صراحة، لم أكن أفكر في إجراء هذا الحوار، لسببين، أولهما أنني لم أقرأ لبيرسا كوموتسي سوي رواية واحدة، وهي "نزهة مع نجيب محفوظ"، العمل الوحيد الذي ترجم لها، وأنا أحب أن أكون مطلعة دائماً علي غالبية أعمال من أحاوره، إن لم يكن كلها، وثانيهما أنني بالطبع لا أتحدث اليونانية، ولا أعرف إلي أي مدي تجيد بيرسا العربية، لأن حواراً مع شخصية مهمة مثلها يجب أن يتم دون وسيط. كنت بالمصادفة في الإسكندرية، وسمعت هناك أن بيرسا كوموتسي موجودة في المركز الثقافي اليوناني، وأنها تقضي ساعاتها الأخيرة في مصر، الأمر الذي أغراني، وحملني مسئولية ما، لأن رحيلها هكذا دون أن نعرف عنها شيئاً، ينطوي علي نكران للجميل. تخيلت في البداية أن لقائي بها دون موعد لن يروق لها، لأنني كنت علي دراية بسيطة بطبيعتها. هي لا تجيد الكلام عن التفاصيل، وتنسي دائماً المعلومات المهمة، والأكثر جوهرية. ما يشعرها بالإرهاق، والقلق، كلما دُعيت إلي لقاء. أول ما تفعله بيرسا حين تقابل أحداً، تعرفه، أو لا تعرفه، هو أن تضحك له، تضحك وليس تبتسم. كان ذلك مبشراً، لأنه يعني أن ثمة حواجز كثيرة قد أزيلت. أخبرتها، دون تمهيد، أنني أريد أن أستغل الوقت المتبقي وأتحدث معها قليلاً حول تجربتها في الترجمة، وحول علاقتها بنجيب محفوظ. حين قلت "نجيب محفوظ"، وجدتُ وجه بيرسا يتوّرد، كما لو أن الحياة رضيت عنه فجأة، وقررت أن تزوره. علي الفور، ذهبنا لنجلس في مكان. كانت بيرسا لطيفة للغاية، وكانت تحاول التغلب علي توترها، كلما خانتها اللغة، أو عجزت عن التعبير. بعربية مكسرة، وبذاكرة عنيدة، حكت لي بيرسا القليل عن حياتها. القليل الذي هو الكثير بالنسبة لها. - أريد بداية أن أعرف لماذا قررت الرحيل - قبل أكثر من ثلاثين عاماً - عن مصر، وطن قلبك، كما تقولين دائماً؟ بعد انتهائي من دراستي الجامعية، شعرت أن عليّ الرحيل من مصر، رغم أنني قبلها لم أكن أفكر في ذلك، لم أكن أتخيل أصلاً أن بإمكاني أن أعيش في بلد آخر، حتي لو كان هذا البلد هو الوطن الذي كان يجب أن أولد فيه، خصوصاً أنني كنت مرتبطة كثيراً بالمكان الذي عشت فيه، كما أن هويتي كانت قد تشكلت تماماً. في تلك الفترة كان الأفق في مصر بالنسبة للأجانب قد ضاق، وكانت حوادث التطرف والتعصب الديني قد انتشرت، مما أصابني بالذعر. كان عليّ حينها أن أختار بين بلد أحبه وأنتمي له مع مستقبل غير واضح، وبين بلد أحبه أيضاً لكنني لا أعرفه مع حياة تغمز لي بعينها وتوعدني بالحرية. أي أحد.. أي أحد مفعم بالحياة سوف ينحاز للاختيار الثاني، وهذا ما فعلته. لم يكن القرار سهلاً بالطبع. رحلت إلي اليونان وأنا لا أعرف ماذا أفعل. أكثر شيء كنت خائفة منه، هو أن أفقد مصريتي، وألا أتحدث العربية بعد ذلك. كنت خائفة أيضاً من المجهول، ومن المجتمع الجديد عليّ بعاداته وثقافته. كل شيء كان يخيفني ويغريني في نفس الوقت. في سنواتي الأولي