خلال أيام.. موعد إعلان نتيجة الصف السادس الابتدائي الترم الثاني (الرابط والخطوات)    ارتفاع تاريخي.. خبير يكشف مفاجأة في توقعات أسعار الذهب خلال الساعات المقبلة (تفاصيل)    «البيضاء تسجل مفاجأة».. ارتفاع أسعار الدواجن والبيض اليوم الإثنين 20 مايو في البورصة والأسواق    بوتين يصدر تعليمات سريعة لوزارة الطوارئ الروسية بشأن مروحية الرئيس الإيراني    البنتاجون: لا نتوقع أن تحل القوات الروسية مكان قواتنا في النيجر    الجزيري: مباراة نهضة بركان كانت صعبة ولكن النهائيات تكسب ولا تلعب    تعليق مثير للجدل من أسطورة الزمالك بعد التتويج بالكونفدرالية    بعد تهنئة للفريق بالكونفدرالية.. ماذا قال نادي الزمالك للرئيس السيسي؟    معوض: نتيجة الذهاب سبب تتويج الزمالك بالكونفدرالية    مصدر أمني يكشف تفاصيل أول محضر شرطة ضد 6 لاعبين من الزمالك بعد واقعة الكونفدرالية (القصة الكاملة)    محمد عادل إمام يروج لفيلم «اللعب مع العيال»    تسنيم: انقطاع الاتصالات السلكية واللاسلكية والراديو في منطقة سقوط المروحية    سوريا تعرب عن تضامنها مع إيران في حادث اختفاء طائرة «رئيسي»    الأميرة رشا يسري ل«بين السطور»: الضغط الأمريكي لا تأثير له على إسرائيل    آخر تطورات قانون الإيجار القديم.. حوار مجتمعي ومقترح برلماني    مصدر أمنى ينفى الشائعة الإخوانية بوجود سرقات بالمطارات.. ويؤكد: كذبة مختلقة    اتحاد الصناعات: وثيقة سياسة الملكية ستحول الدولة من مشغل ومنافس إلى منظم ومراقب للاقتصاد    سمير صبري ل قصواء الخلالي: مصر أنفقت 10 تريليونات جنيه على البنية التحتية منذ 2014    عمر الشناوي: «والدي لا يتابع أعمالي ولا يشعر بنجاحي»    الأميرة رشا يسري ل«بين السطور»: دور مصر بشأن السلام في المنطقة يثمنه العالم    دعاء الرياح مستحب ومستجاب.. «اللهم إني أسألك خيرها»    دعاء الحر الشديد كما ورد عن النبي.. اللهم أجرنا من النار    طريقة عمل الشكشوكة بالبيض، أسرع وأوفر عشاء    أول رد رسمي من الزمالك على التهنئة المقدمة من الأهلي    الهلال الأحمر الإيراني: حددنا موقعا آخر للبحث وفرق الإنقاذ بشأن مروحية رئيسي    استعدادات عيد الأضحى في قطر 2024: تواريخ الإجازة وتقاليد الاحتفال    مصدر أمني يكشف حقيقة حدوث سرقات بالمطارات المصرية    انتداب المعمل الجنائي لمعاينة حريق داخل مدرسة في البدرشين    جريمة بشعة تهز المنيا.. العثور على جثة فتاة محروقة في مقابر الشيخ عطا ببني مزار    نشرة منتصف الليل| تحذير من الأرصاد بشأن الموجة الحارة.. وتحرك برلماني جديد بسبب قانون الإيجار القديم    اليوم.. البنك المركزي يطرح سندات خزانة بقيمة 9 مليار    قبل إغلاقها.. منح دراسية في الخارج للطلاب المصريين في اليابان وألمانيا 2024    استشهاد رائد الحوسبة العربية الحاج "صادق الشرقاوي "بمعتقله نتيجة القتل الطبي    إعلام إيراني: فرق الإنقاذ تقترب من الوصول إلى موقع تحطم طائرة الرئيس الإيراني    الإعلامية ريهام عياد تعلن طلاقها    "علامة استفهام".. تعليق مهم ل أديب على سقوط مروحية الرئيس الإيراني    ملف يلا كورة.. الكونفدرالية زملكاوية    الشماريخ تعرض 6 لاعبين بالزمالك للمساءلة القانونية عقب نهائي الكونفدرالية    تعرف على