نجيب يتوسط كمال حسين وعبدالناصر بدأت حركة الجيش في فجر يوم الأربعاء 23 يوليو الماضي.. واهتزت البلاد من أقصاها إلي أقصاها فرحا واستبشارا بالخلاص.. ووقفت الصحافة عين الشعب وأذنه ترقب الحوادث دقيقة بدقيقة وساعة بساعة.. وتتساءل كما كان الشعب يتساءل متي يقدم الجيش علي اتخاذ الخطوة المرجوة؟ الخطوة الجريئة الحاسمة التي تستأصل الفساد من جذوره؟.. ومرت ساعات النهار.. وأقبل المساء، وجلسنا نتحدث عن الحركة وعن خيبة الأمل التي أحسسنا بها جميعا.. وقد عجبنا أن تقف أهداف الحركة عند حد المطالبة بتطهير الجيش.. وهل من الممكن أن يبقي الجيش نظيفا.. والبلاد موغلة في الفساد؟! وكان هذا هو كل ما أعلن يومئذ عن أغراض الجيش ومطالبه، وسوف يري القراء أنها كانت مناورة بارعة، و"تكتيكا" خليقا بمعركة من معارك التاريخ الفاصلة! ولكننا لم نكن نعرف!.. ومن ثم جلسنا نتحدث بمرارة الذين خابت آمالهم.. وقال أحدنا: يظهر إن الحركة "فياسكو"! أي فاشلة!؟ وقال آخر: وهل يظن اللواء محمد نجيب بك إذا أجيبت طلباته الخاصة بتطهير الجيش هل يظن هو وأصحابه أنهم قادرون علي الاحتفاظ بنظافة الجيش إذا ظل رأس الفساد حيث هو.. طاغية مستبدا وحاكما بأمره!.. وقال ثالث: مساكين! (يقصد اللواء نجيب وأصحابه).. مساكين لأن فاروق قد يحني اليوم أمامهم رأسه لكي يبطش بهم غدا.. وتحدثت أنا عن (أنصاف الحلول) وأنها لا تجدي بل قد تؤذي.. وقلت إن قادة الحركة قد قنعوا فيما يظهر بأنصاف الحلول.. تطهير الجيش.. وإقصاء زيد أو عبيد من بطانة السوء وحاشية الفساد.. وأسفت حقا، ومن حبة القلب، ألا ينتهز قادة الحركة هذه الفرصة لكي يحطموا رأس الفساد.. الذي هو فاروق وغادرت دار (أخبار اليوم) إلي موعد لي مع بعض الأصدقاء في نادي رمسيس وجلست بين الأصدقاء أتحدث بما كنت أتحدث فيه في دار "الأخبار" وأقول بصوت يسمعه الجالسون حول الموائد القريبة.. "إن أنصاف الحلول لا تجدي بل قد تؤذي". هذا وصديق يغمز لي بعينه أن أحترس وألا أخوض في هذا الحديث الخطر.. ولكني لم أبال بغمزات الصديق ومضيت في الحديث.. ثم قلت (وددت لو استطعت مقابلة اللواء نجيب بك لكي أقول له إن أنصاف الحلول لا تجدي.. وإن الشعب ينتظر منه ومن إخوانه أن يخلصوه مما هو فيه.. ولن يكون ذلك إلا بخلع الملك فاروق..! وعض صديقي شفته.. ورفت عيناه بالغمز السريع المتواصل ولكني لم أبال!.. وقال الأستاذ مدحت أباظة وكان بين الحاضرين : - هل تريد حقيقة أن تقابل اللواء نجيب بك؟ قلت: بكل تأكيد.. قال: أعتقد أنني أستطيع تدبير هذه المقابلة.. • وكان هذا كما قلت في أول يوم من بدء الحركة المباركة.. الأربعاء 23 يوليو 1952 وبعد ظهر اليوم التالي الخميس كلمني الأستاذ مدحت أباظة بالتليفون ليبلغني أن اللواء نجيب بك مستعد لمقابلتي في صباح يوم الجمعة في مكتبه بالقيادة العامة.. وأن رقم تليفونه هو 60005 وأنه يطلب مني أن أتفق معه أولا بالتليفون علي الساعة التي يستقبلني فيها...