باليونان، شعرت باضطراب شديد، لأن مشاعري تجاه البلد الذي كبرت فيه كانت أقوي بكثير من تلك التي أحملها لبلد أعرفه بالكاد من الرحلات، كما شعرت بالوحدة لأنني لم أكن أعرف أحداً، وكنت قد فقدت أي اتصال بزملائي من مدرستي في القاهرة الذين غادروا قبلي. كان صعباً عليّ في البداية أن أتخلي عن كل ما اعتدت عليه في مصر، من سلوكيات وممارسات حياتية عديدة، لكن لم يكن أمامي -في نفس الوقت- سوي أن أتعايش. وفي يوم من الأيام، قررت أن أحسم هذا الصراع، ورأيت نفسي محظوظة، لأن لديّ لغتين وهويتين وبلدين. -متي بدأت علاقتك بنجيب محفوظ؟ بدأت تقريباً حين رأيته أول مرة في شارع مراد، وكنت وقتها في عمر الخامسة أو السادسة، ولم أكن أعرف من هو، لم أكن أعرف أن مصيري سيتعلق به، لكن ما أعرفه، أو ما أتذكره بالأحري، أنه لفت انتباهي بابتسامته البريئة، وبنظاراته السميكة التي كانت تظلل الجزء الأكبر من وجهه. لأدرك بعد سنوات قليلة أنه الكاتب الأهم في مصر. وهو ما جعلني أنشغل به، وأقرأ له، وأتابع المسلسلات والأفلام المأخوذة عن رواياته، والتي كانت تذاع كل جمعة بعد صلاة الظهر. -ألم تلتقي به ثانية؟ هذا السؤال بالتحديد لا أعرف بم أجيب عنه. لأن مقابلة واحدة في طفولة بعيدة، وفي وقت لم أكن أعي فيه بأي شيء، لن تكون، ولم تكن يوماً، مرضية. خصوصاً أن الحظ لم يحالفني لأن ألتقي به بعدما صرت مترجمته في اليونان. لكنني ظللت طيلة الوقت أشعر أنني قابلته كثيراً، وأنه كان معي في أهم لحظات حياتي. الأكثر من ذلك، أنني أشعر أن علاقتي به مستمرة حتي اليوم. -كيف كانت تجربتك الأولي مع الترجمة؟ هل وجدتِ صعوبة ما؟ هل شعرت أنها ستكون محض محاولة، أم طريق ممتد أمامكِ؟ أذكر أن عمري حينها كان 26. وكما قلت لكِ كنت ضائعة، وممزقة. وحين سمعت أن إحدي دور النشر، وتدعي بسيخويوس، تريد أن تترجم نجيب محفوظ من الإنجليزية إلي اليونانية، جننتُ، وشعرت بأسي شديد، لأن هذه ستكون أول ترجمة لكتاب له في اليونان، فحتي ثمانينيات القرن الماضي لم يكن اليونانيون يعرفون شيئاً عن نجيب محفوظ، لم يكونوا يعرفون شيئاً عن الأدب العربي، وكانت اللغة العربية بالنسبة لهم لغة جديدة، لذا أحسست أنه من المهم أن تتم الترجمة من العربية، وليس من أي لغة أخري. كما أحسست بشكل غامض أنه سيكون لي دور في ذلك، وقلت لنفسي: »هذه فرصتك يا بيرسا! هذه فرصتك كي تظلي مصرية إلي الأبد!» استجمعت شجاعتي، وذهبت إلي الناشر -أذكر أنه كان رجلاً طيباً- وأخبرته أنني من بلد نجيب محفوظ، وأنني قرأت له كثيراً، وأشعر أن بإمكاني أن أترجم له. صمت الرجل قليلاً، وقال: دعينا نجرب. لم أنتظر لحظة، وبدأت العمل علي الفور. بدأت من رواية »السكرية»، التي ترجمتها في ستة أشهر، بفطرة المترجم حين يترجم أول كتاب له. بمنتهي الحماس، والسعادة، ذهبت إلي الدار وفي يدي الترجمة، وأخذتها مني امرأة، لا أتذكر الآن طبيعة عملها