ربما لم يعد مستغربا من جمهور المثقفين والفنانين ومرتادي وسط البلد وجود مهرجان فني سواء تركزت انشطته علي نوع فني واحد أو أكثر، وأيضا سواء كانت فعاليات المهرجان مقامة في مكان واحد، أو موزعة علي أكثر من مكان. لكن يأتي مهرجان وسط البلد للفنون المعاصرة أو "" D-caf "دي كاف" الكلمة المختصرة للدلالة علي المهرجان وهي الحروف الاولي من الكلمة بالانجليزية، ليثير دفقة حيوية جديدة في منطقة وسط البلد، ربما لكونه أول فعالية فنية كبيرة متعددة النشاطات تقام في وسط القاهرة بعد الثورة، وأيضا لوجود فعاليات المهرجان في ساحات فنية جديدة اعاد المهرجان اكتشاف جزء منها مثل مسرح وسينما راديو بشارع طلعت حرب، المغلق منذ ما يقرب من خمسة عشر عاما، وفندق فينواز القديم بشارع محمود بسيوني، بالإضافة إلي مسرح الفلكي، ومكتبة الحرم الجامعي التابعين للجامعة الامريكية، وبعض الاماكن المعهودة مثل جاليري التاون هاوس، ومعهد جوتة، والشوارع المجاورة لمبني البورصة المصرية. اتساع المدي الجغرافي للمهرجان داخل وسط القاهرة، ووجود العديد من الانشطة الفنية داخل هذه المساحة خلق ارتباطا في أذهان الكثيرين بين "دي كاف" وبين مهرجان "نطاق" الذي عقد بوسط القاهرة أيضا قبل ما يقرب من عشر سنوات، والذي كان بمثابة نقطة الاعلان والانطلاق للمنظمات المستقلة العاملة في مجال الثقافة والفن بشكل عام. "دي كاف" استمر علي مدي ثلاثة اسابيع، حيث تم تقديم حوالي 14 حفلا موسيقيا، و15 عرضا مسرحيا وراقصا، بالاضافة إلي معرض فني، ومحاضرات لفنانين، وورش فنية للعديد من الفنانين المصريين والعرب والاجانب، وتم اهداء المهرجان إلي "أرواح كل من استشهد من أجل الحرية منذ 25 يناير 2011 وحتي الان". ذخيرة الأمة...موسيقيا الهدف المعلن من البرنامج الموسيقي ل "دي كاف" هو "خلق منبر وشبكة اتصالات للموسيقيين المعاصرين والتجربيين الذين يقيمون ويعملون في القاهرة، وأيضا مع زملائهم الدوليين" مع التركيز علي الموسيقي الإلكترونية تحديدا التي زادت شعبيتها خلال العشر سنوات الاخيرة كما يري صناع المهرجان، ربما يكون القول السابق صحيحا فأشكال الموسيقي الاليكترونية أصبحت واسعة الانتشار خاصة موسيقي "المهرجانات" المنتشرة في شوارع مصر الان، والتي كان لها مكان في عروض "دي - كاف" الموسيقية، لكن تبقي الموسيقي الالكترونية التجريبية هي الأضيق علي مستوي مساحات عرضها وايضا جمهورها وبالتالي اشكال التفاعل النقدي معها. بدأت حفلات المهرجان الموسيقية مع الفنان حسن خان الكاتب والموسيقي والفنان البصري، الذي جاء حفله تحت عنوان "مصادر موثوق بها" وقدم من خلاله عددا من مقطوعاته "الموسيقية" التي سبق له تقديمها من قبل، وضع القوسين حول كلمة موسيقية حسن خان، ليس اعتباطا، فبداية من شكله علي المسرح، لا يشبه خان الموسيقي التقليدي الذي يقف علي خشبة المسرح مندمجا مع آلته الموسيقية التي يعزف عليها، حيث يمكنك كمستمع أن تستشعر تجاه الموسيقي، كيف تصعد وكيف تهبط وكيف تتجه إلي النهاية. لكن خان يشبه عالماً يقف في معمل، أمامه لوحة هائلة من الازرار التي يحركها باستمرار متنقلا فيما بينها، ليصنع عبر تلك الحركات "موسيقاه"، التي تبدو غريبة علي أذن غير معتادة علي الموسيقي الاليكترونية التجريبية خاصة. يبدو أن حسن أيضا يحب استعمال الكلمات الكبيرة اذ تستند موسيقاه علي "التكوين الخارق لذخيرة الأمة" وهو اسم احدي المقطوعات التي لعبها حسن خلال حفله، اذ يعتمد حسن علي استخدام تيمات موسيقية شهيرة من التسعينيات بداية من تيمات حميد الشاعري، إلي تيمات الموسيقي الشعبية في ذلك الوقت وصولا إلي تيمات المهرجانات، الصيغة الاكثر شعبية للموسيقي الاليكترونية. هذه التيمات التي ربما عبرت علي أذاننا تكتسب مع خان بعدا آخر يتجاوز شعبيتها ليدخل بها في دائرة أخري أكثر نخبوية. موسيقي خان طرحت عليّ سؤالا له علاقة بالتفاعل، كيف يمكن للمتلقي أن يتفاعل مع هذه "الموسيقي" خاصة انها ليست طربية، وبالتالي لا يمكن الاستماع لها جالسا وهي احد مشاكل مسرح وسينما راديو حيث أقيمت الحفلة، إذ يبدو المكان