روائية سورية الاجابة علي السؤال الأول محيرة. ففي داخلي أتمني لو أنه كذلك، نوعاَ من عقوبة نرغب أن نطبقها علي من يقف في وجه تطلعات شعبه إلي التحرر من الطغيان. لكن التاريخ ولحكمة خفية يفصل بين الجانبين، فتبقي قيمة الإبداع بحد ذاته لأن الإبداع يخرج من وصاية مبدعه ويصير له استقلالية وتاريخ حياة وموت تتعلق به لا بصاحبه. الأمر المحسوم أن الإقبال علي نتاج المبدع الذي يخذل شعبه يتراجع في فترة زمنية ما خصوصا الفترة المعاصرة لتصريحاته المزعجة، أنا مثلا لا أطيق قراءة أي نص لهؤلاء الكتاب أو الشعراء الآن، ولا أن أقرأ تصريحاتهم. خصوصا تلك التي يوغلون فيها في التبرير لوقاحتهم. لكن التاريخ الحكيم في مواضع، لئيم في مواضع أخري، أي أنه لا ينسي مواقف الأشخاص وسيرهم ولو بعد حين. هذا ما نلمسه في الحكم علي مبدعين وقفوا مع الطغاة وساندوه فكلما فتحت سيرهم تم التذكير بمواقفهم تلك. من أمثال هؤلاء الموسيقي الألماني فاجنر الذي اطلق آراءا عنصرية استلهمتها النازية بعد ذلك. كذلك الشاعر والناقد الأميركي البارز ازرا باوند الذي اعتقل بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية 1945 لمساندته حكومة موسوليني وهتلر وعمله في الإعلام الإيطالي الفاشي. ولأنه اصيب بانهيار عصبي في المعتقل لم يقدم لمحاكمة، وبقي الحكم عليه معنويا. في فترة الاعتقال ما بين إيطاليا والولايات المتحدة أصدر عام 1948 ديوانا عرف باسم "كانتوس" أو "مقطع قصيدة طويل" حاز علي شهرة واسعة بعد نشره، بل إن الديوان حصل عام 1948 علي جائزة، بينما كان باوند لا يزال قيد الاعتقال. لقد ميّز المجتمع الأميركي بين موقف الشاعر وبين إنتاجه. أما فيما يخص الإبداع متواضع القيمة الفنية المؤيد للثورة، وكونه خارج الحساب النقدي، ففي لحظتها قد يكون بالفعل خارج النقد والمحاسبة الإبداعية إذا لاقي استقبالا انفعاليا عند الجماهير. الابداع مثل الشعر والاغاني والسينما والمسرح وحتي المقالة الصحفية، في لحظته الانفعالية قد يشبع تعطشا لانتاج يشبه الشعارات التي يرفعها شخص يتقدم الحشود في المظاهرات. لكن لا يعني هذا ان كل انتاج ابداعي في وقت الثورات او وقت الحدث العظيم متدني المستوي ولا يعيش طويلا، في الأغلب هو كذلك لانه ينتج عن انفعال تغطي فورة الحراك علي تواضعه ومباشرته وفجاجته. اريد أن ألفت الانتباه هنا إلي إنتاج آخر مشابه له في المستوي لكنه مضاد للثورة، وتنطبق عليه المواصفات نفسها في أنه يصدر تحت وطأة اللحظة وانفعالاتها، كتابة من نوع ما كتبه سعدي يوسف مثلا، هذا الإنتاج لا يمكن محاسبته نقديا وجماليا إلا ووضعه في أسفل سلم التقييم الإبداعي، بل هو أسوأ بما لا يقاس من النوع الأول ابداعيا، لأنه كاره للبشر ومحتقر لشعوب المنطقة وتطلعاتها الي الحريات والديمقراطية. وفيما يخص السؤال الثالث سنعود للسؤال الأول والتفرقة بين النص وكاتبه، بين العمل الابداعي وخالقه. يبدو أن مواقف