أهمية تناول الكالسيوم وفوائدة للصحة العامة    كلية التربية النوعية بطنطا تختتم فعاليات مشروعات التخرج للطلاب    الصحة: طبيب الأسرة ركيزة أساسية في نظام الرعاية الصحية الأولية    حتى يكون لها ظهير صناعي.. "تعليم النواب" توصي بعدم إنشاء أي جامعات تكنولوجية جديدة    نقيب الأطباء: قانون إدارة المنشآت الصحية يتيح الاستغناء عن 75% من العاملين    خبيرة ل قصواء الخلالى: نأمل فى أن يكون الاقتصاد المصرى منتجا يقوم على نفسه    حظك اليوم برج الدلو الاثنين 20-5-2024 على الصعيدين المهني والعاطفي    منسق الجالية المصرية في قيرغيزستان يكشف حقيقة هجوم أكثر من 700 شخص على المصريين    اليوم.. محاكمة طبيب وآخرين متهمين بإجراء عمليات إجهاض للسيدات في الجيزة    اليوم.. محاكمة 13 متهما بقتل شقيقين بمنطقة بولاق الدكرور    عالم بالأوقاف يكشف فضل صيام التسع الأوائل من ذي الحجة    مسؤول بمبادرة ابدأ: تهيئة مناخ الاستثمار من أهم الأدوار وتسهيل الحصول على التراخيص    بعد الموافقة عليه.. ما أهداف قانون المنشآت الصحية الذي أقره مجلس النواب؟    ارتفاع كبير في سعر الحديد والأسمنت بسوق مواد البناء اليوم الإثنين 20 مايو 2024    أيمن محسب: قانون إدارة المنشآت الصحية لن يمس حقوق منتفعى التأمين الصحى الشامل    تقديم الخدمات الطبية ل1528مواطناً بقافلة مجانية بقلين فى كفر الشيخ    أتزوج أم أجعل أمى تحج؟.. وعالم بالأوقاف يجيب    هل يجوز الحج أو العمرة بالأمول المودعة بالبنوك؟.. أمينة الفتوى تُجيب    نائب رئيس جامعة الأزهر يتفقد امتحانات الدراسات العليا بقطاع كليات الطب    «المريض هيشحت السرير».. نائب ينتقد «مشاركة القطاع الخاص في إدارة المستشفيات»    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



» المسودات « بين الذكري والقيمة
نشر في أخبار الأدب يوم 25 - 08 - 2018

منذ أدركتُ الحياة، وجدتني في منزل مليئ بالأوراق المخطوطة، لدرجة تخيلتُ أنه لا يوجد مسكن يخلو منها، لكن المناوشات شبه المستمرة بين أمي وأبي بسببها، جعلتني أستفسر حول الأمر، فعلمت أن ذلك لا يحدث إلا في بيوت الكُتّاب والمبدعين. أمي تحب الأدب وتؤمن بأهمية الثقافة، لكنها ترفض الاستسلام أمام ما تسميه »الفوضي»‬، ولا تقنعها أقوال البعض بأن تلك ضرورات يفرضها الإبداع.
تصاعدت الأمور مع امتهان أخي الأكبر للكتابة، ورغم أنه متخصص بمجال الحاسب الآلي، إلا أنه ورث حب القلم ولم يستغنِ عنه يوما، ولا عن أي من أوراقه. أما أنا فعلي العكس؛ لم أعتد علي الخط بالقلم كثيرا، وكان حاسوبي هو الرفيق الدائم لي، لكني منذ فقدت أبي؛ أدركت قيمة تلك المخطوطات، التي ظننت أن أهميتها تنتهي مع كتابة النص إلكترونيا ونشره، صرت أبحث عن كل ورقة تحمل كلماته المرسومة لأحتفظ بها.
بالنظر إلي تلك الكتابات، سواء الورقية الخاصة بأبي وأخي، أو الإلكترونية الخاصة بي، أجد أن دائما هناك اختلافًا، ولو بكلمات قليلة، بين النسخة الأولي، والأخيرة المنشورة. حتي هذه اللحظة؛ بالتأكيد ليست تلك الصورة الأولي لتلك المقدمة، فقد سبقتها محاولات أخري، ورغم عدم اعتماد أي منها، إلا أنني لم أحذفها أو أتخلي عنها، بل تركتها في ملف آخر، ربما لن أعود له يوما، لكن وجوده يشعرني بالراحة.
