تسليم الكتب للطلاب في اليوم الأول من العام الدراسي الجديد    هبوط أسعار الذهب اليوم السبت 21 سبتمبر 2024.. مفاجأة سارة    بشرى سارة.. وزير الإسكان: تخفيض 50% من رسوم التنازل عن الوحدات والأراضي    وزير الإسكان: تخفيض 50% من رسوم التنازل عن الوحدات والأراضي بالمدن الجديدة    العاهل الأردني: يجب التوصل لوقف إطلاق النار دائم في غزة    مسار صعب يخوضه رئيس الوزراء الفرنسي .. تحديات بانتظار الحكومة الجديدة    أستاذ علوم سياسية: توسيع الحرب مع حزب الله يعرض تل أبيب لخطر القصف    تشكيل ليفربول المتوقع أمام بورنموث.. صلاح يقود الهجوم    الزمالك يواجه فرق الشباب وديًا استعدادًا لموقعة السوبر الأفريقي    «بعد حبسه».. بلاغ جديد للنائب العام ضد الشيخ صلاح التيجاني يتهمه بازدراء الدين    الحالة المرورية بالقاهرة الكبري.. سيولة بشوارع وميادين القاهرة والجيزة    زاهي حواس: حركة الأفروسنتريك تهدف إلى إثارة البلبلة لنشر معلومة زائفة وكاذبة    «الصحة» تعلن استعداداتها للتأمين الطبي للمنشآت التعليمية تزامنًا مع بدء العام الدراسي الجديد    توزيع الحلوى والورود على الطلاب.. بدء الدراسة بحضور الصفوف الأولى بكفر الشيخ (صور)    بإجراءات جديدة.. المدارس تستقبل الطلاب في أول أيام العام الدراسي (تفاصيل)    الولاء والانتماء والمشروعات القومية.. أول حصة في العام الدراسي الجديد    مسؤولون أمريكيون: البيت الأبيض يتوقع توسع القتال بين حزب الله وإسرائيل    مجلس الأمن يحذر من التصعيد ويدعو إلى ضبط النفس بلبنان    بدء التصويت في الانتخابات الرئاسية في سريلانكا    بوتين يشكل لجنة لإمداد الجيش الروسي بالمتعاقدين    ب«العمة والجلباب».. «المعاهد الأزهرية» تستقبل طلابها في أول أيام الدراسة بقنا (صور)    تقلبات أسعار الذهب في مصر: تقرير شامل لأسعار اليوم السبت 21 سبتمبر 2024    اليوم.. نهائي بطولة باريس للاسكواش ومصر تسيطر على لقبي الرجال والسيدات    ترتيب الدوري الإنجليزي الممتاز قبل الجولة الخامسة    أسعار الفاكهة في سوق العبور السبت 21 سبتمبر    أسعار الأسماك اليوم السبت 21 سبتمبر في سوق العبور    "مدرسة صفا مدرسة انتباه".. انطلاق العام الدراسي الجديد في بورسعيد - صور    استشاري نفسي: نشعر بالسعادة في فصل الخريف لبطء الحياة بعودة الروتين    انخفاض جديد في درجات الحرارة.. الأرصاد تزف بشرى سارة لمحبي الشتاء    استقرار أسعار اللحوم الحمراء اليوم السبت 21 سبتمبر    السياحة تشارك في الدورة ال8 للملتقى الدولي لفنون ذوي القدرات الخاصة    هاني فرحات وأنغام يبهران الجمهور البحريني في ليلة رومانسية رفعت شعار كامل العدد    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم السبت 21-9-2024    ما حكم تلف السلعة بعد تمام البيع وتركها أمانة عند البائع؟.. الإفتاء تجيب    أسعار الاسماك والمأكولات البحرية اليوم في سوق المنيب بالجيزة.. «البلطي» بكام؟    وزير الخارجية: مصر تدعم جهود الحكومة الصومالية الفيدرالية الرامية لتحقيق الأمن ومكافحة الإرهاب    «عاشور»: ارتفاع عدد الطلاب بالجامعات والمعاهد التكنولوجية    استكمال محاكمة محاسبة في بنك لاتهامها باختلاس 2 مليون جنيه    احتجزه في الحمام وضربه بالقلم.. القصة الكاملة لاعتداء نجل محمد رمضان على طفل    ريم البارودي تعلن انسحابها من مسلسل «جوما» بطولة ميرفت أمين    عاجل.. فيفا يعلن منافسة الأهلي على 3 بطولات قارية في كأس إنتركونتيننتال    ضبط 12شخصا من بينهم 3 مصابين في مشاجرتين بالبلينا وجهينة بسوهاج    وفاة والدة اللواء محمود توفيق وزير الداخلية    رياضة ½ الليل| مواعيد الإنتركونتينتال.. فوز الزمالك.. تصنيف القطبين.. وإيهاب جلال الغائب الحاضر    مريم متسابقة ب«كاستنج»: زوجي دعمني للسفر إلى القاهرة لتحقيق حلمي في التمثيل    بسمة وهبة تحتفل بزفاف نجلها في إيطاليا (فيديو)    موعد إجازة 6 أكتوبر 2024 للموظفين والمدارس (9 أيام عطلات رسمية الشهر المقبل)    تحرش بهما أثناء دروس دينية، أقوال ضحيتين جديدتين ل صلاح التيجاني أمام النيابة    "ألا بذكر الله تطمئن القلوب".. أذكار تصفي الذهن وتحسن الحالة النفسية    «الإفتاء» توضح كيفية التخلص من الوسواس أثناء أداء الصلاة    عبد المنعم على دكة البدلاء| نيس يحقق فوزا كاسحًا على سانت إيتيان ب8 أهداف نظيفة    بدائل متاحة «على أد الإيد»| «ساندوتش المدرسة».. بسعر أقل وفائدة أكثر    ضائقة مادية.. توقعات برج الحمل اليوم 21 سبتمبر 2024    مستشفى قنا العام تسجل "صفر" فى قوائم انتظار القسطرة القلبية لأول مرة    عمرو أديب يطالب الحكومة بالكشف عن أسباب المرض الغامض في أسوان    جوميز: الأداء تحسن أمام الشرطة.. وأثق في لاعبي الزمالك قبل السوبر الأفريقي    أكثر شيوعًا لدى كبار السن، أسباب وأعراض إعتام عدسة العين    آية الكرسي: درع الحماية اليومي وفضل قراءتها في الصباح والمساء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



عن حسن سليمان وميلانو ووسط البلد وسيوه والمستقبل:
عادل السيوي .. حكايات الحرية
نشر في أخبار الأدب يوم 19 - 02 - 2012

كان باتجاهه إلي آدم حنين، في الحرانية، وجد نخلة، جري باتجاهها، لأنه تذكر فجأة نفسه وهو طفل حينما كان يصعد النخل المائل في دمنهور. توقف في منتصف النخلة، أطرافه لا تقوي علي حمله، "لا عارف ينزل ولا عارف يطلع"، عفاف الديب، شقيقة علاء الديب، وزوجة حنين، وقتها، لم تهوّن عليه، بل أطلقت صيحاتها الغاضبة "هاتجيبلنا مصيبة". أدرك عادل السيوي أن الزمن مر بسرعة وأنه أصبح كبيراً!
