وكأن عام 2011 أبي أن ينتهي دون أن نشاهد فيلما يعطينا بعض الأمل في مستقبل السينما المصرية، علي مستوي الفكر والفن وتسلم أجيال جديدة للراية.. إن فيلم "أسماء" للمخرج عمرو سلامة أحد المحاولات الطموحة لعرض رؤية اجتماعية رحبة من خلال ما يحيط بمأساة مرض الأيدز، بلغة سينمائية متطورة. إن كان فيلم "أسماء" يبدو للوهلة الأولي فيلما عن مريض أو مريضة الإيدز فإن الوجه الآخر للعملة يتمثل في أنه بالأساس فيلم عن "المجتمع المريض". ويتصاعد بأهمية الفيلم علي نحو أكبر تقديم موضوعه من خلال التناول الإعلامي، المريض أيضا (فهو صنو المجتمع يصعب أن يسلم من عيوبه، رغم أن المفروض أن يكد في الاتجاه المعاكس، لكونه بين أدوات إصلاح المجتمع). وحتي ندرك الطبيعة الخاصة لتناول المشكلة في "أسماء" لا بأس من إشارة سريعة إلي أن فيلما شبيها كان بين أول وأبرز الأفلام التي تصدت لنفس الموضوع هو فيلم "فيلادلفيا" (نال عليه النجم العالمي توم هانكس جائزة الأوسكار 1994)، أنه قد اختار "إعطاء العيش لخبازينه" وإيكال الدفاع عن ضرورة اعتراف المجتمع بحقوق مريض الإيدز إلي محام.. وحتي نفصل الحديث عن ذلك كله، وعن واحد من أهم ملامح الفيلم، وهو بلاغته التعبيرية، لا بأس من إلمامة بموضوعه. "أسماء" (هند صبري) فتاة ريفية تتمتع بذكاء وكبرياء وشخصية متحدية، رغم أنها لم تدخل المدرسة ولم تتلق قسطا وافرا من الثقافة. تعمل مع والدها في صناعة السجاد والأكلمة، وتذهب لبيعها في السوق. وتتعرف علي مسعد (هاني عادل) وهو شاب ريفي "متيسر الحال وجدع" فتختاره بنفسها وتهيم به حبا، ليبادلها نفس المشاعر، ويزيد عليها رغبته الشديدة في الإنجاب، حتي لا يترك أرضه الزراعية دون وريث. ولإدراكها لقيمة العمل في حياتها ترفض تركه بعد الزواج، وتستمر في إبداء التحدي لأبيها وزوجها وأسرته، التي تطالبها بالجلوس في المنزل مثل بقية نساء العائلة، وتظل علي إصرارها حتي تقنع الزوج العاشق بالاستمرار فيه. شدة عشق مسعد لامرأته وحرصه علي كرامتها تقوده إلي السجن، بعد أن يقع قتيلا بين يديه- عن طريق الخطأ- تاجرا من قريته اعتدي علي أسماء بالضرب. وفي السجن يصاب مسعد الإيدز (دون أن يفصل الفيلم أو يفصح كيف، تاركا للمشاهد استنتاج ذلك)، لكننا نري نظرة الانكسار التي يقابل بها زوجته كلما جاءت لزيارته. وحين يخرج من السجن يتعمد عدم الاقتراب منها بل ويقرر أن يطلقها. وحين تفهم أنه أصيب بمرض الإيدز وأن أيام حياته باتت معدودة، تقرر ألا تفارقه أو تبتعد عنه، بل وتسعي إلي الإنجاب منه، لأن "من خلف ما متش" كما وقر في الأعراف السائدة. لكن مسعد يموت بعد أن ينقل إليها فيروس الأيدز، ويتركها حاملا له وحاملا لابنتهما، مع اتهامات جاهزة من المجتمع المتخلف لها، تتراوح بين عدم البقاء في البيت من الأصل والإصرار علي النزول إلي السوق، مما قاد إلي ارتكاب زوجها جريمة قتل، إلي عدم إنجابها الوريث، إلي غير ذلك من تراث التخلف. بل ويصل الأمر إلي إعلان شقيق زوجها بضرورة تركها المولود له إذا جاء ولدا، والهروب به من البلد كلها إذا جاء بنتا، مع نبذ القرية كلها لها، إلي حد الغياب الجماعي عن تقديم واجب العزاء في وفاة زوجها. تقرر أسماء ترك القرية والذهاب إلي القاهرة مع والدها (سيد