في الوقت الذي تظل غالبية مخطوطاتنا العربية حبيسة الأدراج، وأحيانًا في عداد صناديق المهملات؛ تستعد اسكتلندا للاحتفال بعد أربع سنوات بالذكري الأربعمائة لتأسيس متحف الكُتّاب (عام 1622) المهتم بجمع متعلقات ومقتنيات الأدباء منذ سنوات طويلة، ويولّون المخطوطات الأولي أو »‬المسودات» اهتمامًا خاصًا لقيمتها البحثية الكبيرة. تلك المخطوطات التي تحتل مكانة مركزية في معظم متاحف الكُتَّاب الكبار حول العالم، وقد سبق للزميلة الروائية منصورة عز الدين أن أشارت في مقالها »‬ما تحكيه المسودات» المنشور منذ أسابيع قليلة إلي تجربتها في متحف كافكا.
الحاسب الآلي لغة العصر
تتواجد تلك المسودات - علي الأغلب - إما لدي الكُتّاب أو ورثتهم، أو دور النشر التي أصدرت الطبعة الأولي من العمل. في دار مصر العربية؛ يؤكد مديرها وائل الملا أن الأعمال المخطوطة كانت تعود لمؤلفيها بعد جمعها، أما الآن فلم تعد هناك مخطوطات أو أوراق، كل شيء يتم عبر الإيميل، بداية من إرسال الكاتب لعمله، ومرورا بإجراء التعديلات أثناء عملية النشر، والتي لا تكون بنسبة كبيرة، ومعظمها في الكتابات البحثية، كإضافة أو حذف فصل.
الحال نفسه في دار التنوير، اندثر استخدام الورق سوي في الطباعة، يقول شريف جوزيف رزق، مدير الدار بالقاهرة: ال »‬وورد» والانترنت غيّرا من شكل عملية النشر بنسبة كبيرة، فالكتب نتعامل معها إلكترونيًا، أما الملفات القديمة التي تسبق التطور التكنولوجي، فنجمعها مرة أخري لو هناك حاجة لإعادة طباعتها. في كل الأحوال هناك حافظة لكل عمل تتضمن كل ما يخصه منذ نسخته الأولي وكتابة العقود حتي طباعته ونشره في نسخته النهائية، نحاول الآن الاحتفاظ بتلك الملفات بشكل دائم من خلال خدمة جلوب بوكس Globe books.
مخطوطات سبعينية
أما دار العربي للنشر والترجمة؛ فقد مكّنهم امتلاك الحاسب الآلي منذ ثلاثين عامًا من الاحتفاظ بالكثير من مسودات الأعمال المكتوبة بخط الأدباء، التي لم يستردها أصحابها بعد جمعها وطباعتها، مع الوقت تراكمت وأصبحت الدار في حاجة للانتقاء من بينها، يقول شريف بكر: نتخلص من الأشياء التي لن نحتاجها، فنخرجها كورق »‬دشت»، يتحكم في ذلك أهمية الكتاب والمؤلف، والخط المكتوب به العمل، أحيانًا يكون غير مقروء، وأحيانًا يكون شكل الكتابة في حد ذاته جميل ويشجِّع علي الاحتفاظ بالمخطوط.
من الأعمال التي يملك بكر مسوداتها، نسخة من كتاب »‬نظر» لمحيي الدين اللباد، تتضمن تصحيحاته وتعليقاته وملاحظاته، يضيف: وجدت لدينا أيضا العمل الداخلي الخاص بدار الفتي العربي، التي كانت في لبنان بالسبعينيات، حيث كان والدي المدير العام للدار حينها، من بين المسودات مثلا؛ أفكار السلاسل الخاصة بهم وآلية تقييم الأعمال التي تقدَم في كل منها والدورة المستندية ودورة النشر وخطط ومقايسات المطابع وخطط التسويق، كلها توضح كم كانوا احترافيين، ربما أكثر من الآن.