الانسان أي أفكاره حول الكون والحياة تشتغل في الدماغ في منطقة مختلفة عن الإبداع الذي يعمل بآلية مختلفة. بالاضافة لمن ذكرتهم سابقا، هناك مبدعون وصفوا في حياتهم بكونهم رجعيين، مثل تي اس اليوت الأكثر شهرة بين شعراء القرن العشرين وقد كانت له رؤيا دينية مسيحية للحياة، كذلك روديارد كبلينغ كيبلنغ الشاعر الروائي البريطاني المبدع الذي ساند حكومات بلاده في استعمارها بلدان أخري، خصوصا الهند، وفي تشجيع الأمة البريطانية علي خوض الحرب العالمية الأولي التي دفع إليها ابنه الوحيد ضعيف النظر وفقده في هذه الحرب. علي أية حال ولو نظرنا تاريخيا إلي المشهد الابداعي بلقطة مكبرة سنجد لحسن الحظ أن غالبية مبدعي العالم وقفوا مع القضايا الانسانية وتطلعوا إلي تحرر شعوبهم والبشرية من ربقة الاستعباد لأية جهة. أدب الثورات لم يأت بعد ناقد سوري يتوقف الأمر علي مفهومنا لقيمة الإبداع أساساً ويعيدنا إلي دائرة النقاش القديمة والتي تتعلق بغاية الفن، وهل الغاية من الفن الفن ذاته؟ أم أن للفن رسالة ويتحمل مسؤولية أخلاقية من نوع ما؟ من جهة ثانية، أسأل، تري ما الذي سمح للثورات العربية إعادة موضعة المبدعين العرب حسب الموقف؟ لا شك أن المتلقي العربي تعود عبر تاريخه المعاصر علي مقولة أن الفن للجماهير وأنه صاحب رسالة، ولم يتعرف إلا نادراً علي منتجات الفن للفن، التي في معظمها وافدة عليه لذلك شعر بالصدمة تجاه هؤلاء المبدعين خاصة وأن كثير منهم كان خلال عقود ثورياً وتحررياً وعندما حدثت الثورة تراجعوا أو صمتوا وهذا يطرح سؤالاً جدياً هل حقيقة كانوا كذلك، أم أن طول مدة القهر قد شكلت منهم حالة نخبوية متعالية فقد أمضوا عمرهم ينادون بالثورة والتغيير حتي أصابهم اليأس فانقلبوا علي شعوبهم المتخاذلة والنائمة والمستسلمة، وهذا التعالي منحهم نوعاً من تضخم الذات لدرجة أنهم عينوا أنفسهم معلمين وعندما جاءت الثورة علي خلاف ما كانوا يرسمون انقلبوا عليها، ربما يريدونها ثورة تخرج من بطون الكتب التي شكلت رؤاهم، وعندما فاجأتهم الثورة حتي بشكلها، أصابهم الذهول. من هنا أستطيع القول أن موقفهم السلبي تجاه الثورة ينسحب علي إبداعهم لأن المبدع الحقيقي يفهم علي الأقل حركة التاريخ، والذي يفهم التاريخ يستطيع أن يطلق علي مظاهرات عمال غزل المحلة مثلاً في حينها أنها مؤشر حقيقي لثورة قادمة. لا شيء فوق الحساب النقدي والموضوع النبيل لا يمنح شهادة الإبداع لنص أدبي ما لم يحقق القيمة الفنية المطلوبة، ومعروف عبر التاريخ أن معظم النصوص التي تولد مع الحدث تكون علي درجة عالية من المباشرة وتتسم بقدرتها التحريضية علي حساب مقوماتها الفنية ذلك أنها تخاطب عامة الناس في لحظة انفعالية أو غاضبة ويجب أن يفهمها حتي الأمي الذي لا يقرأ، وما أستطيع تسميته بأدب الثورات لم يأت بعد، سيأتي بعد أن تعود الحياة إلي حركيتها الطبيعية ويعم الأمن والاستقرار كي يستطيع المبدع الحقيقي أن يري الصورة