خالد فهمى من خلال قراءتي للمئات من سجلات المحاكم الشرعية التي تزخر بها دار الوثائق القومية اتضحت لي أهمية الشهود العدول الذين كانوا يتابعون أعمال المحكمة. لم يكن هؤلاء الشهود يشهدون في وقائع الدعوي محل التقاضي، بل كانوا يضطلعون بدور مهم في إجراءات المحكمة. هؤلاء الشهود كانوا معروفين في محيطهم الاجتماعي بالتقوي والورع، وكانت تلك الخلفية الأخلاقية تؤهلهم للعب دور مهم في المحكمة. فقد كان قاضي المحكمة يعتمد عليهم لتحديد هوية المتقاضين، وتقرير ما إذا كان شهادة الشهود الذين يستقدمونهم المتقاضون تقبل أم ترفض، وهو ما يعرف شرعا ب"تعديل" الشهود، و "تجريحهم". فهؤلاء الشهود العدول هم من لديهم دراية بأحوال القرية أو الحي الذي وقعت فيه الواقعة محل التقاضي، وهم من يمكنهم القول بأن زيدا شوهد وهو يأكل في رمضان، مثلا، وبالتالي فشهادته لا تقبل، أما عمرو فمعروف بالتقوي وبالتالي تُقبل شهادته. ولم يقتصر دور الشهود العدول علي تعديل الشهود وتجريحهم، بل كانوا يراقبون أيضا أعمال القاضي وأحكامه، فبرغم عدم كونهم فقهاء فقد كانوا خبراء بالإجراءات العملية التي يجب أن يقوم القاضي بها حتي يأتي حكمه صحيحا. فقد كان بمقدورهم مثلا أن يقولوا إن القاضي لم يدرء الحدود بالشبهات مثلا في فضية حدود وبالتالي فإن حكمه غير صحيح. وبمعني آخر فإن سجلات المحاكم الشرعية توضح كيف كان الشهود العدول بمثابة عيون المجتمع علي القاضي ومحكمته. فالمحاكم الشرعية تمكنت علي مدار قرون طويلة من إقامة العدل وإحقاق الحقوق ليس فقط بالتطبيق الحرفي للشرع، ولكن أيضا بتضمينها تلك الوظيفة الأساسية للشهود العدول. فهؤلاء الشهود أشعروا القاضي أن من يراقب أعماله ليس فقط الله في علاه بل أيضا هؤلاء الناس البسطاء الذين كُلّف للبت في قضاياهم. وبهذا المعني فإن المحاكم الشرعية كانت بالفعل محاكم الناس، وكان عندما قيل إن "العدل أساس الملك" لم يكن مقصودا بالعدل فقط تطبيق أحكام المحاكم بل شعور المجتمع بأن القضاء قضاؤهم شعور الناس بعدالتها وإقبالهم عليها نابعا ليس فقط من إيمانهم بأنها تستمد شرعيتها من الشريعة الغراء بل أيضا من رقابتهم هم عليها وإدراكهم أنها، في المقام الأخير، محكمتهم وليست محكمة الخليفة أو السلطان أو الوالي. أقول هذا الكلام بمناسبة السجال المثار حاليا حول حكم المحكمة الدستورية العليا بحل مجلس الشعب واللغط الدائر حول إذا ما كان هذا الحكم عادلا يجب تنفيذه أم جائرا يجب مقاومته. وأعتقد أن من أهم ما كُتب في هذا الموضوع مقال الصديق العزيز زياد بهاء الدين في "الشروق" يوم 3 يوليو. زياد بهاء الدين انتقد الانتقائية التي تعامل بها البعض مع حكم المحكمة وتسائل مستغربا "كيف نعيش في مجتمع يعتبر أن الأحكام القضائية اختيارية، ننفذ منها ما يعجبنا ويناسبنا ونتجاهل ما لا نحبه منها؟" واختتم مقاله بالقول إننا "لو ضربنا بالحكم الدستوري عرض الحائط فسنكون جميعا من الخاسرين". وأنا اتفق مع زياد بهاء الدين في ضرورة احترام أحكام القضاء وخاصة أحكام المحكمة الدستورية العليا، أعلي محكمة في المنظومة القضائية المصرية، فعدم احترام أحكام المحاكم يحول المجتمع إلي غابة البقاء فيها للأقوي وليس لصاحب الحق. ولكن الأهم من تطبيق أحكام المحاكم هو شعور الناس بالعدل، وهذا الشعور ينتفي إذا افتقدوا وسيلة كانت متاحة لأسلافهم تمكنهم من إخضاع المحاكم لرقابتهم، كما ينتفي إذا شعروا بأن توقيت إصدار الأحكام مريب، أو أن قرارات الإحالة من النيابة العامة تشوبها عيوب، أو أن وزير العدل من حقه أن يحيل قضايا بعينها لدوائر بعينها، أو أن النائب العام يتقاعس في التحقيق في قضايا معينة ويبدي حماسا بالغا في قضايا أخري. عندما قيل إن "العدل أساس الملك" لم يكن مقصودا بالعدل فقط تطبيق أحكام المحاكم بل شعور المجتمع بأن القضاء قضاؤهم، والقانون ينصفهم، والمحاكم تخضع لرقابتهم. أما إذا انعدم ذلك كله فسنكون جميعا من الخاسرين.