اكتشف الفنان أن بداخله طفلاً، يزاحمه مراهق لا يزال ينظر باشتهاء شديد للنساء في الشارع، وثالث يريد ممارسة دور الشخص المتمكن، أصبحت شخصيته جماع وجوه، وهو لا يستطيع أن يتخلص من أحد تلك الوجوه نهائياً، كما أنه لا يستطيع السيطرة عليها، يعلق "أحياناً يهتف شخص ما في الشارع: يا ولد، فتلتفت، مع أنه لا يصح أن تلتفت، إنه لا يقصدك بالتأكيد، ولكنه أيقظ الطفل الكامن فيك"!
وصل السيوي إلي الستين، وعليه أن يعيد التفكير في أمور كثيرة جداً..يقول "وأنت في الستين تكون لديك مشكلة كبيرة جداً.. أن مستقبلك أصبح وراءك، ماضياً، وعليك أن تسأل: كيف ستتعامل مع القادم؟ هل هو تحصيل حاصل؟ كيف تكتشف أشياء جديدة حتي تستطيع الإكمال؟ حتي تعطي علي قدر طاقتك؟. لأول مرة تري حياتك ككل، حدث هذا مع أونجاريتي في الخمسين، رأي تجربته مع الحياة في صورة شاملة، حينما تصل إلي هذا العمر تحاصرك الأسئلة عن حياتك، وتبدأ الذاكرة في النشاط، ولو وقعت في الحنين سيجهز عليك، لأن الحنين يغلف الأشياء بجمال مزيف، مثلاً ستتذكر جمال المدرسة الابتدائية، رغم أنها قد تكون حقيرة ".
ويضيف "إما أن تستسلم لفكرة أن يكون الماضي هو استراحتك، أو أن تحاول استخراج طاقة منه، تعينك علي الإكمال، وتفتح لك أسئلة جديدة، ولحسن الحظ جاءتني ثورة 25 يناير، كشيء لا علي البال ولا علي الخاطر، وله علاقة بالمستقبل، حدث درامي، يمثل تحولاً كاملاً، رئيس جمهورية (بيتجرجر) من المستشفي للمحكمة، أمام عينيك، تمسكت بالفرصة حتي لا أجلس علي أريكة الماضي المريحة".
عن الأهل والجسد
هذه قصة أخري أيضاً لها علاقة بمرحلة الستين، أو بالتقدم في السن عموماً..
ذهب عادل إلي سيوه واشتري أرضاً صحراوية ليستصلحها، كانت لديه رغبة في إعادة أهله من البحيرة إلي سيوة مرة أخري. أهله ذهبوا إلي البحيرة واستقروا في عزبة السيوي، لم يستطيعوا التكيف مع الفلاحين، وعاشوا في منطقة خاصة بهم، شعر بأنهم مشتتون ومهانون، وفكر في إعادتهم، يقول "قابلت شيخ الحميدات، وعرفنا بمكاننا، أرضنا التي أورثتنا أسماءنا، كنت أفكر في اسمي، أردت ألا يكون شيئاً بدون معني، وكان لا بد أن أبحث عن أصول قبيلتي، وبدأنا في زراعة الأرض بالزيتون والنخل، كما كان يفعلون"، ويكمل "لما شجرة تطلع، ولما نخلة تكبر، حينما يتغير الرمل، ولما فلاح يأتي وينجب طفلاً، وتري حماراً، ومعزتين، سيكون أمامك شيء ساحر. نعم شيء ساحر أن تربط نفسك بشيء له علاقة بالقادم، بمعني أنك لو عشت علي صياغة مهاراتك القديمة، في الرسم، ستنسخ نفسك، لكن لو وجدت مكاناً جديداً تتعرف فيه علي نفسك، بشكلك هذا، وبطريقتك، وتركيبتك، وتعمل مغامرة تخص روحك، وشخصك، بنزواته، وجنونه، وحماساته، وجاذبية ألوانه، ستنجح في الإفلات من الماضي".
