عندما وقفت علي الطريق السريع كان الوقت ضحي وشمس أغسطس تسلط أشعتها الساخنة علينا لتحيل المكان إلي ساحة من اللهب، السيارات تمرق مسرعة، بعد فترة بدت سيارة أجرة »كبوت« كانت تزحف ببطء ، قبل أن تصل بأمتار قليلة رفعت يدي مشيرا للسائق بالتوقف. - ادفو يا أسطي - اركب يا أستاذ تقدمت نحو السيارة وقبل أن أضع قدمي علي السلم الخلفي تحركت، فوجدت نفسي مرغما علي الاندفاع نحو السلم ووضعت قدمي اليمني بصعوبة وفاجأني الصبي الذي يقف علي السلم: - معلش يا أستاذ مستعجلين، العربة عليها قسط كبير والله وأكل العيش مر. نظرت إليه ولم انطق، القيت التحية علي الركاب، لم يرد التحية سوي الرجل الأنيق الذي يجلس علي اليمين، المرأة التي تجلس في مقابلتي ملتفة في »التودة« السوداء ولا يظهر منها سوي عينيها التي تنظر بهما يمينا ويسارا، واندهشت من قوة تحملها لهذه التودة المصنوعة من الصوف في هذا الجو شديد الحرارة، الهواء الذي يدخل إلي السيارة عبر النافذة ساخن جدا ويحولها من الداخل إلي فرن مشتعله، رن جرس الهاتف الذي في حقيبة الفتاة المحجبة التي تجلس بجوار المرأة، فتحت الحقيبة وأخرجت الهاتف، نظرت إليها المرأة من تحت »التودة« نظرت الفتاة في الهاتف قبل أن تضغط علي زر الفتح، ثم ضغطت علي الزر وراحت تتحدث ولكن صوتها غير مسموع لنا لان صوت الفنان الشعبي »رشاد« يملأ المكان عبر سماعة مثبتة فوقنا في سقف السيارة، تحدثت قليلا ثم أغلقت الهاتف ووضعته في الحقيبة، دقائق ورن جرس هاتفي، اخرجته من جيب البنطال ونظرت فيه، كان اسم السيدة »عطيات« المسئول الثقافي لنادي الأدب يظهر علي الشاشة، أغلقت الاتصال لاني لا احب التحدث في الهاتف المحمول أثناء ركوب السيارة ولكن ايقنت انها تستعجلني في الحضور للاعداد لندوة سوف تقام في المساء بحضور أدباء من قنا، وتمنيت ألا ترن عليّ مرة أخري. الرجل الذي يجلس علي شمالي تبدو عليه علامات التعب، ملابسه الرثة تفوح منها رائحة التراب وعمامته متسخة، لم يكن صغيرا في السن ربما تجاوز الأربعين، يبدو أنه قادم من عمله الشاق صاحبه الذي يجلس بجواره لم يكن احسن حالا منه، سأله فجأة: - هو النهارده إيه في الأيام يا حسين؟ سكت حسين برهة ثم نطق: النهارده الاثنين سريعا راجعت الأيام في رأسي حتي تأكدت أن اليوم هو الخميس، ورحت اتفحص وجهيهما، قرأت علامات البراءة والصدق عليهما، صدقه الآخر بكل سهولة، دارت رأسي مع صوت السيارة المزعج ولعنت الفقر الذي يقهر الغلابة الي حد فقدانهم الاحساس بالزمن. الصمت يسود الشفاه وصوت الفنان »رشاد« مازال يكسر حالة الصمت والصبي الذي مازال يقف علي السلم يغني معه وقد لمحت خضرة الدنيا في عينيه. ضغط الرجل الانيق علي زر الجرس لتتوقف السيارة وأثناء النزول اعطي الصبي الأجرة، وبعد أن تفحصها طلب منه ربع جنيه آخر. رد عليه الرجل: هي دي الأجرة أنا بركب كل يوم رايح جاي. ارتفع صوت الصبي محتدا علي الرجل، وعندما سمع السائق زعيق الصبي، فتح باب السيارة ونزل ليستطلع الامر، حينما اقترب من الرجل الانيق ابتسم وراح يسلم عليه بحرارة قائلا: - أهلا يا أستاذ مسعود، انت كنت استاذي في مدرسة الشراونة الصناعية. - أهلا بك. نظر السائق - وكان شابا مهذبا - إلي الصبي وعنفه علي طريقة معاملته السيئة للناس، ثم اعتذر لاستاذه في أدب جم، وراح يركب سيارته ليواصل السير بنا، حينما قفز الصبي علي السلم نطق محتجا: ربنا يتوب علينا من الشغل ده. كنت اود أن اسأله عن عدم ذهابه الي المدرسة للتعليم ولكن خشيت ان يحرجني أمام الركاب، حينما اقتربنا من الوصول الي موقف المدينة صاح فينا: الاجرة يابهوات وياريت تكون فكة. اخرجت الاجرة مثل بقية الركاب واعطيتها له وكانت »فكة« كما أمرنا واتجهت الي سيارات داخل المدينة التي تنتشر كالوباء في أرجاء الموقف دون ادني نظام، قفزت في احداها وكانت »ميكروباص« وبعد دقائق قليلة كانت مكتملة العدد، قفز هذه المرة صبي أقل عمرا وأكثر نحافة من صبي السيارة السابقة، اغلق باب السيارة واعطي اشارة للسائق الذي ادار المفتاح ومعه مباشرة كان صوت الفنان الذي يغني أغنية »العنب« يسيطر علي المكان وبدأ الصبي في تحصيل الاجرة يتمايل مع نغمات الاغنية الراقصة. حينما بدأت السيارة في عبور كوبري ادفو فتحت النافذة التي بجواري لعلي استنشق نسمة باردة من نسمات النيل ولكن حتي هواء النيل صبغته الشمس وجاء محملا بحرارتها الشديدة، فأغلقت النافذة مرة أخري وكان النيل ساكنا، ولم يحطم سكونه سوي السفن السياحية التي تنتشر فيه ذهابا وإيابا من أسوان حتي الاقصر وتقذف فضلاتها في مياهه الطاهرة. حينما كنا صغارا كانت هوايتنا الوقوف علي الشاطيء عند قريتنا لمشاهدة السياح وهم عرايا فوق أسطح السفن، دقائق قليلة وكنا في ادفوالمدينة، نزلت من السيارة ولدي احساس بان حملا ثقيلا يجثم علي صدري، توجهت الي أقرب مقهي لاحتساء كوب شاي ربما يزيل الألم الذي أصاب رأسي، طلبت من النادل كوب شاي وأخرجت أوراقي وقلمي ومع آخر رشفة من كوب الشاب كانت نهاية هذه القصة.