وفي ساعة مبكرة من صباح يوم الجمعة أبلغني صديقي كامل الشناوي من مستشفي الدكتور الكاتب بالتليفون أن مصطفي وعلي أمين قد اعتقلا بأمر من القيادة العامة. وعقدنا اجتماعا في حجرة كامل الشناوي في المستشفي.. وقلت للزملاء المحررين ورؤساء التحرير إنني علي موعد لمقابلة اللواء نجيب بك هذا الصباح.. وسوف أسأله عن سبب اعتقال الصديقين الزميلين.. ومن مستشفي الدكتور الكاتب تحدثت بالتليفون مع اللواء نجيب بك وسألته عن الساعة التي أحضر فيها.. فقال: - أنا خارج الآن للمرور .. وسوف أعود بعد نصف ساعة ، فهل توافقك الساعة التاسعة والنصف؟ قلت: نعم وسألني : عندك عربية؟ قلت: نعم وشكرا..
ومضيت في سيارة الصديق الزميل حسنين هيكل الذي يفخر وبحق أنه صديق الجيش من قديم.. مضينا إلي مقر القيادة العامة.. وهنا أقف قليلا لكي ألفت نظر القارئ إلي التفاصيل التي حرصت علي سردها ومنها يدرك القارئ أن مقابلتي للواء أركان حرب محمد نجيب في يوم الجمعة 25 يوليو لم تكن بشأن اعتقال مصطفي وعلي أمين كما ذكرت بعض الصحف.. لأن المقابلة كان متفقا عليها من قبل اعتقال الزميلين بثمان وأربعين ساعة!
كان فناء دار القيادة العامة وردهاتها خالية إلا من الضباط والجنود.. ولم أر فيها من المدنيين سوي مندوب زميلة صباحية.. واستقبلنا اللواء محمد نجيب في غرفة مكتبه.. وكانت هذه أول مرة أري فيها الرجل الذي حقق المعجزة ورفع رأس مصر ورد عليها مقامها بين الشعوب وقال قولته التي نشرتها صحف العالم علي صفحاتها الأولي.. وأذاعتها محطات الإذاعة في العالم بكافة اللغات!.. . قولته التي سوف يسجلها التاريخ بين كلمات قادة الشعوب.. باسم الجيش ممثل الشعب أطلب أن يتنازل الملك فاروق عن العرش قبل الساعة كذا وأن يغادر أرض مصر قبل الساعة كيت! ولكنني لم أكن أعلم! وأني لي العلم وقد أحكم محمد نجيب وأصحابه تدبير خطتهم وأقاموا حولها أستارا من التمويه والإيهام أخفوا وراءها حقيقة ما يهدفون إليه.. حتي لا ينتبه فاروق إلي ما يراد به.. فيهرب أو يفزع إلي دولة أجنبية كما فعل عم له من قبل!. ومد محمد نجيب يده يصافحني وهو يبتسم وفي وجهه سماحة وفي عينيه طيبة صريحة حلوة.. ولكن تقاسيم وجهه - وجه الجندي الصريح الطيب القلب لم تفلح تماما في إخفاء ذكائه.. بل ودهائه!.. وأنه من الممكن أن يجمع الجندي بين طيبة القلب والذكاء.. وبين سعة الحيلة والصراحة والدهاء..! ولقد أحسست بعد دقائق أن محمد نجيب أذكي بكثير مما يبدو.. وأنه مع صراحته يستطيع أن يكون واسع الحيلة كبير الدهاء!.. وهذه صفات تولد ولا تكتسب تولد مع القائد الممتاز.. أو الزعيم المختار بإرادة الله!