الفنان يكون لديه جزء جسدي في الأداء، ومن المؤكد أن التقدم في العمر يخلق مشكلة ما له. يوافقني "أنت ليست لديك هذه المشكلة، أنت كاتب، ولكن الراقص، المغني، الرسام، يستخدم عينه، ويده، وعضلاته، وأنا تحديداً لا أرسم بيدي ولكن أتحرك بجسدي كله، وعليّ أن أخلق لجسدي مسارات بدون إحساس بالأسي، الأمر يشبه ما تفعله فيروز الآن. إنها تغني بقدر من الطاقة التي تبقت لها"، يصمت ويضيف "المهم.. علينا أن نتخلص من وهم أننا قادرون علي كل الأشياء"..
حكايات
كان السيوي يسير مع حسن سليمان، في شارع 26 يوليو، ثم هبت نسمة هواء، وقال له "يا عادل النسمة التي جاءت علي صدري غير النسمة التي لمستك"، كان اليوم الثاني علي عيد ميلاد سليمان الستين، يوضح "حينما تتأمل هذه الفكرة، ستجد أن حساسية الشخص صاحب الخبرات الكثيرة، تزيد تجاه الأشياء، ولا يصبح الجسد، في حالته، طاغياً، لا يقوده. حينما تدرك أن طاقتك الجسدية أصبحت محدودة ستبدأ في الإعلاء من شأن أشياء أخري. سليمان قال لي أيضاً ارسم صباحاً، أنت تنهض بطاقة ما، وعليك أن تضعها في الرسم، لأنك لا تعرف ما الذي سيحدث بعد ذلك".
اكتشف السيوي أيضاً من خلال خبراته أن التجريب لا يكون في الحرية فقط، ولكن في القيود أيضاً. عفيفي مطر قال له إنه كان يعود أحياناً إلي قصيدة عمودية، وهذا ما يقصده السيوي بالتجريب في القيود. اكتشف أيضاً أن اقتسام تلك الحرية مع شخص آخر أمر بالغ الصعوبة، ولكنه شديد الجمال في الوقت نفسه، يحكي "حينما ذهبت إلي علاء الديب وأخبرته أنني سأتزوج ستفانيا، قال لي: الحرية حلوة، ولكن القدرة علي الوِلف مسئولية كبيرة جداً"، ويضيف "هناك عمق آخر في المسألة. أن تري ذاتك من منظور شخص آخر، إنه أمر مهم في الحياة".
حسن سليمان يشكل إحدي المحطات بالغة الأهمية في حياة السيوي. كان يذهب إليه ويعمل معه في ورشته، لا يمل أبداً من الاعتراف بأنه أستاذه الكبير. صورته لا تزال لديه في المرسم، كان شخصاً صعباً جداً، يؤكد السيوي، ولكنه أخبره بمجموعة من الأمور غيرت فهمه للحياة، يحكي "قال لي: لو ستعيش في القاهرة لا بد أن تختار وسط البلد، فالباقي منها زوائد. وسط البلد قلبها، لو أنك تريد أن تعيش في تلك المدينة، وترسم، احصل علي غرفة ولو ثلاثة أمتار في وسط البلد، وانزل وامشي في شوارعها، لتري الناس. كانت عنده مشكلة، أنه عاش في وسط قاهرة أخري، قاهرة الأربعينيات والخمسينيات، ورآها تنهار، ولكنه ظل مصراً علي أن وسط القاهرة مازال فيه تماسك، بمبانيه وحركة الناس فيه، قال لي: كنت أسير وأشاهد امرأة.. كعب رجلها أبيض، جلته بحجر، امرأة ترتدي (ملاءة لف)، كنت أشاهد أقواسها وهيّ بتطرقع، وأشاهد القلة، وقبة الجامع، كان فيه هارموني كده ماشي مع بعضه"، ويضيف "لم يعرف سليمان كيف يتفاعل مع قاهرة يوليو. المهم أنني أسست مرسمي فعلاً، في باب اللوق، وأدركت سحر وسط البلد الذي يتحدث عنه.. أدركت أن هناك دائرة خفية من الحياة فيها، مختلفة عن القاهرة كلها، ومن أجل هذا كان لا بد أن تقوم الثورة منها، هنا ستجد المفكرين، وعشاق البلد، والسينمات والمسارح والمكتبات، شعرت بأنه لا بد أن تكون لي علاقة خاصة بالمكان، لا مجرد تأمل، أن أكون جزءاً منه. بيكاسو كان يتحدث عن تحف يضعها في البيت، نحت أفريقي، وسجاد إسلامي، كان يقول إن تلك الأشياء ستصبح، بعد قليل، جزءاً منك، سيدخلك منطقها، لأنك تعايشها، وبالتالي أنت لن تقلد السجادة التي تضعها، ولكن نظامها أو نسقها سيصبح جزءاً منك، لأنك تراه يومياً، وهذا ما تفعله فيك وسط البلد، كنت محظوظاً بهذا المكان، حتي وأنا أشم الغاز المسيل للدموع، وأري الأمن المركزي يضرب الناس أسفل المرسم، كما أنه أثر علي عملي، لأنه محاولة حقيقية لعمل هندسة معمارية"، يوضح "حينما أنشئت باريس وميدان النجمة، خُلقت المدن النجمية، وأهم ما تتميز به الميدان الدائري، الذي تخرج منه كل الشوارع، كان الهدف من ذلك إنهاء عصر الجماهير، لو تم وضع مدفع في الميدان يضرب كل هذه الشوارع، ومن بني القاهرة الحديثة هو نفسه من فعل ذلك في باريس. هكذا أنشئ ميدان التحرير، الذي يفضي إلي ميادين أصغر، طلعت حرب، مصطفي كامل، وكل واحد يتفرع إلي شوارع، لو أنك وضعت فرقاً أمنية ستستطيع السيطرة علي الجماهير، ولكن هذه الهندسة بداخلها فوضي شاملة، وأنت، لحسن الحظ، تعيش العلاقة المركبة، بين العقلانية الغربية التي هندست النظام، وبين فوضي المصريين الذين يخترقون هذا النظام بأشكال من الحياة، كما أن شغلك هو صدي لتلك الحالة، وهكذا تصبح بداخل أي نظام، في أعمالك، فوضي، ولا يستطيع أي "figure" أن يستقر، تلك أمور لا تستطيع أن تفعلها وأنت تتأمل".
