.. ولأن هذا تأكيد للنسبي بينما ذاك إشارة نحو المطلق.. لهذا أحببت «لوليتا».. راقصة البولشوي الروسية 1 الشيء المميز في فن الباليه والذي يختلف فيه عن غيره من الفنون هو قانونه في الحفاظ علي الجمال طوال الوقت، تقديس الشرط الجمالي والتمسك به من أول مشهد لآخر مشهد، طبيعة الباليه المثالية للغاية - وهو ببساطة اجتماع فنين تجريديين تماماً هما الموسيقي والرقص - يزيل عنه أي أثر للواقعية وبالتالي لا تجد فيه مطلقا ملامح خشونة الواقع أو أي اضطرار للقبح كما يحدث في فنون أخري، كل المناظر في الباليه جميلة، زاهية وملونة ومرسومة بأناقة حتي وإن كان موضوعها ليس كذلك، تذكر مثلا مشهد المشاجرة في زوربا، أو مشهد الأم الفقيرة وهي تكنس الساحة في باليه جيزيل، ربما تفسر لنا هذه الجمالية (أو المثالية) في فن الباليه الجرأة في الجدل حوله والتحرج من تحريمه، الجرأة التي لا تأتيك وأنت تجادل في الرقص الشرقي مثلا، المقارنة بين الباليه والرقص الشرقي مقارنة مغرية للغاية، الباليه هو العلاقة القائمة بين الجسد والفراغ، البطل هو الفراغ المحيط بجسد الراقصة وليس الجسد ذاته، بينما الرقص الشرقي هو العلاقة القائمة بين أجزاء الجسد وبعضها، البطل هو الجسد والراقصة الماهرة - بحسب تعريف تحية كاريوكا في أحد الحوارات - هي التي ترقص في أضيق مساحة ممكنة، الرقص الشرقي تجسيد للحس والباليه انعتاق منه، الرقص الشرقي سطوة المتناهي والباليه إطلالة علي اللامتناهي. هذا تأكيد للنسبي وذاك إشارة نحو المطلق، تتعدد المعاني وتتعارض حتي وإن كان الرقص هو الرقص، وحتي وإن كان الجسد هو الجسد. 2 بين الحنين والإشفاق أتأمل الورقة التي كتبت فيها الكلام السابق وأبتسم، كانت هذه هي نوعية الخواطر التي كنت أكتبها وأنا في سنة الامتياز، السنة التدريبية في حياة الطبيب والتي لا يتدرب فيها علي أي شيء، أتأمل الصفحات التي تحوي هذا الكلام بسخرية ورثاء للفترة التي كنت أكتب فيها كلاماً من نوعية «متناهي» و«إطلالة» و«علاقة بين جسد وفراغ»، الفترة التي كنت أنهمك فيها في ارتداء دور المفكر المعتزل كرد فعل طبيعي لعدم تكوين علاقة عاطفية، أي علاقة، طفل خرج من مدرسة غير مشتركة ودخل قصر العيني بطبيعته المحافظة وأحب بنتين في صمت لتتزوج كل منهما بعد أيام قليلة فيتأكد أن ذوقه جيد وأن حظه ليس كذلك، ثم تغمره المياه الإسلامية فيصير كل همه معرفة الفرق بين الإخوان والسلفيين وجماعة الدعوة والتبليغ، طفل من الطبيعي أن يصل لسنة الامتياز دون أن يكون تجاوز مرحلة الحب عن بعد والحب من طرف واحد ودون أن يكون قد قال كلمة أحبك ولو لمرة واحدة، ومن الطبيعي تماما أن يداري خجله في القراءة والكتابة واعتزال زملائه، وأن يلهو بكتب الفلسفة وبما فيها من الأسماء الكبري، بينما هو في حقيقة الأمر متعطش للتجربة، للمعرفة، متعطش للحب الذي يقرأ عنه ولا يراه، يشاهد نظرة ترنو بها بنت لولد في الجامعة، في الشارع أو في محطة المترو فيسأل نفسه: كيف يمكن أن تنظر لي بنت، أي بنت، هذه النظرة؟، كنت طفلا خائفاً - عافاك الله - من اجتماع الرغبة والخوف، خائف أن أدخل في علاقة وخائف أن أفشل في علاقة وخائف من كل شيء، كنت كثيراً ما أتساءل بيني وبين نفسي أسئلة ساذجة، مثلا، في أي مرحلة من العلاقة العاطفية ينبغي أن يصرح الرجل للمرأة بكلمة الحب، متي يتجرأ ليمسك يدها وبماذا يشعر عندما يفعل؟