسب صوغ الترجمة، فيما يكشف المفهوم عن المعني الحرفي والمعني المجازي المقصود بهذا المصطلح؟ » الكيتش» Kitsch كلمة يشير معناها الأصلي في اللغة الألمانية إلي جمع القمامة من الشارع أو الفضلات بما فيها الفضلات البشرية. أما المعني المجازي، فيشير إلي نوع من التقييم النقدي لمنتج ثقافي أو فني ردئ، لكنه يستهوي الناس برغم تفاهته، فيما يخلو من القيمة المعرفية أو الجمالية الحقيقية، لأنه مفتعل وغير متجانس، سواء تمثل ذلك في عمل فني يجسد المبالغة والابتذال أو في شعارات سياسية زاعقة بدون مضمون حقيقي أو عبارات رنانة تعبر عن ادعاءات فارغة أو ميل إلي تبسيط الأمور إلي درجة مخلّة أو تبني نماذج جاهزة لا تناسب الواقع، كما أن المفهوم ينسحب أيضا علي أنواع السلوك، والمواقف، وأشكال الحياة التي فقدت روحها الأصلية تماما، مثل المنتجات الرخيصة المقلدة التي توهم من يستهلكها بالرضا الزائف. حسن عبد الموجود يحاول تعرية » الكيتش» أمام عينيه بوصفه ساردا، لا يستثني نفسه إلا بالوعي، وأمام عيون القراء الذين يتقبلونه في الواقع بنوع من الصمت أو التواطؤ المستكين، لأنهم مزودون بآليات مقاومة لأي فعل معرفي يخرج عن حدود ما ألفوه، وشكل وعيهم عبر المؤسسات التعليمية والسياسية والثقافية، كما شكل ذائقتهم عبر كثير من ألوان الفن الاستهلاكي الهابط الشائعة،سهلة التناول التي تداعب مشاعر الجمهور وتستميله بما يفضي إلي تشوه الذائقة، بينما يتقبلها المتلقي، لأنها لا ترهقه، وتدفعه للتفكير فيما وراء الابتذال من تدهور علي مستويات متعددة. الكاتب هنا يشكل عجينته السردية من مفردات متناثرة، مستمدة من ذرات تراب الواقع المأزوم، باحثا بوعي عن الخميرة التي هي الأصل فيما آل إليه الحاضر المصوّر في النص من مهازل ضاحكة، لكنه ضحك كالبكا. ما بين تراب الواقع وعناصر الخميرة الأولي المشكلة لهياكل سياسية ووظيفية ومؤسساتية فارغة من مضمونها، بل وعبثية أحيانا، إلي جانب أنساق فكرية خرافية من زمن آخر، يركض حسن عبد الموجود في أرجاء الزمنعبر لحظات منتقاة بذكاء إبداعي، بصحبة شخصيات قصصية،معجونة بتراب ذلك الواقع نفسه، ويلبسهم ثوب الخيال، فيماتشكل المسافة بين زمن فات، لكن تأثيراته ما تزال فاعلة، والزمن السردي للنصوص،مساحة للعب التخييل. إنها المساحة التي تصبح أيضا ساحة حروب صغيرة فاتنة لذوات مهمشة مقموعة،تجاهد كي تحصل علي قدر ضئيل من مسرات الحياة، ولو كانت واهمة. في قصة » دراجة تعيد رفيق الحزب القديم» لا يروي السارد أحداثا تتعلق بقضايا سياسية حزبية أوموقف أيديولوجي ما، وإنما تفاصيل هامشية من حياة بطل القصة حين يكتشف - في مرحلة متأخرة من حياته - أن لديه دراجة كان قد تسلمها من مسؤولي الحزب كعهدة، تسّهل عليه تنفيذ مهامه الهامشية التي كلّف بها، حيث لا تتعدي هذه المهام تسليم ظرف مغلق لزميلة له في الحزب، يلتقيها في كل مرة في مكان مختلف بحسب التعليمات المشددة، ضمانا للسرية وبعيدا عن المراقبة، دون أن يعلم أو حتي يهتم بمعرفة محتويات المظروف.من خلال التوليف بين دقة التفاصيل الراسمة للمشهد الكوميدي المصور لوقائع الذهاب إلي موقع الحزب القديم لتسليم العهدة، وما يلمح إليه من أمور شكلية بعيدة عن جدية العمل السياسي الحقيقي، واهتمامه بقضايا كبري، وانصراف المسؤولين الحاليين لإبراز الحدث العابر إعلاميا كانتصار حزبي، ما بين حدي المفارقة يستعيد الرجل الماضي بمسراته العابرة، ويتبين ضياع كل ما له معني. فقد انتهي وجود الحزب في الواقع من ربع قرن، وماتت الزميلة التي أحبها، وانطفأت مصابيح حياته كلها، ولم يتبق له سوي الزمن الذي يُمحي خلفه، فلا يُبقي شاهدا علي وجوده سوي الدراجة التي يعود بها. الملهاة المأساة تتجسد أيضا في مهام عبثية أو تافهة، تكشف