الكتاب: سيرة مولع بالهوانم كان فلورنتينو آريزا، بطل رواية الحب في أزمنة الكوليرا، حريصاً علي أن يدوّن في دفتر خاص سجلاً بأسماء وبيانات جميع النساء اللاتي مرّ بأجسادهن خلال رحلته الطويلة كصيّاد متوحد لا يهتم إلا بالمتع الجنسية العابرة، منتظراً بصبر وإخلاص المتصوفين أن تعود إليه امرأة حياته فيرمينا دازا، بينما نجد طلال فيصل يسير بعكس اتجاه ذلك العاشق الماركيزي. صدرت مؤخراً رواية "سيرة مولع بالهوانم" عن دار ميريت، بغلاف أمامي أنيق وغلاف خلفي مزيّن بكلمات الثناء الموجهة للرواية من د. جلال أمين وكاتب أمريكي آخر، وهي الرواية الأولي للمترجم والصحافي طلال فيصل بعد ديوان شعري بالفصحي صدر قبل سنوات تحت عنوان الملائكة لا تشاهد الأفلام الإباحية. بطل طلال فيصل يحمل نفس اسمه وصدر له ديوان شعري وحيد بالعنوان نفسه، وهو بخلاف فلورنتينو آريزا يسجل في هذه "السيرة" محطات للحب البرئ العذري، الذي تتشكل مادته غالباً من الخيال والشطح والأحلام، وتتقاطع هذه المحطات في الغالب مع عالم الحركات الإسلامية في مصر، منذ منتصف ثمانينيات القرن السابق تقريباً. ولعلّ هذه الخلفية الخاصة بحركات الإسلام السياسي، والصبغة الدينية الواضحة في أسلوب ونبرة سرد طلال فيصل هي ما أبقت هذه المحطات نقية من أي لوثة إيروتيكية أو تجسد واضح للشهوة بوصفها كذلك لا بوصفها لعبة خيال أو شطح شباب مكبوت. يلهي فلورنتينو آريزا جسده بهذه الوجبات الجنسية المختلسة علي عجل لتبقي روحه متعبدة في محراب معشوقته فيرمينا دازا، أما طلال فيصل، بطل هذه السيرة، فإن مجرد النطق بكلمة حب لمجرد أن يتذوق طعمها يتطلب منه أن تكون المخاطَبة راقصة باليه روسية لا تعرف كلمة واحدة من اللغة العربية التي يستخدمها في الاعتراف والحكي لها. ومنذ فقرة الاستهلال يحرص طلال فيصل، الكاتب، علي أن يضع حكاياته العاطفية الخفيفة في إطار شبيه باللغة الدينية، حيث يتناص مع لغة مواقف ومخاطبات النفري بروح متحررة من سطوة النص المهيب والغامض، وهو ما نلمسه علي مدار محطات الكتاب، علي طريقة: "وأنا أحمل في قلبي وردة كبيرة بيضاء لا شرقية ولا غربية يكاد عطرها يضيء." والأمثلة في هذا الاتجاه كثيرة. غير أن توازي تلك المحطات العاطفية الشفيفة والرائقة، وخفيفة الروح بلا جدال، مع التيار الإسلامي في مصر خلال العقود السابقة جاء أوضح من اللازم، بلا مبرر في أحيانٍ كثيرة، ودون استغراق حقيقي في تناول عوالم تلك التيارات والحركات علي نحو ما قد نجده في كتاب خالد البري مثلاً الدنيا أحلي من الجنة. يبقي كل شيء هنا خفيفاً متطايراً تماماً مثل المحطات العاطفية التي ما تكاد تظهر حتي تختفي في أرض السرد بلا أثر، لننتقل بعدها من جديد إلي المحطة التالية في تطوّر حياة بطلنا الطبيب طلال فيصل، الذي سيحتاج إلي أكثر من ثلاثين عاماً ليسلم أمره لله وينوي الزواج في السطور الأخيرة من كتابه. تنازعت الكتاب ثلاثة عوالم متقاطعة، وإن لم يفلح أيٌ منها في الاستيلاء بالكامل علي سطوره، من ناحية هناك عالم الجميلات والهوانم اللاتي يتغيرن من حكاية إلي أخري، بداية من بلقيس ملكة سبأ وانتهاءً بزوجة المستقبل، وعالم دراسة الطب وأحوال الأطباء عموماً وخريجي طب القصر العيني خصوصاً، ثم بالطبع عالم الحركات الإسلامية الذي مرّ عليه الكتاب مرور الكرام من خلال بعض الشخصيات أو عناوين الكتب والمقتطفات منها. يمكننا أن نقرأ كل فصل من فصول الكتاب باعتباره نصاً مستقلاً، بضميرٍ مستريح، ولولا الترتيب الزمني المنتظم لحكايات طلال مع الهوانم الجميلات منذ أن كان طفلاً في أولي سنواته المدرسية وحتي تجاوزه للثلاثين، لأمكن إعادة ترتيب تلك الحكايات كيفما يحلو لكلٍ منا. بعض نصوص الكتاب تبرز مستقلة تماماً عما يسبقها أو يليها وتكاد تكون حكاية الجميلات الثلاث أمام مستشفي أبو الريش قصة قصيرة مكتملة تدور حول التحرش الجنسي ببساطة، وحكاية الجميلة تزورني ليلاً، وكذلك تلك الحكاية عن الفنانة دوللي شاهين المستلهمة من إحدي قصص نجيب محفوظ في كتابه الجميل حكايات حارتنا، فالاستلهام أو التناص بطبيعته لا يستقيم ومنطق السيرة الذاتية التي تتردد بكل تحديد علي مدار النص، نلحظ هنا لعبة صغيرة داخل لعبة أكبر منها. نصب طلال ببعض الحيل فخ السيرة أمام القارئ، علي سبيل التشويق ربما أو إثارة الرغبة في التلصص، لكن هذا لم يمنعه ككاتب من اللعب والمعارضة القصصية مع نجيب محفوظ، حيث شدّ نسيجه العصري الساخر علي النول المحفوظي وتتبع رسم الخيوط خيطاً بعد آخر، وإن كسر الإيهام في نهاية الحكاية مؤكداً أنها بكاملها من نسج الخيال، ولعلّه قد أضفي علي حكاية محفوظ القديمة، والحزينة قليلاً، لمسة من خفة الظل الواضحة علي مدار الكتاب ككل. لغة طلال فيصل في هذا الكتاب سلسلة ومرحة، تنتقل برشاقة ما بين الفصحي الرصينة التي تكاد تكون تراثية أحياناً وبين تعبيرات العامية والمصطلحات الإنجليزية التي أفرط في استخدامها في بعض المواضع، رغم أن هذا متوقع من روئي يدرس الطب ويعمل به فيما بعد. خفة الظل التي نشير إليها قد نجد بعض منابعها لدي كتّاب روايات الجيب، مثل د. أحمد خالد توفيق، توجيه الحديث مباشرةً إلي القارئ بعيداً عن سياق الحكاية، والتحدث في أمور عامة لصفحة أو أكثر (كما في الحديث عن فن الباليه في مستهل حكاية لوليتا بولكوفا) حديثاً مرحاً مفعماً بالإشارات الثاقبة. في مواضع ليست قليلة تخلي الرواي عن خيط حكاياته مستسلماً تماماً لمتعة الاستطراد حول هذا الأمر أو ذاك، إما تمهيداً للدخول في حكاية أو في محاولة لربط حكاية أخري بأحداث عامة وخلفيات اجتماعية وتاريخية. في حكاية راقصة الباليه الروسية لوليتا بولكوفا يكتب طلال فيصل: "ليدرك الله برحمته القلوب التي لم تعرف التجربة"، في إطار هيام الراوي المتدين مع رقص لوليتا الجميلة للباليه، وكأن هذه الجملة تضيء طوال نص حكايات طلال فيصل اللذيذة، فالراوي الذي لا يملك التجربة عرف كيف يحوّل الفتات القليل الذي بين يديه إلي شيء له قوام وجدير بالقراءة، حتي إن فرض الوعي الديني ذاته متمثلاً في اللغة والأسلوب وكثيرٍ من الأفكار الشائعة، فإن بعض المشاهد واللمسات الإنسانية، التي أفلتت من هيمنة هذا الراوي المرح المتقافز، تعدنا بسارد صاحب قدرات خاصة حتي إن أعوزته التجارب.