رجب)، حتي تهرب من نظرة اللوم والاحتقار التي تلاحقها رغم كونها ضحية، مثلها مثل زوجها. وفي القاهرة تخفي أسماء حقيقة مرضها عن كل من حولها، وتحاول تكريس حياتها من أجل تربية ابنتها. لكن يحدث أن تصاب أسماء بمرض في المرارة، وتتوقف حياتها علي إجراء جراحة عاجلة لاستئصالها. ويرفض الأطباء إجراء الجراحة لكونها حاملة لفيروس الإيدز، وحتي حين يبدي أحدهم استعدادة لإجراء العملية يشترط أن تبلغه بكيفية إصابتها بالفيروس، لكنها ترفض الإفصاح عن كيفية انتقاله إليها، حتي لا تسيء لذكري زوجها، وإلي غيره من المصابين بالمرض، بعد أن باتت تعايشهم وتعي مأساتهم. ولا تجد أسماء سبيلا للخروج من أزمتها إلا بالظهور في أحد برامج "التوك شو" لتحكي مآساتها، حتي تنال دعما ماديا من جمهور البرنامج. لكن المذيع الشهير حسام السيسي (ماجد الكدواني) يرفض التقليد المتبع، والقاضي بحديثها من خلف ساتر، تجنبا لتبعات الإفصاح عن حقيقة حالتها، خوفا من ردود الأفعال المتوقعة من زملاء العمل والجيران والقرية وكل من تلتقيهم، ويصر المذيع المغوار علي ظهور أسماء في البرنامج، وإلا لجأ إلي تقديم فقرات أخري أكثر إثارة لكبار النجوم والمشاهير. وتفاجأ أسماء التي تصر علي إخفاء وجهها خلال البرنامج تحت وطأة الخوف من "كلام الناس" وتأثير الفضيحة علي أسرتها، تفاجأ بابنتها تتصل بالبرنامج، وترفض الإفصاح عن شخصية والدتها، وإن طلبت من المذيع إضاءة وجهها، في دعوة للخروج إلي النور ومواجهة الواقع، والتخلص من سلوك النعامة التي تدفن رأسها في الرمال. تغضب أسماء، عندما تدرك وصول خبرها لابنتها، وتقرر أن تلبي طلبها، لتكشف النقاب عن وجوه زائفة ونفوس مرتبكة مريضة فعلا بما هو أكثر ضراوة من الإيدز.. تواجه الملايين بوجه عار وعيون متحدية وكلمات شجاعة: "لو مت، فلن أموت من مرض أعانيه، بل من المرض الذي تعانونه أنتم"، تنطقها أمام كل من جلس يتابع الشاشة "كلشنكان" بنصف اهتمام، سواء من أبناء قريتها أو الحي الفقير الذي تسكن فيه، ناهيك عن الملايين ممن يعرفونها أو لا يعرفونها، ولتدرك الابنة المراهقة الكثير مما لم تعرفه عن أمها وحياتها. وكأن أسماء، بإقدامها علي كشف شخصيتها الحقيقية تكون قد استردت ثقتها بنفسها، وتخففت من حمل السر الذي أثقل روحها، فتخلع القفاز الذي كانت ترتديه وتعامل الناس به، وتصافح المذيع سامح السيسي بيدها العارية بعد انتهاء اللقاء، في مشهد تصحبه لمحة دالة، إذ أعطي المذيع اللامع ظهره لضيفته بمجرد مصافحتها، وهو يعلن أن حلقة الغد مع نجم كوميدي، وينبه علي فريق العمل بعدم التأخير، وكأن كل ما كان يهمه أن يضمن لبرنامجه فقرة ساخنة تزيد من نسبة المشاهدة، وبالتالي الإعلانات (التي ينال نسبة منها)، يعزز ذلك تعليقه عندما فكر في تقديم هذه الحلقة من البرنامج: "نلم تبرعات نصرف علي علاجهم ونقيم لهم مقابر علي النيل.. حاجة حلوة كده تشرح القلب!". المهم أن أسماء تعود بعد ذلك لتواجه أسرتها وجيرانها و... بابتسامة أقرب إلي اليأس منها إلي الأمل. إن موضوع فيلم "أسماء" المأساوي، إضافة إلي شغف الجمهور وإقباله علي معرفة ما يحيط بالمرض من ألغاز، مما يتيح أجواء درامية ثرية، ومادة من الدرجة الأولي، لمن يسعي إلي تقديم معالجة سينمائية