غير مؤهل لاستقبال هذا النوع من الحفلات التي تحتاج إلي مكان أكثر خلوا بحيث يسمح للجمهور بالحركة أو بالرقص ولكن حتي الرقص مع خان يبدو مشكلا لانك لا تعلم اتجاه الموسيقي، من ناحية أخري ربما تلتقط الاذن المصرية تيمات التسعينات او الموسيقي الشعبية، ولكن ماذا عن الاذن الاجنبية التي تتلقي تلك الموسيقي بدون خبرة سابقة بخلفياتها، كيف يمكن ان تتفاعل معهااستخدام حسن "للذخيرة الهائلة للأمة" يطرح اسئلة حول كيفية تلقي الموسيقي المعاصرة من ناحية، وايضا حول "مصرية الموسيقي" اذ كيف يمكن القول ان هذا المنتج الموسيقي هو مصري، او لا، او ان هذا السؤال بالاساس لم يعد مهما في السياق الموسيقي العالمي المعاصر التي تتداخل فيه خبرات الجميع عبر العالم. سؤال "مصرية الموسيقي" كان ملحا عليّ بعد سماع خان، وايضا فرقة "تليبويتك" التي عرضت في ثاني ايام المهرجان، وهي فرقة مصرية تأسست في 2006 وتضم ثلاثة اعضاء اساسيين، وفي بعض الاحيان يشترك معهم لاعب الساكسفون محمد العيسوي الذي شارك في عرض تلك الليلة، لعبت الفرقة موسيقي إلكترونية يمكن الاحساس ببدايتها وصعودها ونهايتها، لكنها تطرح بقوة هذا السؤال حول "مصريتها" وهو الامر الذي أجاب العيسوي بأنه لا يعنيه كثيرا، وبالنسبة له هذا سؤال يمكن ان تحدده جنسية الفرقة التي تلعب الموسيقي، وعندما اسأله: وماذا لو ضمت الفرقة عازفا أجنبيا أو أكثر كيف يمكن تحديد جنسية الموسيقي؟ أجابني ستصبح ساعتها الموسيقي عالمية. حيث سؤال الجنسية في الموسيقي لم يعد سؤالا هاما في الموسيقي المعاصرة بحسب محمد العيسوي. اجابة العسيوي لها دلالة هامة، ربما يصعب استيعابها علي الاذن التقليدية، ولكنها ايضا تفتح الباب علي اسئلة كثيرة لها علاقة باهمية التعاطي مع التجارب الموسيقية الجديدة بحيث يمكن ان تصنع أرضية سماعية، وجماهيرية تمهد الارض امام اشتباك نقدي معها وبالتالي فتح فضاءات ممكنة من التفاعل، خاصة وأن كل الحفلات الموسيقية في المهرجان كان لها رسم دخول وهو ما قصر عدد الجمهور وبالتالي مساحة التفاعل. الرقابة ...بصريا مساحات التجريب لم تقتصر علي العروض الموسيقية فقط، ولكن في الجزء المتعلق بالفنون البصرية في المهرجان كان هناك همّ أوسع من مجرد التجريب، كانت الرقابة هي الهاجس الاساسي للمعرض الذي شهدته ساحة المصنع التابعة لجاليري التاون هاوس، والذي نظمه مركز الصورة المعاصرة تحت عنوان "أنا مش هنا" الذي لم يكن معرضا تقليديا ولكنه كان معرضا عن معارض واعمال فنية لم تر النور بسبب "الرقابة" فالمعرض حكايات عن أعمال غير موجودة، ومكان الاعمال المفترض، هناك نصوص بطول الحوائط تحكي كيف تم منع العمل من العرض، بالاضافة الي اطارات فارغة كان من المفترض ان تضم الاعمال الفنية التي تبدو وكأنها تنطق بعنوان المعرض "أنا مش هنا". اللافت للنظر في المعرض انه لم يقتصر علي شكل رقابي واحد مثل الرقابة السياسية أو الدينية، ولكنه تعرض لاشكال مختلفة من الرقابة او التعقيدات البيروقراطية التي تمارس دورا رقابيا ربما لا ينتبه اليه غالبية المتلقين، تحكي الفنانة هدي لطفي كيف أرادت المشاركة في معرض جماعي في البحرين في اوائل 2005، وبدأت في اجراءات شحن اعمالها الفنية التي كانت عبارة عن قوالب تشبه الاحذية وعليها نقوش عربية، ولكن موظفي الجمارك تستوقفهم النقوش التي يظنون انها آيات قرآنية فيبلغون الجهات الامنية، خاصة وان مكتب النقل الذي يتولي عملية الشحن يمتلكه مسيحيون، وبالتالي وجدت لطفي نفسها أمام تهمة ازدراء الاسلام، ومحاولة الوقيعة بين المسلمين والمسحيين، وبعد مقابلات واتصالات تتمكن هدي من الخروج، لكن لا يتم السماح لأعمالها بالسفر. حالة رقابية أخري تعرضت لها الفنانة نرمين همام عند اقامة معرضها "ميتانويا" الذي كان نتيجة مشروع اقامت فيه ما يقرب من عام في احدي المصحات النفسية الحكومية، وقامت فيه بتصوير المرضي خلال حياتهم اليومية وذلك بالاتفاق مع مسئولي وزارة الصحة علي الا تعرض وجوه المرضي، ولكنها بعد الانتهاء من مشروعها فوجئت بمنع مسئولي الصحة ل30٪ من اعمالها بحجة تشويه حياة المرضي.