احمد الخميسي بعد ثورة يوليو دخل نجيب محفوظ في بيات شتوي. صحيح أنه كان يكتب للسينما، ولكن فيما يتعلق بمجاله الأساسي، القصة والرواية، توقف تماماً، لأكثر من خمس سنوات. أديب نوبل وجد نفسه في عالم جديد صنعه الضباط الأحرار، في حدث استثنائي هو ثورة يوليو، وهكذا قرر التوقف وإعادة حساباته. يعلق أحمد الخميسي "كان يريد استيعاب الحدث، فقد زال العالم القديم الذي كان ينتقده"! ما جري لنجيب محفوظ يبدو قابلاً للتكرار مع البعض، في أعقاب ثورة يناير، فكثير من الأدباء الآن أوقفوا مشاريعهم. كثير منهم يحاولون فهم ما يجري حولهم في المشهد السياسي بسرعة مُرعبة، وحتي كتاباتهم تحوّلت إلي مراجعات يومية للحدث. أصبحت السياسة رقم واحد، وبعدها يأتي الكلام عن الإبداع، وحتي علي المستوي الكمي فإن ما يصدر من أعمال إبداعية، بعد يناير، أقل بكثير مما كان يصدر قبلها، وهناك من يري أن الثقافة عموماً، لا الإبداع فقط، تراجعت في أعقاب يناير. حسنٌ. يوافق محمد المخزنجي علي تلك الملحوظات. صاحب "رشق السكين" شعر بتفاؤل عظيم بعد "يناير"، فقد جاءت الفرصة التي اطمأن من خلالها علي مستقبل الوطن. كان هذا قبل التراجع المدوي والخسارات الكبيرة التي لحقت بالثورة. قرر إخراج أوراقه القديمة، ومشاريعه المؤجلة ليكملها. يُعلّق "وفجأة دخلنا في المفرمة النفسية، وبالطبع وأنت في تلك الحال لا يمكنك أن تكتب بصفاء أدباً، أو تصنع فناً. الأدب سجل المشاعر، وحتي تمسك بالمشاعر فلابد من الصفاء". لو صح أن نقول إن هناك جهازاً إبداعياً، بحسب المخزنجي، فإنه لا يرتبط فقط بالقدرات التعبيرية لصاحبه، ولا بقدرته علي صياغة اللغة، والمشاهد، والرؤي. يضيف "هناك عنصر الإحساس، وأنت تكتب تحتاج إلي التأمل، والتأمل يحتاج بدوره إلي الطمأنينة، وفي وضع مضطرب، مثل الذي نحياه، لا يمكنك أن تكتب مستريحاً"، ويستدرك "نعم.. يمكنك أن تكتب عن المأساة، ولكن لن تكتب عنها وأنت تعاني الألم، وكثير من الأمور تتنازعك. أنت في قلب معركة، لا يمكن فيها إلا أن تكتب قصيدة حماسية أو نشيداً، ولكن لن تكتب مقطوعة فنية، تتحدث عن الجمال ودراما الحب". يري المخزنجي أن الأدباء المصريين معذورون "أنا شخصياً عندي تشوّق وجوع كبير للأدب، كتابة وقراءة، ولكن لا أستطيع الاقتراب منه نفسياً. أشعر أنه ترف غير لائق، فأنت إزاء وطن تهتز سفينته، وتحلم بالوصول إلي شاطئ الأمان قبل أن تغرق، وهكذا من الطبيعي أن يتراجع الإبداع في فترة انتقالية قلقة".هناك سبب جديد يضيفه صاحب "وقائع غرق جزيرة الحوت". يقول "الفن بدا مهدداً بشدة ليس من الوضع السياسي، ولكن من الهجمة الظلامية تحت قناع الدين، وأمامها تشعر أن الأدب مقضي عليه. كان هناك إنتاج في فترات القياصرة. الأدب كإنتاج إنساني لم يكن مهدداً. التهديد كان علي المستوي السياسي، ومن حسن الحظ أن أقنعة الزيف سقطت. الكذب والجشع السياسي جعلا الهجمة الظلامية تنحسر. كان هناك خوف من تغير المقومات الاجتماعية عند الأمة، فالصحراء ستحل عليك، وهكذا دخل الأدب خباءه ليترقب كيف ستسير الأحوال، وأتصور أنه بعد انكشاف الأقنعة سينفتح المجال أمام الأدب والفن، خصوصاً بعد أن يستعيد صفاءه". الكاتب والمواطن أحمد الخميسي يعود إلي ضرب مثال جديد بتوفيق