جادة. الأمر الذي وفق مبدعو الفيلم في تجسيده، فبناء "أسماء" السردي عامر بالمشاهد القوية التي تنم عن اختيار ذكي لأماكن التصوير والإدارة البارعة للممثلين، ناهيك عن الحس الدرامي الجيد والإيقاع المنضبط، والقدرة علي رسم الجو بتفاصيل دقيقة مؤثرة وبحس فني ناضج، خصوصا في الجزء الأخير من الفيلم. الأمر الذي سيبقي "أسماء" أحد المحاولات شديدة الطموح. ليس فقط لتجاوزه النظرة الشائعة في إدانة المريض أخلاقيا، واعتبار المرض عقاب إلهي علي الخيانة والتحلل، حتي لو كان المرض قد انتقل للضحية بطرق أخري مثل نقل الدم، ولا لتقديم رؤية اجتماعية واسعة للمأسي المحيطة بالمرض فقط، وإنما في الأساس- وهو ما سنركز عليه هنا- لبلاغته التعبيرية. إن قصة فيلم "أسماء" واضحة في سياقها الواقعي، لكن طبيعة العمل الفني لا تلزم الفنان بهذا السياق، ولأن الأحداث تدور علي مدي سنوات طويلة، كان لابد من البحث عن حلول سردية تتيح تأثيرا أقوي ونجاحا أكبر ناهيك عن البلاغة التعبيرية في الحيز الزمني للفيلم، وقد وجد مبدعوه الحل في أداة العودة إلي الوراء (الفلاش باك). ومن هنا قام بناء الفيلم علي نسج شظايا مشاهد، تتتابع فور طلب المذيع "عرفي نفسك"، لتنساب الأحداث بإيقاع سريع تتنقل مكانيا من أسماء مع المذيع إلي جلسات التأهيل والعلاج الجمعي بين زملاء المرض، إلي شقتها في الحارة الشعبية بالمدينة، وعملها في نظافة المطار حتي اكتشاف زملائها لمرضها. كما تتقافز زمانيا إلي ذكريات صباها وحكاية زواجها، وأزمة زوجها مع المرض، وإلي زميلها المريض في العلاج والتأهيل الجمعي الذي يسعي، بعد فقده لزوجته نتيجة للمرض، للزواج منها. وابنتها وحيرتها وثورتها وقصة حبها... وعبر هذه الانتقالات في الزمان والمكان تُكامل اللقطات أحداث الحكاية. وهذا أسلوب جيد للإلمام بالموضوع المطروح علي نحو شامل جامع وبطريقة فنية مشوقة، وهي تفترض أن تتم القطعات بشكل فني محسوب، ولكن كثرة القطع وعدم اكتمال الشظايا وعدم الدقة أو التوفيق في اختيارها، تسبب في إصابة المشاهد بالارتباك والحيرة، في عدد من الحالات، بين ما إذا كان ما يراه يحدث في الحاضر أم أنه من أحداث الماضي، ذلك إلي إعاقة "المشاهد التاريخية" لانسياب التدفق الدرامي هنا وهناك. كما أن الأجواء المحيطة بمرضي الأيدز، بل وطبيعة المرض نفسها حيث العزلة والاكتئاب بل والموت الحتمي، ربما أسهمت في إغراء مبدعي الفيلم، وجرتهم إلي جنوح فيه مغالاة نحو الميلودراما. وقد أدي ماجد الكدواني شخصية مقدم التوك شو بتألق شديد، فعلي الرغم من أنه قدمه بالأساس في صورة سلبية، فإنه لم يسقط في فخ الشرير النمطي، وجعل الشخصية من لحم ودم، دون أن يقلد طريقة مذيعي البرامج الفضائية المتواجدين علي الساحة، كما يفعل العديد من الممثلين. أما عن أداء هند صبري فقد جاء مبهرا في الأغلب الأعم، وقد نجحت في تجسيد فكرة الاشفاق علي مجتمع من يبدون أصحاء حولها، فهم مرضي أيضا، لكن مرضهم أشد قسوة، لأن مرضها لم يفقدها إنسانيتها وكرامتها، أما هم ففقدوا إنسانيتهم، رغم أنهم في كامل صحتهم الجسدية. ولم يكن الأمر في حاجة إلي أن تجئ هذه النتيجة تقريرية زاعقة علي لسان أسماء: "لو مت، فلن أموت من مرض أعانيه، بل من المرض الذي تعانونه أنتم"، بعد