يأتي مؤتمر إقليم وسط وجنوب الصعيد في لحظة تاريخية فارقة، إما أن تتقدم بلادُنا خطوات وتخرج من النفق المظلم الذي سجنتنا فيه قوي الطغيان والفساد، إلي رحاب الحياة الكريمة، وإما أن تتقهقر، وترجع مرة أخري إلي غياهب القهر والتخلف. لقد أنجز الشعبُ المصري معجزة بكل المقاييس، عندما انتصر علي خوفه الأسطوري من الحاكم المستبد، وأداوتهِ الجهنمية، وبسقوط الخوف سقطت أركان الحكم الظالم. لكن، هل سقوط الخوف يكفي لبناء دولة جديدة؟ وهل سقوط الحاكمِ ورجالِه يعني القضاءَ علي قوي الطغيان والفساد؟ هل تؤدي الثورة بالضرورة إلي دولة جديدة لا مكان فيها للقهر والتخلف؟ هل الثورة حدث يرتبط بزمن معين، أم هي فعل دائم إلي ما لا نهاية؟ إن قوي الطغيان والفساد جزءٌ أساسي في الوجود البشري، يمكن أن تُهزم في موقعة ٍ، لكنها تعود مرة أخري شاهرة أنيابَها، هي متوحشة لكنها ليست غبية، وتملك من الحيل مالا يخطر في الحسبان. وكأي بهيم، فإن قوي الطغيان والفساد لا تعيش إلا علي العلف والمراعي. والعلف هو الجهل، وتخدير النشاط العقلاني في الإنسان أو إهماله، وغيابُ الوعي النقدي الذي يفرز الأكاذيب من الحقائق، وينتقل من السطحي والتافه إلي العميق والجاد، ومن الوهم والخزعبلات إلي الواقع الفعلي.أما المراعي فهي الوجدانُ المشوه، والذوق المنحط، هي فوضي الانفعالات والعواطف. وعدم القدرة علي رؤية الوحوش التي تعشش فيها. إن الثقافة هي الطريقُ الوحيد لعلاج الكسل العقلي، والتشوهات الوجدانية، وبدون الحل الثقافي لا علاج لقوي الطغيان والفساد. إن البعض يسأل أحيانا عن جدوي الأدب، ويسأل عن الفكرة التي يقولها الشاعر أو الأديب، والمسألة في الأدب ليست مسألة فكرة وكفي، الأدب يقتحمنا لا شعوريا ليرتب الداخل وينظمه، الأدب يشبه المحراث الذي يقلب التربة الداخلية، ويشبه الفلاح الذي ينقي الأرض من الانفعالات الضارة، والأدب قد يبدو لا مباليا بالمنطق، والجانب العقلاني في الإنسان، وهذا صحيح تماما، لكنه أيضا يرتب ويثري نشاطنا العقلاني، فلا رواية أو قصيدة بدون جانب عقلاني يتمثل في التنظيم والترتيب والحرص علي إيقاع معين وهكذا مهما كان موغلا في الفانتازيا، والنشاط العقلاني يسري في الدماغ سريانا سحريا، فالفانتازيا، أو الصور الشعرية الجامحة تثري النشاط العقلاني أكثر بكثير مما نتصور. إن العودة للخلف تبدو محتومة مادمنا لا نهتم بالجهل، ولا نبدأ البداية الحقيقية وهي بناء الإنسان داخليا ليكون جديرا باللحظة التاريخية التي يعيش فيها، وقادرا علي مواجهة تحدياتها التي لا تنتهي. وأبرزها استغلاله لتحقيق مصالح الآخرين، وتعميرِ أحوالهِم علي حساب أحواله هو، وما أكثر القوي التي تستخدمنا كأدوات لتدميرنا. إن الثورة لا نجاح لها إن اقتصرت علي استبدال أشخاص بأشخاص، الثورة استبدال أفكار بالية ، بأفكار جديدة وواعدة. و الثورة لا معني لها إن اقتصرت علي الميادين، الثورة ينبغي أن تحدث في الأدمغة والقلوب. لقد تعرض العقل المصري للتجريف في العقود الماضية، وبدون تعويض هذا التجريف لا يمكن أن نتقدم. فمن المسئول عن علاج ذلك التجريف؟ إنه المثقف الحر والمبدع الخلاق. لا أريد الإطالة في توضيح أهمية الثقافة والمثقف الحر في حياتنا، فكل أوضاعنا الاقتصادية والاجتماعية والسياسية مرهونة بوجوده، ونجاحه في دوره، لكن: أين المثقف الحر؟ أين الثقافة في برامج الأحزاب؟ أين الثقافة في برامج المُرشحين للرئاسة؟ أين الثقافة في وزارة الثقافة؟ تخيلوا لم يسبق لمحافظة قنا إقامة مؤتمر كهذا، باستثناء احتفالية قديمة تمت باسم مؤتمر أمل دنقل. تخيلوا لم يسبق لوزير ثقافة أن زار قنا علي الإطلاق، فماذا يعني هذا؟ لقد رأينا معالي الوزير وهو يحضر ندوات صغيرة جدا في القاهرة، ويقدم نفسه علي أنه المتابعُ النشط، الوزيرُ المختلف الذي لا يعرف البرج العاجي، واستبشرنا خيرا، وقلنا آن لنا أن نحظي بوزير لا يتمطع في برجه العاجي، ويقترب من الشارع ليعرف المشكلات ويتلقي اقتراحات المثقفين، في تلك اللحظة الحرجة. أرسلنا دعوة لمعاليه، لكنه حتي لم يرد علي الدعوي، وكأن أدباء الصعيد لا يستحقون ما تستحقه جمعية ٌصغيرة تقيم ندوة، سيقولون بالطبع كان مشغولا، ولا أدري ما هو أهم من الصعيد، في لحظة تأتي مرة في العام وقد لا تأتي. إلي أي حد يمكن أن نعتبر عدم رده علي الدعوي إهانة لأدباء الصعيد كما صرح لي بعضُ الأصدقاء ناهيك عن كونها دليلا علي أن معاليه يضحك علينا، عندما يوهمنا باحترامه للشارع الثقافي، وإلا فلماذا يضيع فرصة اللقاء بأدباء الصعيد، ولاستماع إلي همومهم ومقترحاتهم. والمؤسف أننا بحاجة لمعاليه لأسباب كثيرة وعجيبة: خذوا مثلا، تم صرفُ الملايين علي إنشاء متحف السيرة الهلالية، وهو مكتمل منذ سنوات، لكنه مغلق لسبب واحد، وهو عدم حضور الوزير ليبارك المبني، ماذا يعني صرف الملايين، وإغلاق المبني؟ أدعو معالي وزير الثقافة لإصدار أمر بافتتاح متحف الهلالية، ما دام لا يريد أن يلوث قدميه الطاهرتين بتراب قنا. وأتمني أن يتحرك لمنع تبديد مال الشعب علي هذا النحو. إن مظاهر تهميش الصعيد من قبل الوزارة كثيرة، ويكفي أن أشير إلي تجاهل أدباء ومثقفي الصعيد في لجان المجلس الأعلي للثقافة، والمؤسف حقا أن تشكيل تلك اللجان شهد اختيارات لا تدل إلا علي فساد حقيقي، تري ما معني اختيار جاهل بمعني الكلمة في لجنة من لجان المجلس، في الوقت الذي يُحجب فيه مثقف أو مبدع حقيقي؟ خاصة وأن ذلك يحدث في وقت الثورة لا وقت الفساد؟ كم من أدباء الصعيد فاز بجائزة الدولة، العدد يعني أنهم تافهون، فهل أدباء الصعيد تافهون فعلا؟ ألا يوجد بينهم من هو أفضل من كثيرين حصلوا علي مباركة الدولة؟ دعونا نستسلم للأمر الواقع، لقد قررت وزارة الثقافة أن تعامل أدباء الصعيد كمخلوقات من الدرجة الثانية، وجعلتهم في كفالة هيئة قصور الثقافة، وحرمت عليهم تجاوز حدودها، لا بأس، هذا يكفينا، غير أن المؤسف أن الهيئة أيضا لا تحترم أدباء الصعيد، والبراهين كثيرة وكثيرة. سوف أكتفي هنا بحدود هذا المؤتمر. لقد كانت تجربة هذا المؤتمر مريرة، ولا أريد أن استعرض مكابداتي أنا وزملائي في الأمانة، ومدي شعورنا بالمهانة طوال عامين، ونحن نرفع راية العند والمحايلة، وكثيرا ما كنا نقول " الهيئة لا تريد عقد المؤتمر، لكننا سنكافح من أجل انعقاده. لقد تعبنا من هيئة قصور الثقافة، وأنا اشعر بأن التعامل معها حماقة، فهل هذا ما يريدون؟ تم إلغاء هذا المؤتمر في العام الماضي، وهو المؤتمر الإقليمي الوحيد الذي لم ينعقد، والسؤال الذي شغل جميع أدباء الصعيد هو لماذا نحن من دون الأقاليم؟ لقد كتب رئيس الإقليم مذكرة لرئيس الهيئة يطلب فيها إلغاء المؤتمر لماذا؟ لعدم الجدية كما يقول بالحرف الواحد. واقترح توزيع ميزانية المؤتمر علي المحافظات. وقد وافق رئيس الهيئة وهو يغض البصر عن كلمة عدم الجدية التي تعد اعترافا صريحا بالتقصير. ومررها دون نقاش. وانتظرنا توزيع الميزانية علي محافظات الصعيد، وحتي يكون كلامي يقينيا، لم يُصرف مليم واحد في قنا من تلك الميزانية، ولا أعرف ما حدث في باقي المحافظات، فأين ذهبت تلك الميزانية؟ وعندما حصلنا علي بعض المعلومات التي تفيد تضليلنا، صدمنا معالي رئيس الهيئة صدمة كبيرة، عندما أخبره عضو الأمانة الشاعر محمود الأزهري بالواقعة،فبدلا من أن يتصل فورا بمعالي رئيس الإقليم، ويفحص الشكوي، طلب من شاعرنا كتابة شكوي رسمية وإرسالها، فامتثل عضو الأمانة، ثم ماذا؟ لم يحترم رئيس الهيئة استغاثتنا به، ولم يحاول أن يشرح لنا السبب ، ونحن نعتقد أنه ألقي الشكوي في سلة المهملات. وفي هذا العام وبعد إنجاز كل الأمور، كنا ننوي عقد المؤتمر في أول فبراير علي أكثر تقدير، لكن تحديد الموعد من اختصاص رئيس الهيئة، أو علي الأقل بموافقته، وتم تحديد أكثر من موعد وتغييره، مما أوقعنا في مشكلات مع بعض الضيوف الذين سخروا من تخبطنا، وعدم جديتنا، وبالفعل رصدنا اليوم عدم حضور عدد كبير من الإعلاميين ورموز الإبداع، لقد استهانوا بالموعد وتوقعوا تغييره، والمسئول عن ذلك رئيس الهيئة، الذي لا بد أن يضع الموعد النهائي بحيث يتوافق مع أجندته. ومع ذلك فوجئنا بعدم حضوره لتكريم أدباء الصعيد والتواصل معهم، رغم أنه نشر اخبارا كاذبة تفيد قيامه بافتتاح مؤتمر الصعيد منذ يومين. ليلمع صورته بمجهوداتنا دون أن يغادر مكتبه، وبعد أن أثر سلبا في المؤتمر بسبب إهماله له، وعدم متابعته، وإضفاء الشرعية علي من يعترف بعدم جديته، وإلقاء الشكاوي في سلة المهملات، دون الرد علي أصحابها، وأخيرا يرفع صوته ليطالب بميزانيات كي تذهب هباء في ظل الإدارة السيئة. أخيرا، نحلم بدخول الثورة إلي وزارة الثقافة عبر مستويين: الأول هو تثوير العمل داخل الوزارة، ونحن ننتظر وزيرا ثوريا ليفعل ذلك، لا مجرد وزير روتيني يسير بنفس الأسلوب الفاشل. المستوي الآخر هو فرض وجود المثقفين في تلك المرحلة، وإزالة المعوقات من طريقهم، وتشجيعهم ليلعبوا دورا في تلك المرحلة، لا العمل علي إحباطهم وانصرافهم. ولا أعرف لماذا يترك وزير الثقافة معركة الدستور؟ بينما لا يتركها الأزهر؟ ندعو إلي مؤتمر خاص برؤية المثقفين لتثوير العمل في وزارة الثقافة، وتقديم ورقة عمل جادة تشمل ما يكفل للوزارة القيام بدور حقيقي وفعال في الدولة الجديدة. فهل يفعلها الوزير؟