قبل موت العم خيري بيومين فوجئت برقم هاتفه المحمول يظهر علي شاشة هاتفي. الساعة كانت تقترب من الثالثة صباحا. لم يكن معتادا علي مهاتفتي في مثل هذا الوقت. أنا كنت معتادا علي ذلك فلم يكن ينام قبل السابعة صباحا أبدا، أما هو فيعرف أن لا ميعاد لي، أنام في الثامنة مساء أحيانا وأحيانا في الخامسة صباحا. طلبته فورا علي هاتف المنزل فوجدته مشغولا. وضعت السماعة وأكملت القراءة. رن هاتفي المحمول مجددا وظهر رقمه. طلبته مجددا علي هاتف البيت فوجدته مشغولا، فطلبته من المحمول. رد بصوت مبتهج علي عادته حين يكون مؤتنسا. بدا متفاجئا بمكالمتي فحكيت له ما جري فضحك ضحكة رنانة مبتهجة جدا وقال "أصل عمك إبراهيم أصلان معايا علي التليفون وكان عايز نمرتك وكل ما أحاول أطلّعها من الموبايل يرن عليك" ثم ضحك مرة أخري. كان عم إبراهيم أصلان لا يزال علي الخط، ومع هذا سألني عن أخباري وأخبار العيال وناقشني في مقال نُشر لي قبل يومين وأخبرني أن عم إبراهيم "كان عايز يكلمك عشان عجبه المقال اللي كتبته في مجلة العربي.. هو انت بقيت تكتب في العربي؟!". قلت له إني سوف أبادر بالاتصال بعم إبراهيم في الصباح فمن غير اللائق أن انتظر أنا مكالمته، تركني وأخبر عم إبراهيم بما قلته وضحكا سويا. أمكنني سماع صوت عم إبراهيم أيضا عبر هاتفين. كانا يضحكان وكانت البهجة ظاهرة عليهما فأغلقت الهاتف شاعرا بالسعادة، سعادة معرفتي بأن مزاج عم خيري علي ما يرام وسعادة معرفتي بأني مرحب بي في فضاء العم إبراهيم. لكني في الصباح لم أجد لبهجة الأمس أية أثر فقد حلمت بأن أسناني تتكسّر فعرفت أن العم خيري سوف يموت، لكني لم أحزن كثيرا فأقله سوف يموت مبتهجا!. كانت مكالمات المساء بين عم خيري وعم إبراهيم أصلان مثل "لوجو" قناة تتغير موادها الإعلامية وفواصلها الإعلانية ومقدمي برامجها وضيوفهم لكن اللوجو ثابت علي الشاشة لا يتغير. كان يبدو عم خيري كمن يدّخر حكاياته المهمة وأرقه ومخاوفه وشجنه أيضا لهذه المكالمات. في الفترة الأخيرة خصوصا كانا يتبادلان تلك المخاوف ويفنّدانها ويقلّبان فيها ويختبرانها معا. كانت الثورة بعد شهور من قيامها تبدو كثورة مسروقة، وكانا معا خيري وأصلان يتوافقان علي أن سرقة الثورة عمل غير أخلاقي بالمرة، وبأن المأساة تكمن في أن سارقيها يسرقونها باسم الأخلاق والدين. وبالنسبة لأديبين كبيرين كخيري وأصلان أفنا حياتيهما لتحسين شروط الحياة، ولدفع البشر للانحياز للخير والحق والجمال بديلا عن التظاهر بأنهم ينحازون لها، بدت الثورة المخطوفة كرهينة يجب تحريرها لكن تحريرها ليس بإمكان أي منهما ولا بإمكانهما مجتمعيْن، وكان ذلك يسبب لهما التعاسة. حين مات عم خيري كان قد وضع السماعة لتوه بعد مكالمة طويلة مع عم أصلان. بحسب الأخير كان عم خيري يشكو له عدم تمكنه من الوصول إلي "الكوميديا الإلهية" في مكتبته، وأعادا معا في المكالمة قراءة الكوميديا الإلهية من الذاكرة.. رمّم كل منهما ذاكرته بذاكرة الآخر. وبحسبي أن التفكير في الكوميديا الإلهية في مثل هذه الليلة لم يكن مصادفة. الكوميديا الإلهية ليست عملا من الماضي، إنها عمل عن المستقبل، عن المستقبل الذي تجري فصوله في غير هذا العالم، أنها بالأحري بأقسامها الثلاثة الفردوس والمطهر والجحيم نبوءة تحققت إحدي فصولها تلك الليلة وانتظر فصلها الختامي أربعة أشهر.. هي عمر المسافة بين موت عم خيري وموت عم أصلان. في السابعة صباحا تقريبا وبعد موت عم خيري بساعتين كان عم أصلان في بيت عم