الهدية الإيطالية
إيطاليا قدمت ما يشبه الهدية للسيوي..
يحكي "إيطاليا جزء، في سياق من حياتي، كانت فيه الأمور ثنائيات، تدرس طب ثم تصبح فناناً، تعمل في السياسة، ويكون لديك حساسية شديدة من السياسة، لديك رغبة في العمل العام، وتخاف من ذلك، تريد أن تكون فناناً وفي الوقت نفسه شخصاً يفكر، ثقافتك مصرية، وتسعي لأفكار من نوع آخر. أنا هكذا، وإيطاليا كانت محطة، فكرت خلالها أن أعيش مع أشخاص من ثقافة مختلفة، ولهم لغة أخري، وأخلاق مغايرة"..
هل كان يهرب من شيء؟، في الواقع لا، يضحك "لا توجد في حياتي مثل تلك العُقد والصعوبات"، ويضيف "كنت أسافر إلي أوروبا، وأسمع الناس وأراهم وهم يتحدثون، وأشعر بأن هناك عوالم أخري، بفكر آخر وبثقافة مختلفة، وأسئلة متطورة، كان لديّ فضول شديد لارتياد تلك التجربة، ليس بمعني السياسة ولا السياحة، ولكن أن تعيش، كان قراراً نهائياً، ولو لم تكن إيطاليا لكانت فرنسا، أو إسبانيا، أي دولة، وهذا ما قلته لأحمد يماني الذي تعرفت إليه، وهو صغير جداً، كان طالباً في كلية الآداب، جاءني مع ياسر عبد اللطيف، في المهندسين، كانا مليئين بقوة وحماس كبيرين، كان لقاء طويلاً جداً، تحدثنا خلاله عن رغبته في السفر، نصحته بعدم العودة، قلت له لا بد أن تعمل تجربة، وحينما يأتيك هاجس ملح بالرجوع واجهه وأجله، وحينما تشعر بأن الموضوع سينتهي زده، حتي تكتمل التجربة تماماً. ذهب أحمد بذلك الإحساس، سمع كلامي وتعلم لغة الإسبان، قلت له ارتبط، وحب واكره.عليك أن تكون جزءاً من ذلك المجتمع، وفي لحظة ستجد نفسك تريد الرجوع، وستعود، ولكن بعد أن يكون الأمر اكتمل بداخلك".
نقلة
يواصل "أنت تذهب من بلد إسلامي إلي بلد مسيحي، ومن لغة إلي لغة، ومن مجتمع متخلف، إلي آخر صاعد، ببساطة تحدث لك نقلة كبيرة. عشت في مدينة متطورة جداً، هي ميلانو، لا يوجد فيها إحساس البحر المتوسط، فهي ليست نابولي، أو روما، مدينة تشبه مدن سويسرا وبلجيكا، وبالمناسبة أوروبا ثلاث شرائح، بلاد البحر الأبيض المتوسط، ووسط أوروبا، وهي بلاد خاصة جداً، ومنها ألمانيا، وفرنسا وسويسرا، ثم الشماليون، وهؤلاء شعب ثالث، أقصد الإسكندنافيين، إنهم مختلفون أيضاً، وحظي أن أعيش في المنطقة الوسيطة، الصناعية المتطورة..
أنت تذهب بأشياء بسيطة، ما تعلمته وما عرفته قليل، فمجتمعاتنا لا تتيح إلا حداً ضعيفاً من التعليم، كما أن حركتنا الفنية والثقافية، محدودة جداً، وحينما تذهب إلي مجتمع واسع ومعقد تدرك أن أدواتك قليلة، وحتي شعاراتك وقيمك الكبيرة لا بد من إعادة النظر فيها. إما أن تتقوقع علي نفسك، أو أن تندمج وتصبغ شعرك، وكان هناك نماذج مصرية من هاتين الحالتين، منهم من تنكروا لمصر تماماً، ومنهم من أطلقوا لحاهم، واستقروا في مساجد، متصورين أنهم يهربون أو يواجهون شيطاناً. أعتقد أنني لم أكن منبهراً جداً، كما لم أكن رافضاً، هناك تظن أنك أمام حالة من الحرية الرهيبة، ثم تكتشف حالة مخيفة من الاستعباد، بأشكال متطورة جداً، وتري مدي الغربة والتنميط، كيف لا يستطيع الفرد مثلاً تقرير مدي سعادته، وأين تكمن، السعادة الخاصة بك مبرمجة لك، هي تلك الرحلة، وهذه الملابس، والسيارة، والكلب الجالس بجوار المدفأة، وهي الرحلة التي تقوم بها إلي مصر أنت وزوجتك وأصدقاؤك. هناك تصورات عليك أن تعيش بداخلها، أنت تكتشف هذا المجتمع بقدراته الحيوية والإيجابية جداً، وتكتشف أيضاً المناطق التي تري أن فيها شكلاً جديداً من أشكال السيطرة، مؤسسات ضخمة معقدة، وبها شكل من أشكال الاستبداد المرعبة، نعم أنت قادم من مجتمع استبداد أحادي، استبداد الجنرال الواحد، ولكنك ستعيش هنا استبداداً من نوع آخر، هو تنميط البشر.. أعتقد أنني محظوظ بذهابي في فترة كانت أوروبا كلها تحاول تغيير جلدها وفشلت، كل المحاولة جاءت علي الفاضي، حركة 68 العظيمة وأول جيل عالمي، وأول أشخاص يضعون ذلك الخيال السياسي العظيم، تم استيعابهم جميعاً داخل الماكينة العملاقة".