، تخيل معي إذن صبياً في هذه المرحلة كيف تكون الصدمة الحضارية التي تحدث له في أول أيام انتدابه لدار الأوبرا المصرية كطبيب امتياز ليجد نفسه في غابة من راقصات الباليه، قبيلة من الجميلات الروسيات تحيط به وهو بعد عصفور لم ينبت له في دنيا النساء ريش؟! 3 لم يكن مطلوباً مني أي شيء حقيقي في فترة الانتداب تلك، كل المطلوب هو الوجود في حالة حدوث أي مشكلة صحية وتحويل الخطير منها لإخصائي (غالبا إخصائي عظام)، كنت أقوم بإمضاء الحضور لدي الموظف الذي يأخذ إمضاء الأطباء ولا شيء بعد ذلك، ربما أقرأ قليلاً وربما أتمشي في حديقة الأوبرا الواسعة، أتأمل تمثال عبدالوهاب (ولم يكن تمثال أم كلثوم في المدخل قد وضع بعد) وعندما تأتي الثانية عشرة تبدأ بروفات الفرقة التي تزور مصر للمرة الأولي، كنت أريد حضور البروفات بالطبع واستغرقت ربع الساعة حتي يفهم مصمم الرقصات أنني أريد الحضور معهم، الرجل وافق في بساطة وترحيب هو يؤكد لي بإنجليزية رديئة أنه يريد معرفة رأيي في رقصاتهم، عدم إتقان الإنجليزية أو الفرنسية شيء يثير التأمل لأنه قاسم مشترك تقريبا بين كل راقصي الباليه العالميين الذين عرفتهم والذين يطوفون الدنيا طوال العام، الأمر أثار استغرابي في البداية ثم تفهمته بعد ذلك بل وتقبلته من فنانين لا يستخدمون الكلام تقريباً ولا يحتاجونه واللغة لديهم هي الحركة والجسد، أجلس في مقعد جاءني به أحد العمال وأشاهد التدريبات، أغرق في المشاهدة والتأملات ثم أنتبه علي دخولها المباغت، تدخل لوليتا في منتصف البروفات، تلقي حقيبتها القماشية جواري دون أن تنتبه لي وتقفز في رشاقة فوق المسرح، وتغمغم عبارات بالروسية لمصمم الرقصات - أخمن أنها عبارات اعتذار عن التأخير- ، تدخل لوليتا فأعرف أن ما فات من حياتي، القراءة والوحدة والحزن وانعدام التجارب العاطفية ومحاولات الكتابة ودخول كلية الطب وسنة الامتياز، كل شيء، كل شيء كان مجرد تدريب علي هذه اللحظة المقدسة، تدور موسيقي تشايكوفسكي وتتخذ الأجساد وضع الاستعداد، وتبدأ الرقصات الحالمة. ويتأهب قلبي للغياب. 4 في الباليه توجد البطلة الفيديت التي يكتب اسمها علي لوحة العرض ولكن هناك صفا من الراقصات هو الهيكل الحقيقي الذي بدونه لا يكون هناك عرض، صف من الراقصات يبذلن جهودا خرافية في التدريب وحفظ الحركات، وأفكر كيف يبذل هذا الجهد العظيم من سن لا تتجاوز علي أقصي تقدير الخامسة من العمر لتوضع أسماؤهن بخط صغير في كتيب العرض الذي لا يلتفت له أحد، بل وربما لاتفرق بينهم حتي أثناء العرض نفسه رغم أن صف الراقصات هذا يحمل العرض علي كتفيه في سبيل بطلة لا يعرف المتفرجون غيرها ولا يميزون باقي الراقصات، أنا كنت أميزها، أميزها دون غيرها، لوليتا هي الثالثة من اليسار عند دخول الأمير علي البجعة البطلة، وفي المنتصف تماما في المشهد الأخير الحزين، كنت أنتظرها في ختام كل ليلة من الليالي العشر التي تتواجد فيها في القاهرة وأتذكر كلام هيجل عن الجمال ومفهومه النسبي، ما الذي كان يميزك يا «لوليتا» عن غيرك من الراقصات، لا أعرف، ولا أعرف حتي لحظة كتابة هذه السطور هل أحببتك فعلا أم أنني كنت محتاج أن أحب؟