في الدار، أخذتها مني، وقرأتها. لكنها أخبرتني برفق أن الترجمة ليست جيدة، وأنني لكي أترجم كتاباً عليّ أن أقرأه عشر مرات، وأكتبه عشر مرات. انزعجت حينها، لكنني لم أفقد الثقة في نفسي، ولم يكن لديّ صراحة النية لأن أضيع هذه الفرصة. وعملت علي »السكرية» ستة أشهر أخري. ووجدتني في هذه المرة -مع كل كلمة.. وكل جملة أترجمها- أستعيد كل شيء؛ الشوارع، والأزقة، والناس في الأحياء الشعبية. أستعيد اللغة، وأصدقائي، وبيت أهلي في شارع مراد. أستعيد طفولتي وشبابي وذاتي التي تركتها هناك. من هنا، كانت بدايتي مع الترجمة بصفة عامة، ومع محفوظ بصفة خاصة، لأجد نفسي بعدها أنجذب إلي بقية أعماله بشكل لا إرادي. ومع كل كتاب ترجمته له كنت أشعر أنني أدخل إلي عقله، وإلي عمق روحه. أزعم أنني أعرف محفوظ جيداً. أزعم أنني أفهمه. وأنني علي دراية كاملة بفلسفته، وبفكره. لقد وهبت حياتي له، لأنه أنقذني من الضياع، وجعلني أشعر أنني أولد من جديد، فلولاه لكنت فقدت هويتي المصرية، لولاه ما كنت شيئاً. لذا أشعر أننى محظوظة لأننى ترجمت له 18 عملاً إلى اليونانية حتى الآن. -هل تذكرين ردود فعل القراء اليونانيين حين نُشرت السكرية؟ أوه. لقد كان حدثاً استثنائياً حينها، كنت كلما قابلت أحداً أجده مبهوراً. فى الحقيقة، اليونانيون لا يزالوا مبهورين بنجيب محفوظ، لأنهم وجدوه قريباً من حياتهم، وعوالمهم. إذ استطاع محفوظ أن ينفذ إلى أى إنسان مهما كان جنسه أو لونه أو دينه، لأنه فى كل أعماله كان يتحدث عن الإنسان العادي، وكان يرفع من شأنه، ويضعه فى مصاف الأبطال بنجاح وإقناع شديدين. لقد نجح فى أن يوقع بالروح الإنسانية ويأسرها بين صفحاته ويضعها تحت الأشعة المجهرية ببراعة أسلوبه الذى كان يأتى شعرياً تارة، وتأملياً تارة أخرى. وهذه ميزة عظيمة لديه، أنه جعل باستطاعة أى أحد أن يقرأه. وأتصور أن هذه الميزة يجب أن تتوفر لدى الكتاب الكبار. -تٌلقّبين محفوظ دائماً ب «المُعلّم».. ماذا تعلمتِ منه؟ وأى عمل له كان الأكثر تأثيراً فيكِ؟ كل كتاب له أثر فيّ وعلمنى بطريقة مختلفة. كل كتاب ترك بداخلى بصمة، ومذاقاً لا يوصف من الاكتمال والرضا، وهى معان لم أجدها قط عند أى كاتب آخر. أحببت كثيراً «المرايا» و«زقاق المدق»، وغيرهما من الروايات التى فتحت لى آفاقاً واسعة فى عقلى وروحي. كل عمل كان بالنسبة لى بمثابة رحلة أقوم بها إلى أماكن ليس بوسعى الذهاب إليها. وحتى يومنا هذا كلما قرأت له كتاباً، تغمرنى نفس الدهشة، وتأسرنى صوفيته وغموضه. أذكر مثلا العمل الأول الذى قرأته له وأنا فى التاسعة من عمري، والذى أكملته بعد ثلاثين عاماً! وهو «ليالى ألف ليلة» الذى ترجمته إلى اليونانية بعنوان «أيام وليالى جزيرة العرب». هذا الكتاب على وجه التحديد غير فكرتى عن العالم. -وهل تأثر أسلوبك الروائى به؟ كثيراً. لقد ظللت طيلة السنوات الماضية منشغلة بأعماله، وكنت دائماً أجد نفسى مسحورة ليس فقط بأسلوب كتابته، أو بوصفه المدهش للأماكن وشخصياته المركبة، لكن بتفكيره المستقر، وحكمته. لذا كان طبيعياً أن تتأثر كتاباتى به. وأن أكتب بإلهامه. فلا يوجد عمل لى ليس فيه شىء منه. -أنتِ ممتنة له إذن.. بالتأكيد. بسببه حصلت على العديد من الجوائز، كما أتتنى دعوات من أشهر الجامعات فى العالم كى أشارك فى مؤتمرات، وأتحدث عن الخبرة التى اكتسبتها من ترجمة أعماله، مثل جامعة سان بطرسبرج، إذ ألقيت هناك محاضرة للطلاب الروس فى قسم الدراسات الآسيوية والأفريقية، بحضور عدد من الأكاديميين الذين ترجموا له بعضاً من أعماله. بسبب محفوظ صفق لى الجميع طويلاً. -لقد ترجمتِ أيضاً لعدد من الكُتّاب المصريين، أى منهم الأقرب لك بعد محفوظ، وكيف ترين أعمالهم؟ ترجمت لبهاء طاهر وليوسف زيدان ولإبراهيم عبد المجيد. وأحببت أعمالهم كثيراً. لكننى لا أستطيع أن أقارن نجيب محفوظ بهم، ولا بأى كاتب فى العالم. -لماذا؟ ربما لمكانته الخاصة عندي، وربما لأدبه الفارق، وربما أيضاً لما فعله مع اليونانيين، فلقد رفع من ذائقتهم الأدبية، وجعلهم شغوفين بالأدب العربي، ليس هذا فقط، بل خلق لديهم رغبة فى تعلم اللغة العربية، وهو ما جعل الجامعات لدينا تُدرج اللغة العربية فى قائمة تخصصاتها. -هل لديكِ مشاريع أخرى فى الترجمة؟ لديّ الكثير جداً. لقد انتهيت من ترجمة «دعاء الكروان» لطه حسين. وفى انتظار نشرها. وأدرس الآن أعمال عدد من الروائيين المصريين. لأترجمها، من بينهم صنع الله إبراهيم.. وطارق إمام الذى أراه من الذين سيحققون قبولاً كبيراً لدى القارئ اليونانى خاصة بروايته «الحياة الثانية لقسطنطين كفافيس»، التى ترجمت عدداً من فصولها. كما أننى أعمل بالفعل على كتاب يضم مختارات من روايات عربية ومصرية، وأعمل أيضاً على أنطولوجيا صغيرة للشعر العربي، والتى ستضم قصائد لكل من «أحمد شوقي، ومحمود درويش، وسميح القاسم، ووديع سعادة، ورفعت سلام، وغيرهم». هذه الأنطولوجيا تشغل بالى بشكل خاص لأننى أحب الشعر، وأكتبه أيضاً. -هذا يعنى أننا سنرى لكِ ديواناً خلال الفترة المقبلة؟. لا. ليس لديّ رغبة فى نشر قصائدي، ويزعجنى كثيراً لو اطلع عليها أحدٌ، لأننى أكتب الشعر لأعبر عن نفسى وعن مخاوفي، ما يعنى أنها قصائد شخصية جداً. -حسناً، أريد أن تحدثينى قليلاً عن روايتك الأحدث «أصوات سكندرية». هى روايتى السابعة، وتدور أحداثها فى إطارٍ تاريخي، فى الفترة ما بين الحربين العالميتين، حيث أستعيد فيها شخوصاً يونانية حقيقية عاشت فى مصر، وبالأخص فى مدينة الإسكندرية، فى شارع ليبسوس، مثل كفافيس. وهى آخر رواية لى فى حلقة رواياتى عن مصر، لأننى أشعر أننى كتبت كل ما أريده عنها. كما أننى مشغولة الآن بالكتابة عن تاريخ اليونان. لكن من يعلم، فمن الممكن جداً أن أعود لأكتب ثانية عن مصر. لأننى أؤمن أن الإنسان يعود فى النهاية للأشياء التى تأسره.