فترة التأسيس
حسناً ما الاستفادات التي حصّلها السيوي؟. يقول "ستعرف أن عمرك أطول بكثير من معرفتك وخبراتك، ذهبت وعمري 27 عاما، وشعرت أن ذلك العمر قضيته بسذاجة وبساطة، كان جميلاً طبعاً أن أقضيه هكذا، ولكن حينما تقارن نفسك بأندادك ستكتشف الفارق المذهل، أن لديهم خبرات، ومعرفة، وثقافة تفوقك بكثير، وهكذا كانت الفترة من 80 إلي 85 هي فترة الجهد المضني، التعرف والقراءة والفهم، ومقابلة الفنانين، (لفيت) أوروبا، وأعتبر أن السنوات الخمس هدية إيطالية، أولاً قابلت أشخاصاً علموني وأفادوني كثيراً، وضعوا يدي علي مفاتيح، بعد إدراكهم لمحدوديتي، أدركوا ذلك غير أن هذا لم يسبب عزلة، ولا أن يتعاملوا معك بتعال، كان من الصعب أن تقتسم مع فيلسوف بيتاً، (سيتقاسم السيوي مع الفيلسوف بورديجا بيتاً) لأنه يدرك أنك غير مؤهل للحوار معه، غير أنه يدرك في نفس الوقت أنك تملك أشياء تخص تجربتك، وأنه سيستفيد، ولديه فضول تجاهك، وكيف تفكر، ومن خلال الحوار تتسرب إليك طريقة تفكير، ومعارف، وتضع يدك، علي أمور مهمة في المجتمع الإيطالي، وتلتقي بفنانين، تجربتهم أكبر من تجربتك، يفهمون مشاكلك، ويعرفون أنك لم تُدرّب ولم تُعد، وكان عليك فقط أن تجتهد"..
هل كان ذلك باعثاً علي الألم والإحباط؟! يعترف السيوي بأنه تألم، ولكنه سأل نفسه: ماذا ستفعل؟ ستقول: لا. أنا جيد هكذا؟، كما يحدث في مصر، أن يجلس الفنان في المقاهي ويتأمل، ولا يعمل شيئاً تقريباً، ويتخيل أنه سيصنع تحفاً عظيمة؟، يعلق بسخرية "تقريباً هذا مرض تسبب فيه الستينيون". يقول "السنوات الخمس من العمل المضني والشاق كانت القاعدة التي أرتكز عليها إلي الآن، لقد ساعدني أشخاص كثيرون في الحقيقة، وأعتبر أنني محظوظ لأنني التقيت بهؤلاء الأشخاص"..
قيصر كوزام
في 79 استقال، علاقته بالطب انتهت، حينما وصل إلي إيطاليا قرر أن يدرس الفن، ولكن اكتشف أنه لا يريد هذا، لا يريد أن يكرر ما فعله في سنوات الطب الطويلة، كان يكره أن يلتزم بمكان، وأساتذة، وأطروحات، وكان الحل الوحيد أن يتعلم بمفرده، اكتشف أيضاً أن المصري يمكن أن يمارس الطب في إيطاليا، حسب اتفاقية قديمة. لم يكن معه أي مصدر دخل، وقرر أن يعمل في أي مستشفي، وفعلاً قدم أوراقه، وأصبح عضواً في نقابة الأطباء، بميلانو، بدأ في تهيئة نفسه للحياة علي ذلك الوضع، ولكن الحظ هبط مجدداً من السماء، كان هناك أشخاص يريدونه في الترجمة، وعرف أنه سيكسب من وراء تلك المهنة، يعاود الحكي "التقيت بشخص سوري، يعمل في مصافي البترول، ومعظم من يتعاملون معه عرب، وهناك مشاكل كثيرة نتيجة عدم فهمه لهم، لقد عاش هذا الرجل في إيطاليا طوال عمره، اسمه تشيزري كوزام، يعني قيصر خزام، وهو من عائلة تخصصت في المزادات، هذا الرجل عرض عليّ عملاً في الشركة عنده، وقلت له إنني أريد أن أصبح رساماً، ولن أستطيع العمل طوال الوقت، وقلت له إنني قابلت طبيباً بيطرياً، اسمه بيلترميني وأنني سأعمل معه، بيلترميني كان غريباً إلي حد ما، فقد رُفعت ضده قضية لأنه ساعد تشي جيفارا، وكان يقال إن الثائر الكوبي كان يهرّب له السلاح، بلترميني، كان عنده مستشفي مهمة بجوار ملعب سان سيرو، هناك رأيت أشخاصاً من أمريكا اللاتينية، وقد اصطحبني إليه يساري بصفتي يسارياً مصرياً، وهو سيساعدني من باب أنه يساعد اليسار في العالم، (يضحك) نصحني بدراسة الإنجليزية مرة أخري بالإيطالية، المهم أن تشيزري، رجل الصناعة المحترم، قال لي إنه سيمنحني ما كان سيمنحه لي بيلترميني، ولكن في عدد أقل من الأيام، وهذا يعني أنه سيتوفر لديّ وقت كبير للفن، هذا الرجل حرص علي علاقتي معه حتي عام 90، أي بعد أن عدت إلي مصر، ظل يرسل إليّ بالمال، ولكن شعرت بأن ذلك لا يصح، وقررت أن أتوقف"، يعلق "هذا جزء من الحظوظ، أن تقابل شخصاً لديه كل ذلك الاحتياج إليك، ويتفهم طبيعتك الخاصة ويكون مستعداً لتقبلها".