وكان في غرفة القائد ثلاثة من الضباط قدمني إليهم وأمسك هنا عن ذكر أسمائهم نزولا علي رغبة القيادة العامة.. وبدأت حديثي عن اعتقال الزميلين مصطفي وعلي أمين.. ولم يطل هذا الحديث أكثر من دقائق بعد أن اطمأننت إلي أن قادة الحركة حريصون علي تحقيق العدالة.. وأنهم لن يظلموا أحدا ولن يؤخذوا بدسيسة أي حقود خسيس! وقال اللواء محمد نجيب وهو يأخذ بذراعي ويسير بي إلي ركن من غرفة المكتب: - ولكنك كنت تريد أن تتحدث إليّ في أمر آخر؟ قلت: نعم.. ثم نظرت في عينيه العميقتين وأنا أقول: - شوف يا نجيب بك.. أنا رجل صريح ولقد جرت عليّ صراحتي هذه نقمة دنيا السادة والأقوياء.. ولكني بقيت كما أنا.. وابتسم هو وربت علي كتفي وقال: - ما هي دي الرجولة!.. قلت: سوف أحدثك إذن بصراحة.. وقد تغضبك صراحتي! ومضيت في حديثي.. - إن أنصاف الحلول لا تنفع!.. وأنت وأصحابك تعرفون جيدا أين أس الفساد.. وأن الملك هو المسئول الأول عن هذا الفساد... ولن تنجح حركتكم هذه ولن تحقق أغراضها إذا تركتم فاروق علي العرش.. وشعرت أنه يريد أن يقول شيئا ولكني مضيت أقول: - إن الشعب قد استقبل حركتكم هذه بالفرح والتأييد.. قال: نعم والحمد لله.. قلت: ولكن هذا الشعب كان يرقص في الشوارع.. وكانت نساؤه تزغرد لو كنتم خلعتم الملك فاروق.. وانحني اللواء محمد نجيب قليلا وأشهد له بالبراعة في فن التمثيل! انحني لكي يهمس: - مش جايز أمريكا تتدخل وتقول عنا رايحين نبقي شيوعيين!! قلت: لا.. لن تتدخل أمريكا ولا بريطانيا ولا غيرهما من أجل الملك فاروق لأن سمعته أصبحت عندها زفت وقطران.. ولأنها تدرك أن فساد حكمه من أكبر أسباب انتشار السخط في مصر.. والسخط هو ميكروب الشيوعية.. قال ويا لغباوتي أنا فقد كنت أظن أنه غير مقتنع بينما كانت الخطة مرسومة محبوكة التدبير ولكنه كان حريصا وله كل الحق علي السرية التامة والكتمان! قال: برضه يا أستاذ مش مطمئنين إلي إنجلترا.. ويمكن تتدخل.. وعدت أؤكد له أنه لا إنجلترا ولا سواها تتدخل ما دام الأمن مستتبا وأرواح الأجانب ومصالحهم في أمان. ثم عدت أقول : ومع ذلك ليه ما ينزلش عن العرش لابنه؟ وهنا لمعت في عينيه ابتسامة لم أفهم معناها في تلك اللحظة.. ولكني فهمتها فيما بعد!. لمعت عيناه لأنني وقعت علي سر الخطة المرسومة من قبل! سر التدبير المحكم الذي كان حريصا طول حديثنا علي أن يخفيه.. لمعت عيناه بابتسامة وأنا أقول: - ممكن المناداة بولي العهد ملكا تحت الوصاية.. وربنا يفرجها من هنا إلي أن يبلغ سن الرشد.. وعاد اللواء نجيب يهز رأسه ويقول: - مش وقته!.. مش عايزين نعمل رجة!. وتملكني اليأس من إقناعه!.. وكم كنت "غبيا" عندما ظننت أن محمد نجيب وأصحابه قد غاب عنهم مالم يغب عني.. نعم، كنت غبيا مسرفا في حسن الظن بذكائي وبعد نظري!!