»‬ألفريد جاري» كاتب روائي ومسرحي ظهر مع نهاية القرن التاسع عشر، وتوفي في الثلاثينيات من عمره، لم يُلتفَت إلي كتاباته وتُكتشَف أهميتها إلا بعد مرور ما يقرب من المائة عام، وفي عالمنا العربي يوجد بالطبع من لم يُنفَض عنهم الغبار بعد، أو نحتاج لإعادة نشر أعمالهم في اللحظة الآنية، يقول بكر: أخرجنا بعض الكتب وأعدنا جمعها ومراجعتها لنعيد نشرها مرة أخري، لأن هناك أشياء قد تهم الجيل الجديد ولم يتسني لهم فرصة قراءتها، تحتاج فقط لإعادة طباعة في شكل مختلف يلائم العصر، أما المضمون فهو جيد جدا ويخلو من الأخطاء، لا يحتاج لتحريره مرة أخري كما يحدث مع بعض الأعمال الآن.
في بعض الحالات تستكتب دار العربي بعض المؤلفين، خاصة في الأعمال المترجمة، آخرها رواية »‬كرافت» ليوناس لوشر، التي اقتربت ترجمتها من الانتهاء، ومن المنتظر أن يصل مؤلفها إلي مصر في 17 سبتمبر القادم، ليشارك في العملية التحريرية لها، استعدادًا لنشرها في نهاية شهر أكتوبر، قبل معرض الشارقة، يستطرد بكر: هذه - في ظني - أصعب رواية ننشرها، وهي حاصلة علي جائزة أفضل رواية في سويسرا 2018، نصّها صعب جدا، لذلك اعتبرناها تحديًا لنا كدار نشر، وأخبرت أسرة التحرير بذلك.
أشتاق للحبر وكراسّاتي كبيرة الحجم
يحِّن الكاتب إبراهيم عبد المجيد للمسودات الورقية، حينما كان يستخدم الحبر في الكتابة، فمنذ أقل من عشر سنوات كانت الكراسات كبيرة الحجم هي الحاضنة لمؤلفاته، يكتب علي صفحاتها اليسري بالقلم »‬الفلوماستر» الأسود، ويصحّح علي الصفحة اليمين، يقول: كنت سعيدًا جدًا بهذا الأمر، واحتفظت بالمسودات فترة طويلة، لكن مع الزمن والانتقال من مكان لآخر اختفت وضاع الكثير منها، إلا أنني احتفظت بمسودات »‬لا أحد ينام في الإسكندرية» و»‬طيور العنبر» كنوع من الذكريات الجميلة، وأذكر أن مصمم غلاف النسخة الإنجليزية من »‬طيور العنبر» استعان بجزء من تلك الأوراق في التصميم.
يستطرد عبد المجيد: عندما صرت أكتب علي »‬اللاب توب» ذهبت حلاوة الورق، وجاءت في المقابل حلاوة من نوع آخر، حيث يمكنني الحذف والتصحيح والبحث عن أي كلمة بسهولة، فكل وسيلة لها جمالها، لكن تظل المسودات شيئًا جميلًا جدًا، يهتمون بها بالخارج، ففي تاريخ الأدب العالمي يحتفظون بالمسودات وأحيانا يقيمون معارض ويبيعونها بآلاف الدولارات، لكننا في مصر يمكن أن نبيع الكاتب نفسه أسهل من بيع الروايات.
النسخ الأولي من مخطوطات روايات عبد المجيد لا تختلف كثيرا عن المطبوعة، فغالبية التعديلات تكون لغوية أو نحوية، وربما تغيير كلمة أو جملة علي الأكثر، بخلاف روايتين، يوضح: عندما كتبت »‬عتبات البهجة» في الجانب الأيسر كانت كلها بضمير الغائب، وصرت أصحح فيها مرة واثنين وثلاثة علي الجانب الأيمن، غيّرتها لضمير المتكلم فاختلفت تماما. ومثلها رواية »‬هنا القاهرة»، لكني لم أكن قد انتهيت منها بعد، عند نصفها حوّلتها لضمير المتكلم أيضًا، لكن ذلك كان إلكترونيًا وليس ورقيًا.
