لم تكن مجرد امرأة عجوز انسحبت عنها أضواء الشهرة ..لكنها أقرب إلي الأبطال التراجيديين الذين يقضون حياتهم يتلمسون الطريق إلي اكتشاف حقائق وخفايا.. هي من نوع حساس من شخصيات قلقة تبحث عن شيء غامض وبعيد .. هؤلاء ينهون حياتهم وهم متعلقون بحقائق مطلقة، أي أنهم يسيرون الشوط إلي نهايته:الموت أو الذوبان في القيمة المجردة هكذا أرادت تحية كاريوكا أن تنهي حياتها بجوار المسجد النبوي في المدينةالمنورة . هل هذا نوع من التوبة كما يسمون اعتزال الفن في السنوات الاخيرة ؟ مثل تحية كاريوكا لا يمكن أن تتملص من سيرتها مع الرقص فهي كانت شعاراً لكل ما هو غير خاضع للإدارة والضبط والإنضواء في ثقافتها كما وصفها إدوارد سعيد وهو يراها أسطورة من أساطير شبابه في أربعينيات القاهرة .. كانت سحراً كاملاً لمراهق ابن رجل طموح قادم من فلسطين ليشق طريق الثروة والصعود الاجتماعي في القاهرة التي كانت وقتها مدينة توصف بانها كوزموبوليتانية ..اي متعددة الثقافات..مدينة هي مركزالحركة في الثقافة والسياسة والاقتصاد والفن .. ومكان العبور بين العالم القديم الذي انهار مع الحرب العالمية الأولي والجديد الذي دفعته الحرب العالمية الثانية إلي مرحلة النضج. في هذا المناخ كانت تحية ثورة في الرقص الشرقي بل إنها كانت علي وشك دخول بوابة المجد في هوليوود لكن قيام حرب فلسطين أعادها علي الفور كانت مزيجا من(العالمة) و(الراقصة) بالمفهوم الحديث الذي وضعت أساسه فنانة قادمة من بلاد الشام هي بديعة مصابني افتتحت صالة ونقلت الرقص من مهنة اجتماعية أساسا.. مكانها شارع خاص..إلي حالة فنية أقرب إلي الاستعراض ومن المؤسسة القديمة في حي العوالم إلي مؤسسة حديثة تدير علاقتها مع صناعات أقوي في المسرح.. والسينما أصبحت العالمة نجمة بمفهوم جديد. والعالمة أساسا تعني الراقصة التي وصلت إلي رتبة القيادة تتحرك حولها جوقة من العازفين غالبا من الرجال.. وفريق من الراقصات المساعدات .. إلي جانب رجال مخنثين يلعبون دور الصبي أو النائب ..العالمة هنا لها سلطة الرجال ..وفتنة النساء ..كائن مختلف تماما قادم من عالم الواقع إلي عالم الفانتازيا الاجتماعية تدخل البيوت في احتفالات الفرح..والزواج السبوع والطهور والختان..تدخل المكان في وضع استثنائي وتخرج منه ليعود إلي ما كان عليه . في شارع محمد علي كانت السطوة للعوالم : هن سلطة الشارع والشارع هو مكانهن الأقرب إلي بيت كبير واسع مفتوح علي بيوت صغيرة.. هذا العالم يندثر الآن ولا تبقي إلا صور للعوالم المعتزلات ورائحة مازالت عالقة بمكان حكمته النساء إلي جانب صوره العالقة في الذاكرة من روايات نجيب محفوظ وأفلام كثيرة أشهرها اخلي بالك من زوزو الذي لعبت فيه دور البطولة كل من تحية كاريوكا وسعاد حسني والمثير هنا أن الفيلم نفسه يمثل صراعاً بين القديم والجديد في مهنة الرقص وموقعه في المجتمع وازوزوب الفتاة الجديدة تصارع أصل العوالم وترفض مصير بنت الليل في الملاهي والمجتمع ينظر للرقص نظرة جديدة تفك الارتباط بينه وبين بيزنس الغواية .. هذه النظرة تهتز فقط في لحظات صعود المجتمع ..زوزو هي اللحظة التي لمعت فيها كاريوكا في الأربعينيات.. والتي تلتها لحظة أخري فتحت المجال لسعاد حسني وبعد ذلك لكي تلمع فريدة فهمي الراقصة التي تحمل شهادة جامعية في الرقص. ترقص تحية في مساحة صغيرة . لا تحتاج إلي ملعب كبير . ولا تعتمد علي الإفراط في الحركات بل علي قلتها . ترقص كأنها تحفر في موقعها .غوايتها تتحرك بغموض مع حركاتها الأفقية. سر الغواية يتجه إلي الداخل ويختلف عما تلجأ إليه راقصات أخريات من الألعاب البهلوانية أو التلوي علي الأرض كالحية أو الانخراط في استربتيز من نوع ما ولكن ليست تحية كاريوكالأن سحرها وتألقها يوحيان بشيء كلاسيكي...ورحلتها هي البحث عن حرية تزاوجت فيها الطاقة الحسية الهادرة بوعي فطري تختار فيه طريقها وصفات مقاتلة ظلت حتي رمقها الأخير تحارب من أجل إستعادة حقها من زوجها الغادر..وهي في رحلتها تكسر دائما الصورالتقليدية والمتوقعة. موهبتها شرسة تصل إلي أقصي جنون بالحياة وبالذوبان الكامل في المتع التي لا تحب استئناس الغرائز. ومن تطرف إلي تطرف قضت في السجن اياما بسبب عضويتها في رابطة السلام إحدي روابط اليسارفي مصر..وكانت كاريوكا علي علاقة بالحركة الديمقراطية للتحرر الوطني المعروفة بإسم حدتو من خلال إنضمامها إلي مكتب الكتاب والفنانين ونجحت في اقناع زوجها في ذلك الوقت الضابط مصطفي كمال صدقي بالانضمام إلي الجبهة الوطنية الديمقراطية التي كونتها حدتو وسافرت ضمن وفد اليسار المصري إلي مهرجان الشباب الديمقراطي الذي عقد برومانيا وعند عودتها كان الاعتقال الذي أرجعته في أحاديثها الأخيرة إلي كلمة قالتها في جلسة خاصة ووصلت إلي عبد الناصر كانت تصف فيها الضباط الأحرار بشكل لاذع وتقول : ذهب فاروق وجاء فواريق. وفي نهاية حياتها إعتكفت تحية كاريوكا في المساجد وأصبح لقبها المحبوب هو الحاجة واكتفت بورع العجائز الذين يرتقون فجوات العمر الأخيرة بنسيج من حكمة النهاية والاكتفاء الذي يبدو أقرب إلي رومانتيكية العشاق الذين يبكون علي التجارب الخائبة في نفس الوقت الذين يبكون فيه علي خفوت القدرة علي خوض نفس التجارب بخيباتها. المدهش أن نجوم ونجمات السينما الآن يعتذرون عن أدوارهم قبل أن يمثلوها. ملحوظة : هذا المقال لا علاقة له بالحملة الصحفية لمنع فيلم يحكي عن صحفية تتحول الي راقصة ةولا علاقة له بالقرف من الاخلاق البرجوازية ..ولا بأنني أفكر الآن في كيف صنع حسن الامام وصلاح جاهين خلي بالك من زوزو.