ويتابع : » الغريب وأنني في بينالي فينيسيا، 2009 اتصل بي، وكان تجاوز الثمانين، وقال لي إنني قرأت أنك هنا، وأنك فنان وحصلت علي جائزة، وتذكرت حينما قابلتني للمرة الأولي وأخبرتني أنك تريد أن تصبح رساماً، وأنا أهديته ثوراً، لأن رجال الأعمال يتفاءلون جداً به، ويتشاءمون من الدب، الثور ينزل للأسفل ويرفع خصمه إلي أعلي ويلقيه، أما الدب فيأخذه ويهبط به إلي الأسفل، حتي في البورصة حينما تقول ثوراً معناه صعود، أما الدب فنزول«.
يصمت قليلاً ويتذكر تفاصيل أخري من المحطة الإيطالية المهمة "كنت قريباً من مجموعة من الناس الذين أنجزوا حركة 68 ولم يتم استيعابهم في الحياة، هناك من ذهب للإرهاب العنيف، الألوية الحمراء، منهم من ذهب للتدين الشرقي، هاري كريشنا، ومنهم من ذهب باتجاه الدولة، والبيزنس، ولكن هناك جزء تبقي لا يعرف ماذا يفعل بالتجربة الكبيرة التي خاضها، ولم يجدوا أفقاً ومنهم الفيلسوف روبرتو بورديجا الذي كنت أسكن معه، وهو صديقي إلي الآن، كان هو والمجموعة التي أتحدث عنها يعملون "أوتوبيوجرافي"، بمعني.. كل واحد من الناس الذين شاركوا في 68 يحكي قصته، يلتقون في البارات، في الشوارع، في حفلة لبوب ديلون، مغني 68، أو في ندوة لمفكر مثل نعوم تشومسكي، سمعت شهادات كل هؤلاء، حول حيرتهم وارتباكهم، أمام المتغيرات"، ويضيف "شيء ما كبير، أو بالأدق تغير حدث لي، كنت أشعر بهذا، درجة ما من النضج تحدث لي، من التعلم السريع والكبير، حتي أتعامل مع هؤلاء بدرجة من الندية، والفهم، وليس إساءته. أنا مدين لإيطاليا أيضاً بالتخلص من الاستبداد لأنني عشت هذه السنوات بعيداً عن النظام الاستبدادي، لم أشعر بأن العسكر خنقوني في حياتي، ولم تكن صورة صفوت الشريف مقررة عليّ يومياً، إيطاليا باختصار موضوع حياة".
رحيل الأب
يواصل السيوي "كان هناك سؤال يوجه إليك، تتجاوب معه بلطف، ثم يصبح مؤلماً جداً، لماذا أنت هنا؟ أنت في النهاية لست عضواً في التكوينات الإيطالية، وشكلك ولكنتك (بره)، ولا بد أن تجيب علي السؤال. كان ذلك مؤلماً، كنت أسكن في أرقي منطقة بميلانو، وحياتي المادية محترمة جداً، ولا يحلم بها الكثير من الإيطاليين، إذا كنت ستستمر هنا، فلديك مشكلة كبيرة، أنك لم ترتب نفسك علي هذا، بمعني أنك قادم لاستقطاب أشياء، ثم ستغادر، ولو كنت تريد الاستمرار فمن المفروض أن تصبح جزءاً من هذا النسيج. هناك مثلاً صحفي يميني مهم جداً في إيطاليا اسمه مجدي علام، مواقفه في منتهي القذارة، ولكنه يتحدث الإيطالية، ويكتبها أفضل من أي إيطالي، وينافق المجتمعات الغربية بجميع الوسائل، لدرجة أنه أعلن عن تغيير ديانته إلي المسيحية، رداً علي تخلف المسلمين، وهناك نماذج ناجحة أفضل منه، محترمة، مثل صديقي المهندس سلامة، أحد الذين تضامنوا في كلية الهندسة مع القضية الفلسطينية، عاش في ميلانو وتزوج من إيطالية، وأنجب طارق وكمال، وعنده أحفاد طلاينة. هذا الرجل حدد هدفه منذ ذهابه، أما أنا ففوجئت بموت أبي، ولم أحضر جنازته، كان هذا مؤلماً جداً بالنسبة لي، اتصلت بهم في البيت، وسألتهم: أين أبي؟ قالوا لي: يعوم، فشعرت بالاطمئنان، بعدها بأسبوعين اتصلت فسمعت قرآناً وقالوا إنه مريض، فنزلت مصر وفوجئت بموته ودفنه، هذا أثر فيّ جداً، وقلت إن هذا لو جري لأمي التي أحبها جداً فلن أعود كما كنت أبداً، أبي كان شخصاً خاصاً، ممتعاً ومجنوناً، تحب أن تودعه في آخر لحظاته. موت الأب وانفصالي عن زوجتي، والهواجس التي حاصرتني عن الأم، تراكمت عليّ، فقررت الرجوع بدون خطط، أصبحت متألماً من فكرة أنني لست جزءاً من هذا المجتمع، رغم كل السنين التي قضيتها فيه، ثم إن هناك شيئاً علي المستوي الخاص، غريب وغريزي ولا أفهمه، شيء يقول لك ارجع، شيء لن تناقشه أبداً"..
