العبد لله من الذين تربوا علي احترام القضاء وتوقيره والوقوف بين يدي القاضي في مهابة، نشأت علي عدم مخالطة القضاة، ورأيتهم جيلا وراء جيل لا يؤمون مجالس العامة، ولا يحضرون المناسبات الاجتماعية إلا في أضيق نطاق خاص، ألفنا عدم ممارسة القضاة لأعمال تجارية بيعا أو شراء وكل ما يصنف ضمن " البيزنس "، كان حرص القضاة علي هذه التقاليد سببا مباشرا في توفير المهابة لهم في عيون الناس من المتقاضين أو غيرهم وجاء النص الدستوري مواكبا لهذه الحالة المستقرة مجتمعيا بقوله " القضاة مستقلون لا سلطان عليهم في قضائهم لغير القانون، ولا يجوز لأية سلطة التدخل في القضايا أو في شئون العدالة " وأكد قانون السلطة القضائية أنه لا يجوز للقاضي القيام بأي عمل تجاري كما لا يجوز له القيام بأي عمل لا يتفق واستقلال القضاء وكرامته. لكن.. رأينا بعض القضاة يشتغلون بالبيز نس والتجارة ولو من باب خلفي باسم الزوجة أو الأقارب، مع علم المتعاملين معهم بحقيقة الموقف وملكية القاضي للمال محل التجارة، وتنامت هذه الظاهرة بعض الشيء خلال السنوات الأخيرة. ولم تكن التقاليد الراسخة التي توارثها القضاة جيلا وراء جيل تقتصر فقط علي عدم الاشتغال بالتجارة وإنما تحظر عليهم بالضرورة عدم الاشتغال بالسياسة وعدم الإدلاء ببيانات صحفية، وحرصا علي استقلال القضاة واستقرار أحكامهم في ضمير الناس كان التقليد أيضا بعدم اشتغال القضاة بالسياسة، فمما لا شك فيه أن حياد القاضي هو ضمانة مهمة للمتقاضين وللمجتمع حكاما ومحكومين. ومن هنا نفهم النص القانوني " يحظر علي المحاكم إبداء الآراء السياسية، ويحظر كذلك علي القضاة الاشتغال بالعمل السياسي ". والحقيقة أن هناك اختلال في التعامل مع هذه الظواهر التي اخترقت جدار التقاليد القضائية، فمنذ فترة ليست بالقصيرة نقرأ مقالات في الصحف القومية الكبري لبعض المستشارين الجالسين علي منصة القضاء ويتصدون للفصل بين الخصوم في نزاعاتهم الحياتية اليومية, واللافت أن هؤلاء القضاة الكتاب يكتبون في كل ما يتصل بأمور المجتمع ومنها قضايا الحكم والسلطة، وينتصرون للسلطة في مسارها ومنهجها، وهو أمر مستنكر رغم عدم تعرض أيا منهم للمؤاخذة أو اللوم ولم نعلم أن أحدهم حصل علي ترخيص من مجلس القضاء الأعلي، بينما إذا أثار أخرون من رجال القضاء أمورا شديدة الوثوق بمجال القضاء والقضاة وكتبوا مطالبين بضرورة احترام رأي نادي القضاة في مشروع قانون السلطة القضائية قامت الدنيا ولم تقعد، وإذا طالب نفر من القضاة داخل ناديهم بضرورة التحقيق في بلاغات تتعلق بوقوع تجاوزات أثناء الانتخابات التشريعية انتفض مجلس القضاء الأعلي ووجه اللوم وحقق وحاكم. أيضا الظاهرة التي نحتاج لمعالجتها بطريقة مجتمعية حفاظا علي شموخ القضاء ونصاعة صفحة القضاة أنفسهم هي تصدي بعض الدوائر التي تنظر قضايا " رأي عام " و " سياسية " أو " عنف ديني " لإصدار بيانات صحفية ويعقدون مؤتمرات يدعون إليها وسائل الإعلام والفضائيات يتعرضون خلالها بالرأي لما حملته أوراق القضية، ويحملون علي المتهمين فيها بعبارات جارحة. رغم أن السبيل الوحيد الذي رسمه القانون ليعبر به عن رأيه في القضايا التي ينظرها هي منطوق الحكم الذي يصدره ثم أتاح له المشرع أن يتريث بعضا من الوقت يعد خلالها أسباب الحكم وهو جزء لا يتجزأ منه ومن ثم وجب للمتقاضي أن يلجأ إلي وسيلة الطعن المتاحة له قانونا أمام محكمة مغايرة وهي الغاية التي توخاها المشرع من تعدد درجات التقاضي. أما ما نشاهده من سنوات من مؤتمرات وتصريحات وبيانات لبعض القضاة هو الذي سمح أيضا للمتقاضين وغيرهم من التصدي للأحكام بالرأي في الصحف وإصدار بيانات صحفية مضادة، وقد قص علي بعض أصدقائي من الصحفيين القضائيين قصصا عجيبة عن قضاة يتصلون بهم بأنفسهم هاتفيا ليبلغوهم بمعلومات عن قضايا هامة ينظرونها أو للحضور وسماع البيان الصحفي الذي يدلي به بسبب نطقه للحكم في هذه القضية أو تلك. ربما يحتاج الأمر للتذكير.. أن العبد لله من الذين ظاهروا القضاة في انتفاضتهم بسبب تعرض اثنين من كبار المستشارين للمحاكمة التأديبية، ومن قبل في كل جمعياتهم العمومية العادية والطارئة التي انعقدت بسبب مطالبة القضاة بتعديلات جوهرية في قانون مباشرة الحقوق السياسية أو بسبب مطالبتهم بضمانات وصول صوت الناخب لمستحقه بتوفير قاض لكل صندوق، وأخيرا معركة قانون السلطة القضائية. لكني قلق ولا أستطيع أن أخفي هواجسي أو مشاعر القلق تلك التي انتابتني من تنامي مشاركة نفر من المستشارين والقضاة الذين نجلهم ونقدرهم تقديرا حقيقيا في أمور تصنف من صميم العمل السياسي، فقد تكررت مقالات في صحف معارضة أو مستقلة لأحد المستشارين الأجلاء والمرموقين الذين يتصدرون الواجهة في نادي القضاة بما يتضمن أراء واعتراضات في شئون سياسية، وحضوره أيضا اجتماعا في نقابة الصحفيين خصص للإعداد لمحاكمة شعبية للمسئولين عن اعتداءات يوم الاستفتاء الأسود. لست بحاجة إلي البوح بأسباب القلق والهواجس اندفاعا من حب جارف للمؤسسة القضائية ونادي القضاة وكل الذين نعلق عليهم أمالا كبارا في قيادة الأمة من خلال سيادة العدل وتحقيق أسبابه. بل إنني في حاجة إلي أن أفهم عن السبب الذي يمنعني من صف سيارتي بجوار وأمام نقابة المحامين في الوقت الذي تصطف سيارات السادة القضاة والمستشارين صفوفا متكررة ومخالفة أمام نادي القضاة، لقد كتبت منذ سنوات طويلة سطورا عن هذه الظاهرة المعيبة في حق القضاة أمام ناديهم لكن رئيس تحرير الصحيفة التي كتبت بها مقالي منع نشره آنذاك، وإذا كانت مواقفنا مع قضاتنا علي النحو الذي رأينا مؤازرة وتأييدا ونصرة فمن حقنا أن نحرص علي تنقية الثوب الأبيض الناصع من أي بقعة سوداء.