تملكني اليأس فقلت: - وهل تظن أن الملك فاروق سوف يسكت!.. قد يسكت مؤقتا ولكن يا خوفي عليك وعلي اللي معاك!.. سوف يحاربكم الملك بملايينه ولو ينفقها إلي آخر مليم .. ثم يعود فيستردها من دم الشعب أضعافا.. وسوف يحاربكم فلان بملايينه .. وعلان بملايينه (وذكرت له اسمي رجلين من رجال الملك فاروق) وقال هو : وسوف يحاربنا "فلان" بدعايته! وذكر اسم ثالث من رجال فاروق! قلت: نعم.. إذن طاوعني واضرب قبل أن يضربكم الملك فاروق! قال: ولكن الذي تقترحه كان يستلزم استعدادا قبل عشرة أيام أو اثني عشر يوما .. ونحن لم يكن عندنا وقت! وصدقته أنا "الغبي" مع أن "الفكرة" كانت موجودة منذ حرب فلسطين كما ذكر الصحفي روبرت هور في مقاله، والصحفي المذكور صديق اللواء محمد نجيب وقد عرفه أثناء حرب فلسطين وسمع منه أكثر من مرة أنه ينوي الثورة علي الملك فاروق.. الفكرة كانت موجودة منذ أربعة أعوام والخطة المحكمة كانت مرسومة منذ شهور.. ولم يكن ينتظر سوي الفرصة المواتية للتنفيذّ. ولكنني صدقته.. ويئست من إقناعه! وهنا دق جرس التليفون وقيل له (رئيس الوزراء يطلبك من الإسكندرية) وتناول هو سماعة التليفون.. وابتعدت أنا .. وذهبت إلي حيث كان يقف الضباط الثلاثة.. وحاولت أن أقنعهم بأن ينضموا إليّ في إقناع اللواء محمد نجيب! ومضيت أعيد عليهم ما قلته له.. وأحذرهم من بطش فاروق.. وفشل الحركة.. ووقفوا هم ينصتون إليّ ولا يقولون شيئا! ولابد أنهم قالوا بعد أن خرجت: - كم هو غبي هذا الصحفي!.. وكم هو مغرور حتي يظن أنه وحده الذي لم تغب عنه هذه الحقائق!
ونظرت إلي الساعة فإذا بي قد أخذت من وقت اللواء محمد نجيب نحو ساعة.. وكان قد انتهي من حديثه التليفوني مع رئيس الوزراء علي ماهر.. وقلت أستأذن بأه فقد أخذت من وقتك كثيرا.. قال: بعد أن تشرب واحد كوكا كولا.. وتناولنا الكوكا كولا.. وقال وهو يمسح شفتيه: - لم أر أولادي، ولم أغير ملابسي ولم أنم سوي ساعات.. منذ أربعة أيام.. قلت: معلهش! علشان مصر.. قال: نعم.. ومن أجل مصر كل شيء يهون! ومشي معي إلي الباب يودعني.. وفي محاولة أخيرة لعلي أقنعه! قلت: - هل أكتب مقالا عن (أنصاف الحلول) وأذاها.. لكي أهيئ أذهان الشعب! وأسرع هو يمسك بذراعي ويقول: - كلا .. أرجوك أن لا تفعل .. مش وقته! ومرة أخري صدقته.. وكنت غبيا! ومرة أخري حرص هو القائد المسئول علي إحاطة خطته بكل السرية وكل الكتمان ! وعدت إلي مكتبي وكتبت مقالي (وقع ما كان لابد أن يقع).. ولم أذكر في المقال شيئاً عن أنصاف الحلول .. وظهرت (أخبار اليوم) وفيها المقال.. بينما كان الجيش يحاصر قصري المنتزه ورأس التين.. والملك السابق يتلو إنذار محمد نجيب.. "باسم الجيش ممثل الشعب أطلب أن يتنازل الملك فاروق عن العرش قبل الساعة الثانية عشرة ظهرا وأن يغادر الأراضي المصرية قبل الساعة السادسة من مساء اليوم"!