استبدلت الرواية بالكامل
أما الكاتب الشاب محمد الفخراني فقد وصل الأمر معه ذات مرة أن غيّر الرواية بأكملها، وهي »‬ألف جناح آخر للعالم»، يقول: لديّ نسخة أخري من الرواية مختلفة تمام عن المنشورة، المشترك بينهما فقط الفكرة والعنوان. بعدما انتهيت من كتابتها ورُحت أبحث عن دار نشر لطباعتها، فتحت »‬الكمبيوتر» ذات صباح ووجدتني أقول أن هذا ليس ما وددت نشره، وفي هذه اللحظة قررت أن أكتب الرواية مرة أخري لأنتهي منها في العام التالي في نفس الشهر، سبتمبر 2015. كانت الكتابة أسهل، ولم أحزن علي السنوات التي ضاعت مع الرواية الأولي.
يضع الفخراني ضمن قائمة أحلامه الشخصية، التي لا يعلم إن كان سيحققها أم لا، أنه ربما ينشر نسختيّ الرواية في كتاب واحد يوما ما، فهو يحتفظ بجميع الملفات علي حاسبه، إلي جانب الأوراق الخاصة بكل رواية، يقول: أحيانا تكون المسودة الأولي بدون أي تعديلات أفضل من الكتاب المطبوع الذي خرج بعد خمس مسودات، ويقول الكاتب لو عاد بي الزمن لوضعت المسودة الأولي بدون إضافة أو حذف، فهي أول صياغة وأول إحساس، وهذا حدث معي في »‬مزاج حر»، لأسباب كلها فنية، فهي العمل الذي شهد التغيير الأكبر في نسخته الأخيرة قبل الطباعة، حيث أضفت مقطعًا كاملًا، علي عكس المعتاد، حيث تكون معظم تعديلاتي في النحو.
أحتفظ بمسودات جميع رواياتي عدا الأخيرة
مثله؛ الروائي أشرف العشماوي، فقد شهدت روايته الأخيرة »‬سيدة الزمالك» التغيير الأكبر خلال مسيرته الإبداعية، حيث كتب أغلبها بصيغة الراوي العليم أولا ولم تعجبه علي الإطلاق، فقام بإعادة كتابتها مرة ثانية بطريقة الأصوات لتظهر علي الشكل الذي نُشرَت به، لكنها أيضًا الرواية الوحيدة التي لا يملك لها مسودة ورقية، لأنه كتبها مباشرة علي الحاسب الآلي، ولا يعرف السبب في هذا التحول مؤخرا، يقول: لازلت أحتفظ بمسوداتي الأولي، لأنني أكتب أولا علي ورقة بيضاء بقلم رصاص ثم أقوم بنقل ما كتبت علي جهاز »‬الكمبيوتر» بعد ذلك، وبالطبع أقوم بإجراء تعديلات أثناء عملية النقل، لديّ أكثر من مسودة لكل رواية قديمة، عدا رواية »‬سيدة الزمالك».
تخضع مسودة كل رواية للعشماوي؛ للعديد من المراجعات والتنقيح والتعديل والحذف والإضافة، فهو لا يكتب إلا بعد تمام البحث والمعايشة، يبدأ أولًا بأفكار عريضة أشبه بعناوين رئيسية ثم يضع عبارات مختصرة أسفلها عن المكان والزمان وتحرُّك الشخصيات في الرواية، قبلها يكون قد انتهي من رسم كل شخصية في ملف منفصل يكتب فيه كل ما يتعلق بها، كأنها قاعدة بيانات عن حياة الشخصية الروائية، وقد لا يستخدمه بالكامل لكنه موجود تحت يديه، يستطرد: عندما أبدأ في كتابة الرواية لا ألتزم أبدًا بترتيب الأحداث والفصول التي تظهر في الشكل المطبوع النهائي الذي يقدَّم للقارئ، فمن الممكن أن أكتب النهاية أو فصل قبل الأخير ثم أكتب أول فصل أو الخامس وهكذا، أعمل أولًا مثل المخرج وبعدها أتحول إلي مونتير أقوم بعمل مونتاج للرواية ثم تقطيع المشاهد والفصول وترتيبها بالصورة التي أريد من القارئ أن يقرأ بها روايتي، وبالتالي فالرواية عندما تظهر منشورة تختلف كثيرًا عن المسودة الأولي، وتقترب بذات القدر من المسودة الأخيرة حتي يكاد الفارق أن يكون غير ملحوظًا.