نوستالجيا
الحنين إلي الأصدقاء كان موجوداً لدي السيوي، وأيضاً فكرة أن يكون جزءاً عضوياً من شيء، جزءاً من الجماعة المصرية، جزءاً من نسيج الثقافة المصرية، روائح المكان، والذكريات، كانت تحاصره، يسرد قصة جديدة "روبرتو حينما جاء إلي مصر، قال لي إن هذه مجتمعات لم تسفلتها الحداثة، بمعني أن الناس لا يشبهون بعضهم، كما هو الحال في المجتمعات الغربية، كنا نسير إلي جوار البورصة، ورأي سيدات الشيشة، وشباباً، وحواة النار، وشحاذين، فقال ما قاله. ذهبنا مرة إلي المخزن، فقال: هناك أشخاص منكم يصلحون أن يكونوا ألماناً، وزنوجاً، وهناك من يشبهون الآسيويين، أنا مستغرب أنكم لا تستغربون. كان يتحدث عن عشرة يجلسون إلي الترابيزة، يمثلون الكون".
السيوي ليس مهموماً بارتفاع سعر لوحاته "لست الأعلي سعراً، نعم.. حدث ارتفاع في سعر لوحاتي، ولكن فكرة الأعلي والأقل ليست موجودة، كان هناك فنانون يريدون عمل تراتبية وظيفية للسعر، بمعني أن يكون فاروق حسني في قمة الهرم، ثم أحمد نوار، فأحمد فؤاد سليم وهكذا، بعدما انفرط هؤلاء بشكل ما، انتهي الحديث عن السعر. هناك فنانون موفقون ويبيعون بسعر جيد. السعر ليس دليلاً علي اللوحة الجيدة، هناك ظروف أخري تتحكم في ذلك، منها حجم إنتاجك، والطلب علي العمل، والمؤسسات التي تقف وراءك، والذين جمعوا أعمالك ولا يسعدهم هبوط أسهمك، إنهم يرفعون سعرك في المزادات حتي تصبح أعمالك ذات قيمة، أنا فوجئت مرة بمن يخبرني أن هناك أشخاصاً يزايدون عليّ لأنهم يمتلكون أعمالاً لي، كما أن الاستمرارية مهمة جداً، أن تصبح كل معارضك مربوطة بخيط، كما أن هناك أهمية كبيرة لقدرتك علي أن تكون معاصراً، فالتصوير أصبح فناً متحفياً، بعد أن هيمن الفيديو آرت علي الساحة، نعم.. أصبح النحاتون والمصورون مثل الديناصورات، وهكذا لا بد أن تعطي للتصوير نفساً معاصراً، عدد من يعرفون هذه المعادلة محدود، ومن الممكن أن ترسم مشاهد للقاهرة، ويشتري الناس أعمالك من باب الحنين، ولكن لن تصبح قيمة معاصرة، أعتقد أن السرد البصري قادر علي مفاجأتك ولكن عليك أن تحكي بروح اللحظة. هذه محاولتي".
بعض المتاحف اشترت أعماله، أصبح هناك أشخاص مسئولون عن ترويجه في أمريكا، وفرنسا، وانجلترا. دخل في آلة لا يتحكم فيها ولا يحركها. أصبح في يد أشخاص تختلف آلياتهم عن آلياته، باع لوحة لمتحف جوجنهايم، تحدثوا معه بشكل مختلف، اتصلوا به لمعرفة كل المعلومات عن اللوحة، وطلبوا منه عدم لمسها، حتي لو أصيبت بخدوش، سألوه عن مكان توقيعه، وهل أنجز اللوحة مرة واحدة أم علي مراحل، يبتسم "كنت تبيع اللوحة، وتنسي، ولكن هنا أنت أمام أسئلة من نوع هل أنت موافق علي تغيير الإطار؟ هل توافق علي استغلال اللوحة في مطبوعات؟ هم يطبقون هذا علي الفنان المشهور والمتوسط"، ويستدرك "ليست هذه هي الدوائر الكبري، ولكنها دوائر قريبة منها، أذكر مثلاً الفنان داميان هيرست، وهو بالمناسبة أصغر مني، عمل جمجمة من الألماس، وقد منحته بعض الشركات مائتي مليون دولار، لينجز مهمته. تلك هي الدوائر الكبري".
استمر السيوي، فترة طويلة، يرسم الوجوه، ولكن بعد مشوار طويل أراد أن يقترب من البورتريه، بمعني أن ينتمي الوجه لشخص ما، يقول "لأنك موجود في ذاكرة جماعة، تصبح أمامك مشكلة، خاصة بالحرية التي تتعامل بها مع ذلك الوجه، والحدود التي تفرضها عليك الملامح، تحاول أن تكون حراً، مثلاً، في إطار اسماعيل يس، أو ليلي مراد، أو أسمهان، أو عبد الفتاح القصري"، ويضيف "آندي وارهول عمل تجربة مارلين مونرو، كررها كثيراً، كان يريد أن يقول إنه ليس هناك عمق، وإننا أصبحنا جميعاً أسطح، وأن مارلين مثل أي شيء، يمكن أن تدخل السوبر ماركت وتجد منه الكثير، كان يتحدث عن حضارة انتصرت للسطح، حضارة تؤكد انتهاء عصر المضمون والجوهر".