الحكيم، الذي كان عليه أن يجد صيغة جديدة للكتابة بعد موجة التأميمات التي اجتاحت البلد، ومنها تأميم البنوك، فكتب "بنك القلق"، وهذا ما سيجري مع كثير من الكتّاب الحاليين بعد هزة وخلخلة تاريخية هي ثورة يناير. يقول "أغلب انتباه الناس الباطني يلتفت إلي محاولة فهم تلك اللحظة، وما يجري يحول منطقة الوعي الأدبي بالعالم إلي الوعي السياسي"، ويضيف "كانت هناك بعض المشاريع الأدبية تصلح قبل الثورة، لأنها احتجاج علي ما كان، وقد انتهت صلاحيتها بعد الثورة". وبحسب الخميسي فإن داخل كل مبدع كاتباً ومواطناً "والذي يتقدم هو المواطن. بهاء طاهر كان ينزل التحرير. المواطن إذن في الصدارة". مؤلف "قطعة ليل" يرفض القول بأن ما يجري هو تراجع أو توقف للثقافة "سمّه شللاً أدبياً. لو كان اتجاه الضربة الثورية واضحاً كان سيحسم أفكار وعواطف الكتاب، ولكن الضربة محاطة بالغموض، ولا أحد يعرف مصيرها، غير أن ذلك لن يدوم، والكاتب الحقيقي لن يلهث وراء استرضاء تلك اللحظة، وسيُكمل". سلوي بكر تبدأ مثل الخميسي من توصيف الثورة. "ريح عصفت بكل شيء". التوصيف يبدو لازماً لفهم الحال التي أصابت المبدعين "لا تتوقع رد فعل سريعاً منهم. الكتّاب يحتاجون إلي وقت حتي يهضموا التجربة، وأتصور أنه بعد سنوات ستشهد مصر أدباً عالياً يعبّر عن الثورة". أقول لها إن السؤال ليس عن الإبداع الخاص بالثورة، ولكن عن توقف أو تراجع الإبداع والثقافة بعدها، فتقول "المبدعون أطراف فيما يجري. الإبداع يحتاج إلي (مود) وتركيز وتأمل وتفرغ، وبالطبع في أحوال مثل التي نعيشها لم يتوفر لهم ذلك، ومن البديهي أن يقل المنتج الإبداعي والثقافي". أزمة اختراع اللغة سيد البحراوي يعترف بأن التراجع حدث للنقد والرواية "ولكن الأمر غير صحيح بالنسبة للشعر والقصة. هناك تدفق للشعر تحديداً بعد الثورة، والقصة استمرت علي منوالها القديم". يري صاحب "النقد الثقافي" أن الموجة الانفعالية كانت طاغية في بدايات "يناير"، ثم بدأ القصاصون في إنتاج نماذج جيدة عن الثورة، ويضيف "حتي أصبحنا أخيراً أمام كتابات قصصية ناضجة وعالية". فيما يتعلق بالرواية فإنها تحتاج إلي نفس طويل، بحسب البحرواي، أما النقاد فلا مجال أمامهم الآن "الإعلام لا يعطي الفرصة للنقد الأدبي، ومؤخراً نشرت الأهرام حواراً معي حول النقد، وهو ما أثار استهجان الناس، الذين تساءلوا باندهاش كيف أشارك في حوار عن شيء غير سياسي؟". أسأله: وفيما يتعلق بالثقافة بشكل عام.. هل تري أنها تراجعت؟ ويجيب "الثقافة علي مستوي الوزارة ومؤسساتها طبعاً متراجعة، فلا يوجد وزارة للثقافة أصلاً، وعلي مستوي إسهام المثقفين هناك تشتت"، وينهي قائلاً "أما علي مستوي الإبداع فهناك إبداع موجود، يمكن أن يُمثل انطلاقة، بالإضافة إلي الجرافيتي والموسيقي والغناء". ما انتهي إليه البحراوي تبدأ منه سامية محرز "رغم تراجع القصة والرواية فإن الثورة فجّرت آليات ومجالات إبداع جديدة، أخذت الصدارة، واستطاعت أن تواكب العمل الثوري، بشكل فوري، ومنها الجرافيتي، والشعر، والهتافات، والنكت المبهرة، وشغل الفيسبوك، مثل الجمل شديدة العادية، التي تحمل فلسفة عميقة جداً وقادرة علي تأطير اللحظة المُركّبة جداً في جملتين. إنه إبداع مبهر". وماذا عن الرواية؟ تجيب "النص الروائي يُحاكي الحياة نفسها، يقلد الدنيا، والروائي عليه أن يخلق محاور وشخصيات، وفكراً، ووجداناً، ولُغة، وحتي يكتمل كل هذا في نسق روائي لا يمكن أن تصدُر الرواية في الشكل الشكل التلقائي الذي نراه في المجالات الأخري". الأزمة الحقيقية التي تواجه الروائيين، كما تقول محرز، أنهم، علي خلاف الجيل الذي أبدع تلك الأشكال الجديدة، لديهم أزمة اختراع اللغة والشكل اللذين يناسبان تلك اللحظة الثورية. وتُعلّق "إنهم يقولون إن اللحظة الثورية تحتاج إلي وقت حتي يستطيعوا صياغتها، وهذا صحيح"، وتضرب مثالاً بالاسمين اللذين طرحهما الخميسي، وهما نجيب محفوظ وتوفيق الحكيم "احتاجا وقتاً حتي يعبران عن ثورة 19"، وتضيف "تجليات الحدث، يناير، وسرعته يجعلان هناك صعوبة في الإمساك به وملاحقته. هناك مذكرات ويوميات تواكب الحدث الثوري، أصدرها روائيون كبار وصغار، غير أنها مكتوبة بشكل تقليدي، ولا يوجد بها إحساس بوقع الثورة". الاستثناء الوحيد، كما تقول، رواية "اسمي ثورة" لمني برنس "قد تكون النص الوحيد للكتابة من داخل الثورة، من لغتها، وزخمها، وخفة ظلها". محرز تؤكد أن الجميع غارق في الحدث الثوري "إنه حدث جلل نحاول استيعابه ولا نقدر، ثم نأتي لنطالب الأدباء بكتابة روايات؟ هذا صعب". أقول لها "أنا أسأل عن الإبداع بوجه عام"، فتقول بدورها "التغيير الذي حصل علي المستوي السياسي في الشارع، وفي الشعب، لا رجعة فيه، وتلك اللحظة التاريخية من المؤكد أنها ستساعد علي ميلاد أشكال جديدة هي التي ستسود في المرحلة المقبلة". وتضيف "بعد هزيمة 67 لجأ الكتّاب إلي القصة القصيرة، ليعبّروا بشكل شبه فوري عما يعانونه، فالرواية لم تكن لتساعدهم لأنها تأخذ وقتاً طويلاً، وفي ظني أن الأشكال الإبداعية الجديدة بعد الثورة توازي، -إلي حد ما-، القصة بعد النكسة". ميرال الطحاوي لا تبتعد كثيراً عن الأراء السابقة، وبالأخص رأي المخزنجي "الحالة السياسية في مصر منذ اندلاع الثورة في 25 يناير، والأحداث اليومية، وتطورات الحال السياسية بكل أحلامها وإحباطاتها لا تترك فرصة لأي إنسان في التقاط الأنفاس، ناهيك عن صعوبة الفهم والتكهن والرؤية الفنية أو الوعي الاجتماعي. هناك شارع مُحبط وضبابية وقلق وهذا المناخ يتشابه، للأسف، مع ما جري في فترة الستينيات وبالتحديد عقب نكسة 67". صاحبة "نقرات الظباء"، تؤكد أن "هذا المناخ أصاب الحياة الثقافية والحياة كلها بالصدمة، وعدم القدرة علي الفهم، وبالتالي عدم القدرة علي الرؤية أو الكتابة"، وتضيف "ورغم ما تعد به الثورة في جوهرها من خصوبة وتجدد وتغيير وتبشير بأجيال جديدة وخصوبة إبداعية وثقافية، لكن ذلك غير متوقع الآن في ظل تلك الفترة الانتقالية المرهقة والمدمرة للوعي"، وتنهي قائلة "نعم هناك تجارب تأريخية كُتبت لتدوين يوميات الثورة.. نعم هناك رواية هنا وكتاب هناك.. لكن هذا المنتج الثقافي الآني لا يُعبّر عن الحال السياسية والاجتماعية، ولا أتصور أن بإمكان الحياة الثقافية أن تتجاوز ما يحدث في الشارع، ولا يمكن أن تخلق نهضة فكرية في مناخ قلق ومضطرب". نهاية البيست سيللر حمدي أبوجليل يبدأ بالاعتراف بأنه واحد من الذين اهتموا بالسياسة بعد الثورة، ويقول "الأعمال التي تصدر حالياً يحدث لها نوع من الظلم