استطاع فيلم "أسماء" الذي بدأ عرضه في القاهرة منذ أسبوعين أن يحقق معدلات مشاهدة جيدة رغم صخب الأحداث وانشغال الناس بالمرحلة الثانية من الانتخابات البرلمانية، يزيد عليها اشتعال الشارع المصري بأحداث شارع قصر العيني! ومانتج عنه من مآس دامية جذبت اهتمام المصريين لشاشات التليفزيون، لمتابعة مايجري علي الساحة، وهي أحداث أكثر إثارة مما يمكن أن تشاهده في أي فيلم سينمائي! ومع ذلك فقد نجا فيلم أسماء من المصير الذي لقيته أفلام أخري تزامن تاريخ عرضها مع اندلاع الموجة الأولي من ثورة يناير! أو الموجة الثانية في نوفمبر الماضي، فبعض الأعمال الفنية لديها القدرة علي مقاومة عناصر الفشل والإحباط التي تصادف أعمالا أخري ليست علي نفس الدرجة من القوة والثبات . الفيلم لايقدم أي ملمح لثورة يناير أو تداعياتها، ولكنه يحمل داخله بذور ثورة علي الشكل التقليدي للسينما المصرية، وموضوعاتها التي تدور في حلقات ضيقة للغاية، وأبطال أسماء الذي كتب له السيناريو وأخرجه عمرو سلامة من الطبقات التي تعيش في مستوي الستر وربما أقل منه بدرجات، وتقاوم الهزيمة أمام مجتمع قاس لايرحم الضعفاء، كما تقاوم المرض برغبة ملحة في الحياة! في عام 1994 حصل الممثل الأمريكي "توم هانكس" علي أول جائزة أوسكار في حياته عن فيلم "فيلادلفيا" وكان عمره وقتها لايزيد علي 38 سنة، أما الشخصية التي أوصلته لهذه الجائزة التي يحلم بها كل من وقف أمام كاميرا السينما في أي مكان في العالم، فكانت لمريض "إيدز" يتم فصله من عمله تعسفياً،فيسعي لاسترداد وظيفته، ولم يناصره أحد إلا محام شاب آمن بحقه ودافع عنه ضد نظرة المجتمع التي تعامل مرضي الإيدز بكثير من القسوة والاستنكار والنفور أيضاً! وجسد "توم هانكس" الحالة النفسية "لأندرو بيكيت" بطل فيلم فيلادلفيا، وتدهور حالته الصحية، بأداء مذهل جعل الأوسكار المكافأة التي يستحقها، وقبل فيلم فيلادلفيا لم يكن أحد علي وجه الأرض يسمح لنفسه بالتعاطف مع مريض الإيدز، باعتباره مرضاً سيئ السمعة، بدأ انتشاره بين الشواذ جنسياً، قبل أن يكتشف العلماء أنه ينتقل أيضا عن طريق نقل الدم من شخص مصاب إلي آخر سليم، ولكن ظل العار يلاحق مصابي هذا المرض الذي يفتك بالملايين ولايتركهم إلا جثثاً هامدة، ويكاد ينافس السرطان في ضراوته وعدد ضحاياه! وكان الممثل والنجم الأمريكي" روك هدسون" الذي توفي عام 1985 هو أول المشاهير الذي تعقب وفاته فضيحة مدوية، فقد اكتشف عشاقه وهم بالملايين أن نجمهم المحبوب الذي كانوا يعتبرونه رمزا للرجولة، شاذ جنسياً وذلك بعد إصابته بمرض نقص المناعة "الإيدز" الذي أودي بحياته! وتعاملت السينما المصرية مع مرض الإيدز بحذر شديد، وكان مرتبطاً بإدانة المريض أخلاقياً ودينياً، علي اعتبار أن المرض هو العقاب الإلهي للشذوذ الجنسي حتي لو كان المرض قد انتقل للضحية بطرق أخري مثل نقل الدم، ومن الأفلام التي تعاملت مع هذا المرض "الحب والرعب" للمخرج كريم ضياء الدين وكان بطولة شريهان، وفيلم "الحب في طابا" إخراج أحمد فؤاد وبطولة جالا فهمي وممدوح عبد العليم، وهشام عبد الحميد ونجاح الموجي، وطبعاً لم تفوت المخرجة إيناس الدغيدي الفرصة، وقدمت في فيلمها" ديسكو.. ديسكو" شخصية شاب شاذ جنسيا"عبد الله محمود" يصاب بالإيدز ويموت به،عقاباً علي ممارساته الجنسية الخاطئة! ❊❊❊ وسوف تدرك أن العامل المشترك في كل تلك الأفلام "الأمريكية أو المصرية"، كان الرجل المصاب بالمرض، أما فيلم "أسماء" الذي كتب له السيناريو والحوار وأخرجه عمرو سلامة، فهو ينصب علي شخصية المرأة التي ينتقل لها المرض فتصبح ضحية له وللمجتمع في نفس الوقت، أسماء التي جسدتها الفنانة هند صبري، هي فتاة مصرية ريفية، تتمتع بذكاء وكبرياء وشخصية متحدية رغم أنها لم تدخل المدرسة ولم تنل قسطاً وافراً من التعليم، تعمل أسماء مع والدها سيد رجب في صناعة السجاجيد والأكلمة، وتتعرف علي