نجوم عمري
هناك من تحدث عن تشابهات بين أعمال "نجوم عمري"، وأعمال شانت أفيديسيان، وهؤلاء ألمحوا إلي تأثر السيوي بالفنان الأرمني. يعلّق "في المتحف البريطاني أعمالي وأعماله معروضة جنباً إلي جنب، وهي أعمال تسير في اتجاهين مختلفين تماماً، اتجاه يريد تحويل ال figure إلي أيقونة،
يرسم، مثلاً، الشيخ مصطفي إسماعيل، ثلاث مرات في اللوحة، أما أنا فكنت أريد عمل عكس هذا، فإسماعيل يس بالنسبة لي ليس أيقونة، وإنما جزء من حياتي، سعاد حسني هي المرأة التي تمنيت أن أجلس معها يوماً ما، كان محاولة للتعبير عاطفياً عن الناس الذين صنعوا حياتي، لم أكن أريد أن أحولهم إلي أيقونات، بقدر أن أن أجد مداخل لهم، وبالمناسبة لا زلت في تلك التجربة، وأنا أعمل علي لوحة للسادات وهو يلاعب عرفات الكوتشينة، كنت أتمني أن يجلسا مع بعضهما ليفعلا شيئاً خارج إطار السياسة، والهموم، والقضايا، كنت أريد أن أعرف كيف سيتخابثان علي بعضهما، وكيف سيغش أحدهما الآخر؟. جاءتني رغبة، في لحظة ما، في استدعاء الجسم كله، وخلف تلك الرغبة يقف عبد الهادي الجزار ومحمود سعيد، ولوحاتهما التي يحضر فيها الناس المتعامدون داخل اللوحة، مثل لوحة (بنات بحري)، التي تصور ثلاث بنات عملاقات واقفات وسط اللوحة، كما ستجد خلف تلك اللوحة أصداء الفراعنة، وسيطرة فكرة التعامد علي أعمالهم".
اللون الذهبي ظهر بالصدفة، في أعمال للسيوي، أنجزها في التسعينيات، استعمله في خلفية لمجموعة اسمها الملوك، اشتراها متحف قطر. كل ملك، في تلك المجموعة، لديه حكاية مؤرقة، هناك ملك يعاني من برص يسير علي وجهه، وهو نائم، وآخر متشكك في مؤامرة، كما أن كل ملك لديه هواجسه وأحلامه وشهواته..
حتي يلغي السيوي أي تأثير، يمكن أن يشوش علي الوجوه، وضع الذهبي كحاجز في الخلفية "إنه أقرب إلي معدن، يجعلك لا تري سوي الوجه، ولا يؤدي إلي مشكلة مثل الأسود، الذي (ينتر) الوجه، إنه لون محايد، مشع، متوهج، ليس بارداً وأيضاً غير ساخن". يضيف " إنه لون وليس لوناً، لون وضوء معاً"!
إنتاج الأفكار
السيوي مهموم بالعمل العام وبالأفكار.. فهل هذا شيء فردي أم أن الفنان يجب أن يكون هكذا؟. يجيب "الفنان لا يجب أن يكون شيئاً، جوجان حكي في كتابه الوحيد "نوا نوا" عن تجربته في الجزر مع الناس البدائيين، سرد قصة موحية. كان يجلس في غرفته عارياً، وفوجئ بزوجة البواب تهتف: زوجي يموت، وحتي يهبط إليها كان لا بد أن يرتدي البنطلون، يعلق جوجان: تريد إنقاذ شخص، ومع هذا لا بد أن ترتدي البنطلون. إنها الأخلاق. حينما نزل كان الرجل ميتاً. علي الناحية الأخري من المنزل كان هناك شخص يبيع الشمام، أنزل السَّبَت، واشتري واحدة ، وبعد أن أكل قال إن الحياة غريبة جداً، شخص يموت، وآخر يأكل الشمام، بمعني أن الحضور الكامل والغياب الكامل متجاوران، دعك من هذا المشهد. ما أثارني أنه لديه فهم للفن، الفن للمجتمع.. ولم لا؟ الفن هو ابن الأفكار.. ولم لا؟ الفن للفن.. ولم لا أيضاً؟، المهم أن يكون فناً كما قال، هناك فنانون عظام كانوا سماسرة، هناك فنانون انهمكوا في السياسة، وآخرون ماتوا في صالات القمار، ولكن الفنان لن يخرج عملاً بدون ارتباط عميق بالحياة، أما أنا فمن جيل مهموم بالعمل العام.. ماذا أفعل؟ نكسة 67 جعلت الشعب المصري كله يصبح مسيساً، من هو ناصر الذي تسبب في تلك المصيبة؟، مراهقتي مرتبطة بأسئلة عن الهزيمة، وكذبة الاشتراكية، والعروبة والقومية. جيلي بالكامل تأثر بالنكسة وكانت يحاول الرد عليها، تقريباً الأجيال الأسبق كانت تريد إلصاقها به، هؤلاء الشباب عملوا شيئاً كبيراً في 72، قالوا أنتم جئتم بتلك النكسة، تصرفوا، خلصونا من ذلك المأزق، واضطر السادات إلي أن يحارب. نشأت في ظل هذا ولم أستطع الانعزال عما يدور حولي، وبالأخص في الجامعة. أدرك أن هناك تأثيراً سلبياً للعمل العام علي عملي، خصوصاً وأن الناس لا توجد عندهم تقاليد للعمل الجماعي، هذا شيء صعب ومحبط، أن تصبح متيقناً من أن شيئاً لن يحدث.
بالرغم من هذا فإن السيوي مستمر في العمل العام، بهدف أن يوصل ما فهمه إلي جماعته، يقول "من خلال ليناردو فهمت الكلاسيكية، وترجمته من أجل القارئ العربي، ترجمته حتي يجد الفنان الشاب ما ينفعه، ليس من خلال أقوال، ولكن من خلال فنان أصلي، وهكذا أنا متورط في الكتاب الثالث من المعاصرة، وحينما أنجزه سأشعر أنني سددت ديناً".


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.