الحذف أهم من الإضافة
يمر الأديب السكندري مصطفي نصر في الكتابة - أيضا - بعملية مشابهة، وهي شاقة من وجهة نظره، خاصة في مجال الرواية، رغم أنه المجال المفضل له بين مجالات كتابته الأخري كالقصة القصيرة والسيناريو وقصص الأطفال والمقالات، يقول: تبدأ عملية كتابة الرواية بالتحضير لها - وهذه أطول فترة وأصعبها، وأجملها في نفس الوقت - فالكتابة الآن لابد لها من تحضير معلومات، وأجملها لأن الأحلام تكون عالية جدًا وقتها، وأظل أبحث عن البداية، خاصة عندما يكون الموضوع تاريخي، ففي رواية »‬الهماميل» كتبتُ عن فترة الحرب العالمية الأولي التي بدأت 1914، لكنني بدأتُ من فترة حكم السادات، وجاءت فترة الحرب الأولي وسط الأحداث، لكن في يهود الإسكندرية تتبعت الأحداث طبقًا لسياقها الزمني، فبدأتُ منذ فترة حكم الوالي سعيد، ثم فترة الحرب العالمية الثانية وفي الجزء الأخير بعد اتفاقية كامب ديفيد.
ذكرت الكاتبة الإنجليزية »‬مارجري ألينجهام» في حياتها أنها تكتب كل عبارة أربع مرات، مرة لكي تسجل المعاني التي تريدها، وأخري لكي تضيف إليها شيئًا نسيته، وثالثة لكي تزيل منها كل ما يبدو أنه لا لزوم له، والرابعة لكي تجعل العبارة كلها تبدو وكأنها فكّرت فيها لتوها، أما مصطفي نصر فيكتب الفصل أحيانا أكثر من عشر مرات، لتغيير اللغة، والحدث، وربما تغيير الأسماء أيضا. يضيف: كنت - في الماضي - بعد أن انتهي من كتابة الرواية علي الورق ابدأ في نقلها علي الآلة الكاتبة، فأترك عملي في الشركة التي كنت موظفًا بها وقتها، أكتفي باستلام الأوراق ووضعها في أدراج مكتبي، وأبحث عن آلة كاتبة جيدة وأكتب عليها، وأبقي في القصر الذي اتخذته الشركة إدارة لها، لأكتب الرواية، وهو مكان مهجور وبعيد عن المصنع، وعادة ما أكون في هذا المكان وحدي في المساء، وأعود للبيت، أتناول طعامي ثم أستكمل الكتابة. أترك الرواية مدة طويلة، ثم أعود إليها، لأنني عن تجربة، فور الانتهاء من كتابة الرواية، يصعب حذف شيء منها، فكل ما فيها غالي عليّ وصعب حذفه، لكن بعد تركها فترة أستطيع الحذف منها، والحذف في رأيي أهم من الإضافة، فقد كتبت رواية »‬الجهيني» واشتركت بها في مسابقة الرواية بنادي القصة، ولم أفز، ثم أطلعت علي تقارير المحكمين، وجدت أحدهم يقول ما معناه إن الرواية مزدحمة بالشخصيات. وبالفعل أعدت كتابتها، وحذفت منها أسرة كاملة، فأفاقت الرواية بعدما كانت مختنقة بالشخصيات، واشتركت بها في مسابقة نادي القصة ثانية، ففازت بالجائزة الأولي.
يكتب نصر - الآن - مباشرة علي الحاسب الآلي، ويرفض الآراء التي تنتقد الكتابة رأسا علي »‬الكمبيوتر» من كُتَّاب كبار، قائلًا: أستاذي خيري شلبي رفض هذا، وقال إن روايات ماركيز التي كتبها مباشرة علي الكمبيوتر، أقل من رواياته الأخري، وقال آخر، إن هناك صلة بين قلب الكاتب وقلمه. أعتقد أن هذا ليس صحيحًا، فالصلة بين القلب والقلم يمكن أن تكون بين قلب الكاتب والكمبيوتر أيضًا. تلك الآلة سمحت لنا بأشياء كثيرة، أتذكر أنني تعذبت في إحدي الروايات لكي أغيّر اسم شخصية، حيث كانت الرواية مكتوبة بالآلة الكاتبة، أما الحاسب الآلي فيكفي أن تعطيه أمرًا بالتغيير ليفعل ذلك فورًا. لقد وفّر لنا الجهد.