شاب ريفي جدع هو "مسعد" أو هاني عادل، تهيم به حباً، ويبادلها نفس المشاعر ويزيد عليها رغبته الشديدة في الإنجاب، حتي لايترك أرضه الزراعية دون وريث، ولكن شدة عشق مسعد لامرأته وحرصه علي كرامتها تقوده للسجن، بعد أن قتل عن طريق الخطأ رجلاً اعتدي عليها بالضرب، وفي السجن، يفقد مسعد حريته وكبرياءه، ويتعرض للاعتداء الوحشي، في مشاهد لم يقدمها الفيلم ولكن يستنتجها المتفرج من نظرة الانكسار التي يقابل بها زوجته أسماء كلما جاءت لزيارته،ثم تعمده عدم الاقتراب منها بعد خروجه من السجن، حتي أنه يقرر أن يطلقها دون أن يبدي لذلك سبباً، ولكنها تفهم علي أية حال، ماحدث له أثناء وجوده خلف القضبان، وتدرك أنه أصيب بمرض الإيدز، وأن أيام حياته باتت معدودة، ومع ذلك، لاتفارقه وتقرر أن تنجب منه، لأن من وجهة نظرها" اللي خلف مامتش " ولكن "مسعد" يموت، بعد أن ينقل فيروس الإيدز لأسماء، ويتركها حاملا في ابنتها الوحيدة، وتقرر أسماء أن تترك قريتها وتذهب للقاهرة مع والدها، حتي تهرب من نظرة اللوم والاحتقار التي تلاحقها رغم أنها ضحية، وفي القاهرة تخفي أسماء عن كل من حولها حقيقة مرضها، وتعيش من أجل ابنتها "حبيبة"، ولكن يحدث أن تصاب أسماء بالمرارة، وتتعلق حياتها علي إجراء جراحة عاجلة، ولكن الأطباء يرفضون إجراء الجراحة لمريضة مصابة بفيروس الإيدز، ولاتجد أسماء سبيلاً للعلاج إلا من خلال الظهور في أحد برامج التوك شو المسائية، لتحكي مأساتها، وتنال دعماً مادياً من جمهور البرنامج، ولكن المذيع حسام السيسي أو ماجد الكدواني يصر علي ظهور أسماء في برنامجه بوجهها، دون أن يضطر كما هي العادة لإخفاء صورتها تجنباً لتبعات الإفصاح عن حقيقة مرضها، خوفاً من ردود الفعل المتوقعة من زملاء العمل والجيران وكل من تلتقي بهم! وقيمة فيلم أسماء أنه لايتحدث عن مرض الإيدز، ولكن عن كل مظاهر الزيف والنفاق التي يعيشها المجتمع المصري، الذي يدعي بعض أفراده الحرص علي الأخلاق والدين، بينما يؤكد مسلكهم أنهم يفتقدون مشاعر الرحمة والتسامح والإنسانية وكل القيم التي تدعو إليها الأديان ، ويحتمها حسن الخلق! حتي أن أحد الأطباء المنتمين للتيارات الدينية، لايمانع في إجراء جراحة المرارة لأسماء بشرط أن تخبره كيف وصل إليها المرض، وكأنه يريد أن يفتش في ضميرها أو يتأكد إن كانت من الأتقياء الأبرار أم أنها من الضالين الذين يستحقون العقاب! ولكنها ترفض أن تخبره كيف انتقلت إليها العدوي حتي لاتسيء لذكري زوجها والي كل مريض سواها، وأخيرا تتحرر أسماء من مخاوفها وتقرر أن تواجه الدنيا بحقيقة مرضها، ولكنها قبل أن تفعل تكشف النقاب عن وجوه زائفة ونفوس مرتبكة مريضة فعلاً بما هو أكثر ضراوة من الإيدز! وربما تكون أسماء قد استردت ثقتها بنفسها وتخففت من حمل سرها الذي أثقل روحها، فخلعت القفاز الذي كانت تحرص علي ارتدائه، وصافحت المذيع سامح السيسي بيديها بعد انتهاء اللقاء التليفزيوني! وهنا يقدم السيناريو لمحة شديدة الدلالة، فقد أعطي المذيع اللامع ظهرة لضيفته بمجرد انتهاء التسجيل، وكأن كل ماكان يهمه منها أن يضمن لبرنامجه فقرة ساخنة تزيد من نسبة المشاهدة! فيلم أسماء أحد أهم الأفلام التي قدمتها السينما المصرية في السنوات الأخيرة، تؤكد من خلاله هند صبري أنها ألفة جيلها في فن الأداء التمثيلي، أما ماجد الكدواني فهو حالة من التألق والوهج الفني، يعلن عن نفسه في كل مشهد يظهر فيه صامتاً أو متكلماً، وتنضج موهبة هاني عادل بشكل ملحوظ كممثل وكمؤلف موسيقي أيضاً، أما الفنان سيد رجب الذي لعب دور والد أسماء فهو ممثل جامد قوي، ومن أهم الاكتشافات الفنية في السنوات الأخيرة، وتؤكد السينما المصرية مرة أخري أنها لازالت قادرة علي تحدي كل الظروف الصعبة، وأنها إحدي وسائل المقاومة ضد تيار الظلام الذي يسعي لطمس كل ملامح الجمال والرقي من حياتنا وإعادتنا قهرًا، إلي عصور الجاهليه وماقبلها!