أو التعطيل، غير أنها ستُقرأ في النهاية". حمدي يري أن الرواية كنوع أدبي لن تتأثر بهذه الثورة "الرواية قامت بثورتها قبل 25 يناير، بما لا يقل عن عشر سنوات، ولكن الثورة ستؤثر علي أعمال البيست سيللر التي لم يصاحبها ترسيخ نقدي، كما أنها ستعمل علي اندثار رواية الهم السياسي، الرواية التي تقاوم الفساد، وهي تشكل 90 بالمائة من المنتج العربي، في مقابل ترسيخ ما سميّته بالرواية المصرية الجديدة، الرواية كفعل إنساني متجرد". ويضيف "أتخيل نفسي مثل ورقة بن نوفل، الذي تنبأ بظهور رسول، أكلمك صادقاً، أتنبأ بشاعر عامية عظيم. ما سيتطور بسرعة من الأدب هو شعر العامية". غادة الحلواني حصّنت نفسها جيداً مما يجري في السياسة، وأنجزت رواية. تقول ضاحكة "أنا شخصياً قررت أن آخذ مسافة، شعرت بأنني سأضيع في أحداث سياسية قادرة علي استنزافي، فأنا أومن بأن هناك دوراً أصلياً للكاتب والفنان. علينا ألا ننسي دورنا الحقيقي. الموقع الأساسي هو مع ورقك وقلمك وكتابتك". تري غادة أن الثورة فعلت شيئاً جيداً للأدب "قبلها كان هناك إسهاب شديد، رطرطة، في الأدب، كل شخص يكتب كلمتين يصبح كاتباً، والثورة جاءت لتصفّي هذا. انظر إلي تعبير عيش حرية عدالة اجتماعية، منتهي التكثيف. كنت حتي تُعبّر عن هذا تكتب قصة طويلة عريضة، وها هي المطالب تتبلور ليتبقي للفن، بشكل عام، قضيته الخاصة، أن يُعبّر عن نفسه، فأنا الآن لن أتحدث عن القمع، وحينما سأكتب عن الحرية والعدالة سأكتب بشكل فني عن المستقبل". حاتم حافظ يري بدوره أن التراجع الثقافي مؤقت. التراجع كما يقول لم يُصب الثقافة وحدها، ولكن أيضاً طال الرياضة والسينما، والدراما. يعلق "في رمضان الماضي لم تستطع المسلسلات جلب الإعلانات المنتظرة، وحتي دور النشر تشكو من تراجع مبيعات الكتب، وهناك مكتبات ضخمة أغلقت بعض فروعها، لأن الناس استغرقوا في السياسة". هل يعتقد إذن أن تلك الحال ستطول؟ يجيب "مصر حينما ستستعيد إيقاعها اليومي، وهذا ليس بعيداً جداً، أظن أن القراءة ستتضاعف. هذا مؤكد بالنسبة لي، فالناس خلال عام ونصف العام كانت لديهم رغبة في معرفة ما يجري حولهم، كما أن المثقفين كانوا في معركة مع التيار الإسلامي، وحينما تهدأ الأمور، سيشعر الناس برغبة مضاعفة في القراءة". علي المستوي الشخصي أنجز حاتم مجموعة، وسلمها لدار نشر "الدار لم تنشرها حتي الآن، فأنا أعلم أن لديها مشاكل مادية، غير أنني لم أتحدث ولم أضغط، لأنني أعرف أن القراءة أصلاً متراجعة في هذا التوقيت"! أما حمدي الجزار فيتفق مع أبو جليل في أن ذروة الإبداع حدثت قبل 25 يناير، لا سيما في السنوات العشر الماضية، ويشير إلي مقولة هدي الصدة "الثورة حدثت في الأدب المصري قبل 25 يناير"، ويضيف "الأعمال الأدبية علي وجه التحديد وصلت إلي ذروتها من حيث الكم والكيف، مع ظهور أسماء جديدة، ودور نشر صغيرة، وافتتاح بوك ستورز، ولكن أثناء الثورة خبا هذا الإنتاج لطغيان السياسي علي الثقافي، حتي أن حضور الثقافة بشكل عام خبا، وعلي سبيل المثال اختفت الصفحات الثقافية في الجرائد اليومية كالشروق والمصري"، وينهي قائلاً "الثورة والسياسة الشغل الشاغل لمعظم كتّاب مصر، ولكن هذا يمثل حالاً مؤقتة، وسيحدث عطش شديد للثقافة حينما تهدأ الأمور".