واقع الحال في مؤسسات أخري، فالسارد الصحفي في » ماء العقرب وتراب العذراء» يولي أهمية كبري لباب الأبراج الفلكية الذي يحرره، واعتقاده الجازم بتأثيرها علي المصائر، فيما يتدخل رئيس التحرير بنفسه لصوغ محتوي أبراج بعينها، لأنها تخص وزيرا أو رئيس الدولة لينول الرضا. بينما يعترض صحفي قديم متقاعد في قصة »ضحكات التماسيح» علي تدهور أوضاع الجريدة، وضحالة ما ينشر فيها بأفعال جنونية، كأن يذهب بنفسه إلي غرفة التنفيذ لتغيير ترتيب المادة المعدة للنشر والعناوين، فيما يحذر من حوله من الصحفيين بالاحتراس حتي لا يطأوا تمساحه الوهمي الذي يسعي بين أقدامهم. المهام العبثية تتجسد أيضا في قصة »حروب فاتنة» حيث يكلف الجندي البسيط ليس بعمل عسكري من أي نوع يتعلق بالتدريب وحمل السلاح، بل يكلف كعقاب بحراسة شجرة جميز من البشر والحيوانات والطيور.أما قصتا » إشارات حمراء تفضي إلي البحر» و » ليلة العقرب» وتدوران في عُمان واليمن علي التوالي، فيفتحان نصوص المجموعة علي البعد العربي، وكأننا في ساحة للمرايا المتقابلة، العاكسة لأوضاع مشابهة في مجالات أخري، فيما يمتزج السرد بنزعة إيروسية سأتناولها لاحقا. أما قمة الملهاة المأساة فتتمثل في قصة »الغرف المنسية»، إذ يقوم المفتش والموظف الآخر الوحيد في مكتب الاتصالات الذي أنشئ في زمن الوحدة بين مصر وسوريا، وظل موجودا كهيكل وظيفي قائم، بعمل يومي وهمي، فيما يطبقان بدقة متناهية وانضباط كامل اللوائح، تحت صورة الزعيم الذي مات، في مكتب ليس فيه عمل، ينتسب إلي واقع سياسي انقرض. رسم الشخوص القصصية هنا يحمل أصداءً بعيدة من قصة »وفاة موظف» لتشيخوف، و»حضرة المحترم» لنجيب محفوظ، إلي جانب » دنيا الله» لمحفوظ أيضا. لكن هذه الأصداء قد تم صهرها في بوتقة حساسية جديدة، بنت زمانها. صدي » دنيا الله» مثلا يتجلي في انقلاب مفاجأ في حياة المفتش الذي كان حريصا علي تطبيق الروتين اليومي حرفيا، بما لا يقل عن حرصه علي صورة رئيس العمل، المتحلي بهالة مهابة مبالغ فيها وزائفة، إلي جانب الاحتفاظ بمسافة محسوبة تجاه مرؤوسه الوحيد، فيما كان هذا الأخير يتقبل بخنوع وظيفي كامل، دون أدني تفكير أو اعتراض، ما تمليه عليه القواعد البيروقراطية العتيدة. الانقلاب في الحقيقة ليس مفاجئا، فالمشهد الإيروسي بين المفتش وفتاة النظافة الشابة ليس سوي نتيجة شبه منتظرة، عندما تتعطل ملكات الإنسان، وتنسحق آدميته في فعل عبثي ممتد، لا يستطيع إيقافه أو حتي ربما لا يدرك هو نفسه »كيتشيته»ومدي عبثيته بسبب تكوينه، عندئذ تنطلق الغرائز البدائية كشكل من أشكال الوجود المُشَوّه الذي يبدو وكأن لا بديل عنه. يوظف الكاتب الإيروسي بدلالات أخري، ربما تبلغ قمتها الساخرة الموجعة في قصة » العرض الأخير»، إذ يتبادل الفعل الجنسي، المرئي عبر نافذة تطل علي سجن طرة، الأدوار مع الفعل الثوري، الجاري في الشارع أثناء أحداث يناير. كلاهما يفقد مضمونه الحقيقي، فلا الأول يعبر عن التواصل الإنساني الحميم الذي يشبع الروح والجسد، وإنما يتم بشكل آلي، وكأنه فرجة في عرض مسرحي مبتذل، ولا الثاني يصل إلي غايته في تغيير حياة الناس إلي الأفضل، وتحقيق العدل والحرية والكرامة. وتصل المفارقة الساخرة إلي ذروتها عندما يثور المساجين، ليس بسبب العنف الذي يمارسه ضدهم مأمور السجن، بل لأنهم يطلبون مواصلة الفرجة علي العرض المثير، بينما ينضم المأمور إلي جانب المساجين في الطلب نفسه لتهدئة الأمور. تمتزج الإيروسية أيضا في قصة » النوم مع فتاة مودلياني» بحيلة سردية أخري، تتمثل في اللعب علي تيمة النوم، واستعارة اللفظ للإيهام بتجسد الفتاة النائمة المشتهاة، المرسومة في لوحة مودلياني من جانب، والنوم الفعلي الاعتيادي للكائن كغياب عن الواقع اليومي من جانب