ما جري تجسيده عبر نسيج الفيلم من حلول فنية مؤثرة، مثل مشهد الخروف الذي يذبح في الحارة علي الملأ، وتطبع اليد الملطخة بدمائه صورتها في قبح علي الجدران، قبل لقاءات أسماء في القناة التليفزيونية، وكأنها الشاة التي سوف تذبح علي الهواء، بتصميم مذيع البرنامج علي كشف وجهها وفضح إصابتها بالفيروس. والمشهد الذي تلقي فيه إحدي زميلات العمل لأسماء علي الأرض بالمبلغ الذي تم جمعه لمساعدتها، خشية ملامستها، ثم شراء أسماء مسكنات بالمبلغ كله (كناية عما تحسه من ألم). ومثل والمشهد الذي يعكس مشاعر الظلم الاجتماعي والكذب الإعلامي لدي الفقراء، في جملة الأب البسيطة المعبرة وهو يتابع البرنامج: "الواحد منهم بيعمل قلبه علي الغلابة وهو لو كح بيتعالج بره". ومثل حاجة أسماء إلي إزالة المرارة كتعبير طبي ورمزي في الوقت نفسه.. وذلك ناهيك عن الخطوط الدرامية التي فصلت مصارعتها قسوة الأطباء الذين يرفضون التعامل معها خشية الفيروس الذي تحمله، والأحكام الأخلاقية الجائرة حول سلوكها وسبب إصابتها بالفيروس، واستغلال الإعلام معاناتها من أجل سبق إعلامي، ورفض زملاؤها في العمل بقاءها وسطهم مما أدي لفصلها، ونظرة شك ابنتها المراهقة التي لم تر لها أبا أو عائلة ولا تعرف شيئا عن حكاية أبيها، إلي المشهد الأخير الذي خلعت فيه القفاز التي تختبئ وتخفي قهرها خلفه. وكل المشاهد واللقطات السابقة مما يدخل في باب البلاغة التعبيرية. ورغم إعلاء الفيلم لقيمة حق الإنسان المريض في العلاج، مهما كان سلوكه، فإنه خان هذا المبدأ مع حرصه الدؤوب علي تبرئة البطلة من سوء السلوك، بينما كان الأفضل المرور علي ذلك مر الكرام- مثلما حجب تفاصيل أخري مثل كيفية إصابة الزوج بالأيدز- وذلك لصالح مبدأ وهدف أهم، وهو أن حقوق الإنسان غير مشروطة بأي أحكام أخلاقية علي سلوك الفرد الشخصي، فالطبيب يقسم ببذل كل ما يستطيع لعلاج المريض- أي مريض- وتخفيف آلامه... . وربما استقامت وجهة الفيلم علي نحو أرقي إن كان مبدعوه قد اعتمدوا حدثا آخر غير الحدث العبثي المتمثل في قتل الزوج دون قصد لمن أهان أسماء، وهو الحدث المفصلي الذي يغير مسار الدراما، ويقوده إلي السجن حيث يصاب بالأيدز و...، بالذات وأن رفض المجتمع الريفي لعمل المرأة أمر فيه بعض الافتعال. وربما كان الأوفق إيضاح الفارق بين حامل فيروس الأيدز ومن بدأ يعاني أهوال المرض بالفعل. لكن ذلك لايقلل من قدرات المخرج الواعد عمرو سلامه ومن قاموا بأدوار الأبطال هند صبري وماجد الكدواني وهاني عادل، والقائمين بغير أدوار البطولة مثل سيد رجب وأحمد كمال و... . ولا مما قدمه أحمد جبر مدير التصوير الصاعد من جهد مميز في الإضاءة والتعبير بالصورة عن الاختلاف الكبير بين حياة أسماء- المتردية الملامح- في القرية والمدينة، وبين مافي العيادات والمستشفيات والاستوديوهات الاستفزازية. وكذا ما قدمته هند حيدر من ديكورات ملائمة لمختلف الأجواء، وحيث تنعكس في المشاهد الداخلية ملامح الصدق والواقعية. فنحن لا نقصد من ملاحظاتنا السابقة سوي أن فيلم "أسماء" (إذا ما أخذنا بعين الاعتبار العمل الفني المتميز الذي شاهدناه) لم يحقق كامل الإمكانات الراقية التي كشف عنها مبدعيه، التي نأمل في أن تتحقق فيما هو قادم من أعمال.