، محتاجًا أن أشعر أن لي سرا كبيرا يحميني من العالم، مثل أبله صغير قررت أن أقف وراء الكواليس وأراقبك أنتي دون غيرك من الراقصات، أنبهر بكل شيء وأتوه في كل شيء ولا أكتفي، وأقرر في اليوم الخامس من إقامتك في مصر يا لوليتا أن أكلمك، أذهب إليك بوردة وأكلمك. - كنت رائعة اليوم، برافو. أستخدم الإنجليزية والفرنسية والإسبانية بلا فائدة، أكتشف كم خسرت عندما لم أتعلم الروسية، لا يتبقي بين يدي إلا اللغة الأولي، لغة نزعنا عنها مفرداتها وتبقت لنا منها النظرة والإيماءة وتحريك الأصابع وهزة الرأس وما لا أدرك من الإشارات، لغة ما قبل أن يعلم ربك آدم الأسماء كلها ويعرضهم علي الملائكة فيقولون سبحانك، تشير لأصحابها فينصرفون ونتمشي سوياً - أنا وهي - حتي الخارج بلا سند من اللغة أو الكلام، وأنا لا أصدق أنني أسير بجوار بنت، نتمشي ونتكلم سوياً وربما نضحك، أتفكر في المفارقة وأبتسم، من كان يقول إن أول بنت أمشي معها في حياتي ستكون راقصة روسية ذات جسد مرسوم وبشرة شاهقة البياض وشعر لا أفهم كيف جاء أصفر هكذا، ولكنه رزق ربك، ومن يملك أن يمنع رزق ربك، أتكلم كأني لم أتكلم أبدا في عمري. - أنت جميلة جدا يا لوليتا. - كان رقصك الليلة بديعا يا لوليتا. - ليتك يا لوليتا لا ترحلين أبداً. و أنا لا أعرف الروسية، وهي - ولله الحمد - لا تعرف ما أقول. 5 ينشرح صدري وينطلق لساني، لا أحتاج في مخاطبتها لهارون ففي جهلها بما أقول وزير من أهلي، أهلي الذين ربوني تربية صارمة واختاروا لي مدرسة غير مشتركة وأدخلوني كلية الطب حيث البنات ترتدي الخمار وتقول إن شاء الله في آخر كل جملة، لوليتا تسمعني وتفهمني ولا تفهمني، تنظر لي بعينين فيهما من الزرقة ما فيهما من الحيرة وأنا أستغل فرصة لن تتكرر فأتحرر من ربقة الخجل ومن كل قيد وأتكلم وأتكلم، أغازل وأمزح وألهو وأقول كل ما أريد، أنت جميلة يا لوليتا، أنت حلوة يا لوليتا، أنت قشطة بالعسل وبسبوسة بالبندق وزبادي بالفراولة، ربما يتسع هامش الوقت فأحكي لها عن كلية الطب أو يضيق فأشرح لها رؤيتي للإخوان المسلمين، أحكي لها عن الرواية التي أحلم أن أقتفي فيها أثر الجميلات، وفي يومها الأخير أقوم بما عزمت علي فعله طوال العشرة الأيام السابقة، قبل صعودها للمسرح مباشرة، حفلتها الختامية وآخر تصفيق لها من الجمهور المصري، أناديها فتتجلي في عينيها نظرة دهشة لا تخفي وتقول بالروسية ما لا بد أن معناه، ماذا تريد الآن؟ تتسارع دقات قلبي ويتضرج وجهي وأهمّ بالتراجع، ولكن لا مفر: - أنا أحبك يا لوليتا. وأصمت قليلاً وأقول في سرعة قبل أن يغشي علي: - أنا أحبك يا لوليتا، أحبك بكل ما في وسع رجل أن يحب امرأة. ولا أعرف ماذا دار في رأسها لحظة قلت ذلك، هل علمت منطق الطير تهز رأسها لا أعرف شكرا لعبارتي أم انزعاجا من اندفاعي، وأكررها في جرأة أعلم لن تواتيني ثانية. - أنا أحبك يا لوليتا. وتبتسم في رقة وتغيب عن عيني، تصعد مع زميلاتها وتدخل مع زميلاتها إلي خشبة المسرح. سرب من البجع يطوف بالبجعة التي سيعشقها الأمير والصيادون يصوبون السهام بينما أجلس أنا علي الكرسي لأرقبها وألف بجعة ترقص في قلبي من البهجة لا أدري أم من الحزن، أنظر إليها وأكاد من طربي أن أدخل فأرقص معهم وآخذ مكان الأمير، أنظر لها للمرة الأخيرة ثم أنصرف، أستقبل الهواء البارد وأنا خارج ويتردد في بالي علي الباب الخارجي لدار الأوبرا المصرية قول مولانا جلال الدين الرومي: جميع الكائنات تبكي من ألم الفراق. مختتم: كانت هذه هي أول مرة قال فيها طلال فيصل كلمة أحبك في حياته، وأتساءل بعد مرور كل هذه الأعوام، هل أمرّ في خاطرها ولو لمرة واحدة، تتساءل فيها بينها وبين نفسها عن هذا الصبي المصري العجيب الذي أصر أن يكلمها بلغة لا تفهمها لمدة عشرة أيام كاملة.