يعجبني خطَي وتنسيقي للقصيدة
علي العكس تأتي طقوس الشاعر أحمد سويلم في الكتابة، فهو لا يستخدم الحاسب الآلي وإنما يكتب علي ورق غير مسطّر بقلم أسود، يقول: يعجبني خطي وتنسيقي للقصيدة بعد أن أنتهي منها. كنت فيما مضي أرسل قصائدي - باليد أو بالفاكس - للنشر، سواء في الصحف والمجلات أو دور النشر، بعد أن أصوِّرها صورة أخري لتبقي معي، أما الآن فأنا أكتب قصائدي أو دراساتي الأدبية والنقدية بخط يدي وأدفعها إلي من يكتبها علي الحاسب الآلي وأراجعها ورقيًا ثم أدفع بها إلكترونيًا إلي النشر وأحتفظ بصورة أخري ورقية، وأحرص علي مراجعة الديوان قبل طبعه لغويا وفنيا وتنسيقًا، بحكم خبرتي في مهنة النشر.
لكنه يتفق مع نصر؛ في انصرافه عن القصيدة بعد الانتهاء منها، لبعض الوقت، من أجل العودة إلي حالة القارئ أو الناقد، ثم يعود إليها لينقّح ويحذف ويضيف، وبعد ذلك يعيد كتابتها ويمزِّق ما سبق من الكتابة لتكون هذه الصورة الأخيرة هي النهائية، وفي بعض الأحيان يفعل ذلك أكثر من مرة حتي يستقر علي الصورة التي يستريح إليها. يضيف: إذا قُدِّر للقصيدة أن تُنشَر، وقرأها ولو قارئ واحد، صارت مقدسة ولا أغيِّر فيها شيئًا، أما إذا لم تُنشر وقررت في وقت ما أن أضعها في ديوان، فيجوز لي أن أعيد كتابتها إذا احتاج الأمر إلي ذلك أو أضعها كما هي إذا كانت ملائمة. وحقيقة؛ كثير من القصائد لا أضعها في ديوان حال كتابتها، ولهذا فإذا وقعت في يدي قصيدة قديمة ورأيت من الملائم أن أنشرها اليوم، فعلت ذلك راضيًا، وإلا أبقيها في أرشيفي، ربما تلائم غدًا ديوانًا قادمًا آخر، فالقصيدة لا تموت، ولابد أن يأتي الوقت لعرضها علي القارئ، ومع ذلك فهناك قصائد - بدايات - لم تُنشَر، ولا أعود إليها لتجاوزي تجربتها بكثير. فأنا أضع لنفسي قاعدة فنية مهمة تقول: إن القارئ يريد أن يعرف أين أنا اليوم أكثر من رغبته في معرفة أين كنت.
نسبة التغيير في قصائد سويلم ضئيلة، كتبديل مفردة بأخري أو حذف سطر زائد أو إضافة صورة يكمل بها صور القصيدة، وهذا التغيير يكون شكلي إلي حد كبير ولا يمس جوهر الفكرة التي تنطوي عليها القصيدة، إلا أن العملية الأكثر مشقة بالنسبة له هي اختيار القصائد وترتيبها في ديوان، يقول: إنه عمل شاق، يخضع لذوق خاص، كما يخضع أيضًا إلي تمثُّل القارئ الذي سوف يقرأ الديوان وما إذا كنت أستطيع أن أجذبه إلي عالمي منذ البداية إلي النهاية، وكيف أجعله راضيا عن مسيرتي، خاصة أنني علي يقين من أن الديوان الجديد ينبغي أن يتجاوز ما قبله بأي درجة.