خيري، لم يجئ لوداعه، فلم يكن عقله قد فهم ما يجري بعد. كان قد أنهي مكالمته مع صديقه منذ ساعتين فحسب فكيف يأتي بعدها ليودعه. لساعتين تقريبا ظل ورفيق الرحلة، عم سعيد الكفراوي، ذاهليْن. ولم يعرف الكفراوي الذي أحَب عم خيري وأحبّه عم خيري بصدق أن الجالس جواره والذي يبادله المواساة يأبي إلا أن يلحق بصديقه، ربما ليكملا مكالماتهما الليلية، وربما ليرمّم كل منهما ذاكرة الآخر بحكايات الكوميديا الإلهية وليضعا خاتمة لها. في الليالي التي كنت أبيت فيها في بيت العم خيري كان يطيب لي مشاركته سهرة المساء. كان لا يكف عن الكلام ولا أكف عن الإنصات حتي إذا ما رنّ الهاتف هبّ لسحب السماعة كما لو كان يخطفها قبل أن يسطو عليها غيره، كان يعرف وكنت أعرف من لهفة سحبه للسماعة أن صوت أصلان سوف يجيئه من الطرف الآخر. حين كنت أقوم أو هكذا كنت أدعي أنني أفعل كان يشير لي بطرف يده أن أبقي قبل أن يعيدها ليمسح بها صلعته كما لو كان يزيح كل ما هو عالق برأسه لتجد حكايات أصلان مكانها المفضل. كان يطيب لي طبعا المكوث فأنا في حضرة الكبيرين. أظل أسمع ما يقوله وأتخيل ما يقوله أصلان، حتي حين كان يصمت عم خيري طويلا ويبدو مشغولا بما يقال له كنت أحاول تخيل ما يقال، بعض ما قيل لم يكن مهما لا لي ولا لأي منهما، بعضه أيضا كان يبدو كلاما والسلام، ولكنه في الوقت نفسه كان مهما لاستكمال الرحلة، كان مؤنسا لاغتراب ما كان ثقيلا في قاع حياتيهما وكتاباتهما علي السواء، وكان كل منهما قادرا علي المقاومة كل بطريقته. كانت حكايات شيخوختهما الجزء غير المفضل بالنسبة لي، لأنه الجزء الأكثر إيلاما. بعض حكايات حجرتان وصالة سمعتها خلال تنصتي المشروع علي مكالماتهما، بعضها كان يخص عم خيري وبعضها كان يخص عم أصلان. بعض تفاصيل تلك الحكايات كنت شاهدا عليها فقد كانت تخص عم خيري وكتبها صديقه كما لو أن الأخير كان يعفيه من حرج الكتابة. حين بدأ في نشرها مسلسلة في الأهرام قال عم خيري إنه يرغب في كتابة ككتابة أصلان.. موجزة ومكثفة ولاذعة وشاعرية وتهكمية. عن عمله الأخير "حجرتان وصالة" كتبت قائلا "يمكنك المفاضلة بين أن تقرأ "حجرتان وصالة" وبين ألا تقرأها، لكنك بعد أن تُنهي قصصها الثماني والعشرين لن يُمكنك المفاضلة بين أن تُفتن بها وبين ألا تُفتن بها. سوف تستحيل المفاضلة ولن يبقي بمقدورك إلا الافتتان. ثمان وعشرون قصة عن الزمن الذي يمضي بلا رثاء". هل كان عم أصلان يرثي نفسه.. يكتب خاتمته أم يرثي التجربة الإنسانية برمتها ويكتب خاتمتها الحزينة لأن فضاء عالمنا نحن أيضا ليس أكثر من حجرتين وصالة ما أن نملأهم بضجيجنا حتي نمضي في طريقنا مخلفين بقايا طعام وبقايا صخب وبقايا مشاعر لم تكتمل، وبقايا أسئلة لم يجب عنها أحد، لأنه ليس بمقدور أحد الإجابة عنها. لم يعد عم أصلان هنا لنسأله، ولا عم خيري ليجيب بدلا عن صديقه، فلماذا تتركانا هنا نمضي في طريقنا بغير صوتيكما. بعد موت عم خيري بأسبوع سأل ابني جدته "بتعيطي ليه؟" فقلنا له إنها تبكي لأن "جدو مات" فببساطة قال "أنا مش زعلان عشان مات.. عشان هو دلوقت مع أصدقائه العباقرة". ابني الذي لم يكمل السابعة بعد بفطرته عرف أن عم خيري لن يكون حزينا أبدا بين أصدقائه وأحبائه.. هو الآن سعيدا لانهماكه في حوار طويل مع نجيب محفوظ ويحيي حقي ويوسف إدريس وفؤاد حداد.. والمؤكد أنه أصبح أكثر سعادة بلحاق صديقه لصحبتهم.. لأن ثمة مكالمة لم تكتمل وحكايات لم يكملاها للنهاية، وكوميديا إلهية لم تكتمل فصولها بعد.