آخر. النوم في هذه الحالة الأخيرة يصور في النصب وصفه فعلا احتجاجيا، يمارسه السارد للهرب من وطأة الملل في مكان العمل، حيث لا يقوم بعمل حقيقي، فيما تسفر الاجتماعات والمناقشات الطويلة عن لا شيء. النوم أيضا - مثل الضحك في نصوص أخري- نوع من المقاومة السلبية أو حيلة العاجز أمام أشكال السلطة المتعسفة، المتمثلة في ضابط المرور الذي ضبطه متلبسا بالنوم في التاكسي، فقبض عليه وأوصي » الحبسجية» بتأديبه. أما المفارقة الكبري، فتتمثل في قدرة السارد علي تطوير تحكمه في النوم، بحيث ينام وهو مفتوح العينين، بينما أصبحت هذه القدرة سلاحه الفتاك في التمرد علي كل ما لا يقبله، ولا يستطيع تغييره. أما قصة » معزة جوركي» فتجسد المصير الساخر لأعمال الكاتب العظيم التي التهمتها المعزة، وأخرجتها - بعد هضمها - بعرا يملأ الطريق، فيما تمثل شخصية الأم التي تحتفظ بالموبايل الحديث في »الميكرويف»- خوفا من تجسس جارتها علي أحوالها - نموذجا متواترا في قصص المجموعة لأجيال سابقة، توقف بها الزمن، مثل عضو الحزب القديم أو الموظف العتيد أو الصحفي المتقاعد، بالإضافة هنا إلي هذا النموذج لكثير من كبار السن منا، ومن أهلنا في الريف والمدن، الذين هبطت عليهم مستحدثات التكنولوجيا دون تمهيد كالقضاء المستعجل. يظهر حسن عبد الموجود ولعا لافتا بما يسمي تراسل الفنون، فيقوم بتوظيف تقنية الفرجة المسرحية في قصة » العرض الأخير» علي نحو ما أشرت سابقا، وكذلك في قصة » ضحكات التماسيح»، حين تخيل الصحفي المتقاعد المهزوم بالعزلة والوحدة والجنون - وهو في المقهي - أن الرواد حوله هم الجمهور، وكأنه النجم فوق خشبة المسرح، يستمع إلي التصفيق بعد أن أثار فزعهم بتمساحه المتخيل، فأصبح محط الاهتمام كما أراد، وكأنه يستبدل هذا الوهم المضحك بأمجاده القديمة. كذلك نلمح افتتان الكاتب بالفن التشكيلي علي نحو ما ظهر في حوار بطل قصة فتاة مودلياني المتخيل مع الفتاة المرسومة في اللوحة، قبل أن تخرج منها لتسقط في حجره، وذلك إلي جانب الإحالة إلي أسلوب رسام آخر هو فرناندو بوتيرو، وهو رسام ونحات كولومبي، اشتهر برسم رموز القوة والسلطة في كل مكان عن طريق تضخيم ملامحهم، وانحناءات أجسادهم المنتفخة وترهلها، كنوع من السخرية الناقدة، المتميزة بلمسات مرح خاصة. يستطيع القارئ أن يلاحظ أيضا أن الشخصيات التي تحتل مواقع النفوذ، وتفرغ ما تقوم به من مضمونه الحقيقي، تستعير وصف ملامحها الجسدية البدينة المترهلة من هذا الأسلوب الفني للرسام الكولمبي، يستوي في ذلك رئيس الحزب في القصة الأولي أو الناظر اليمني في قصة » إشارات حمراء تفضي إلي البحر» أو العقيد في »حروب فاتنة». نستطيع أن نقول أيضا إن الكاتب يتصور الأنا الساردة، والأنا الأخري المسرود عنها، بطريقة غير منتظرة، ومغايرة للسياق المعتاد، فالأنا تعرّف عادة بوصفها كائنا بشريا له صفات جسدية وعقلية ونفسية وشعورية بعينها، وله دوافع داخلية توجه مسار حياته، وتحدد سلوكه في مجال العمل، والحياة العامة أو الخاصة، بحيث تكون مهمة الكاتب أن يستكشف هذه الدوافع الداخلية،بما تتضمنه من إمكانات وقدرات إنسانية، قابلة للتحقق، وإن تكن مقموعة ومكبوتة وغير متحققة علي مستوي الواقع، وذلك لظروف تتعلق بتكوين الفرد أو لأسباب تخرج عن إرادته أو لكليهما معا. سؤال حسن عبد الموجود مختلف هنا جذريا، وهو في تصوري: ما القدرات التي تبقت للإنسان في عالم باتت فيه الأسباب الخارجية التي يستنشقها مع الهواء - ويضطر للخضوع لها - ساحقة، إلي حد لم تعد معه المحركات الداخلية تَزِن شيئا؟ الإجابة الوحيدة الممكنة هي أن يواصل الفرد حروبه الصغيرة الفاتنة، فيما يلتقط كاتب موهوب - مثل حسن عبد الموجود - أشكال المقاومة الممكنة أيضا بحساسية الإبداع الكاشف.