حذفت ثلاثة فصول من »‬شوق الدراويش»
لم يكن الروائي السوداني حمور زيادة في البداية يحبِّذ التعديل علي الكمبيوتر، لكنه بعد جهد توصل لمعادلة مريحة، أن يكتب المسودة الأولي باليد دون توقف لتعديل أي شيء، وإنما يكتب كما يأتي علي رأسه، بفجوات وبأخطاء في الأسماء وأحيانا بتناقض أحداث، ثم يقوم بتبييضها علي الكمبيوتر بكتابتها حرفًا حرفًا، فيجتهد في تجويدها وسد ثغراتها وتشذيبها. المرحلة التالية لانتهاء الكتابة علي الكمبيوتر لا تتوقف، وإنما تستمر طالما لم يحس بالرضا عن النص، فيظل يعدِّل جملة هنا أو يحذف حرفًا هناك. يقول: المطبوع غالبًا لا يحمل تغييرات كثيرة عن المسودة الأخيرة، لكنه بالتأكيد يختلف كثيرًا عن أول مسودة، هناك أحداث وشخصيات كاملة يمكن أن تُلغي، ويمكن أن تُضاف شخصيات وأحداث. أتذكر أن أكبر نسبة تغيير قمت بها كانت في رواية »‬شوق الدرويش» حيث حذفت ثلاثة فصول كاملة، وقمت بدمج فصلين آخرين في مواضع أخري. إعادة الهيكلة هذه اقتضت ما يشابه إعادة الكتابة من جديد. بينما تقريبًا في »‬النوم عند قدمي الجبل» - التي صدرت بعد شوق الدرويش - لم أُجرِ تعديلات تُذكَر علي المسودات، المطبوع مقارب لما كُتب في المسودة الأولي إلا بعض تعديلات طفيفة.
تلك المسودات الأولي؛ أغلبها تائهًا بين كراتين الكتب والأدراج القديمة، لكن زيادة لا يستطيع الجزم، موضحا: لا يمكنني القول بأنها ضاعت لأني علي يقين أنها مازالت في المكتبة، ولا أقدر أن أقول أني أحتفظ بها، لأني لا أعرف مكانها بدقة.
لا جدوي من الاحتفاظ بالمسودات
أما الأديب اللبناني شربل داغر فلا يملك الكثير من مسودات ما كتب، لأن القسم الغالب من كتبه، بعد دخوله إلي عالم الحاسوب في العام 1987، انتقل إلي العالم الإلكتروني، ولم يعد نافعًا بالتالي، ولا دالًا الاحتفاظ بمسوداته. يضيف: حتي كتبي الأولي لم يبقَ لي شيء من مسوداتها، لأنني كنت أقيم في باريس، حينها، وأرسلتُ مسودات الكتب إلي بيروت، من دون أن تعيدها دور النشر إليّ. أما في العهد الإلكتروني فقد بات الاحتفاظ بمسوداته غير ممكن، لأنني لا أتواني عن العمل فيها تنقيحًا وشطبًا وإضافة، فيما تَظهر الصفحة الإلكترونية نظيفة، من دون تشطيباتها وتعديلاتها وعملياتها المادية. هذا ما حاولتُه في قصائد، فاحتفظت بعدة نسخ للقصيدة الواحدة، لكنني ما لبثت أن أتلفتها لعدم جدوي الاحتفاظ بها. لهذا يمكن القول إن »‬علم المسودات الكتابية»، أو »‬علم تكوين النص» بات صعب الإمكان إلكترونيًا، ومهدَّد حتمًا، لكن له أن ينتقل وأن يعزز علمًا آخر، شريكًا في درس النص، وهو ما يمكن أن نسميه ب »‬علم التطريسات».
لكن داغر يحتفظ بمسودات أخري، بدفاتر عديدة رافقتْه - ولا تزال - في عدد من أسفاره، إذ يعمد إلي تدوين لحظات، وتعابير، وانفعالات، ومشاهد، وألوان، فضلًا عن عناوين بريدية أو إلكترونية، أو عناوين كتب، أو »‬رؤوس أفكار» وغيرها الكثير. إلا أن التجوال فيها صعب في غالبه، إذ إن بعضها موصول بسياقه أو حادثته، ما يعد جوابًا أو تواصلًا، ولكن من دون الجهة الأخري، ما يعتبر حوارًا مقطوعًا في أحوال كثيرة. بالإضافة إلي مسودات أخري، يعود إليها، وهي ما تبقّي في أرشيف العائلة، أو في أرشيفه الخاص، من صور فوتوغرافية، ولا سيما بالأبيض والأسود، في سنوات العمر الأولي.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.