يمكنك المفاضلة بين أن تقرأ مجموعة إبراهيم أصلان الجديدة "حجرتان وصالة" وبين ألا تقرأها، لكنك بعد أن تنهي قصصها الثماني والعشرين لن يمكنك المفاضلة بين أن تُفتن بها وبين ألا تُفتن بها. سوف تستحيل المفاضلة ولن يبقي بمقدورك إلا الافتتان. إبراهيم أصلان الذي لم ينشر منذ كتابه الأول "بحيرة المساء" عام 1971 غير تسعة كتب، يفاجئنا بكتاب من طراز فريد، هو يسميه "متتالية منزلية" وهي نصوص سردية قصصية مزيج من الموسيقي والرواية، فالشجن الذي يصنع دراميتها يجعلك تنصت لموسيقاها بينما تلتهم فصولها أو مقاطعها الموسيقية الشجية والحزينة في الوقت نفسه. ثمان وعشرون قصة عن الزمن الذي يمضي بلا رثاء. حجرتان وصالة "حجرتان وصالة" ليس عنوانها فحسب بل عالمها أيضا، ما يطرح بعدين لتشكيل الفضاء، أولا هي حجرتان وصالة علامة علي الفضاء الاجتماعي للأسرة المتوسطة في مصر، وثانيا هي حجرتان وصالة لأن العالم الذي يخص الأستاذ خليل بهذا الضيق. العالم الذي يخص الأستاذ خليل وزوجته الحاجة إحسان ليس أكثر من حجرتين وصالة لأن عالمنا نحن أيضا ليس أكثر من حجرتين وصالة ما أن نملأهم بضجيجنا حتي نمضي في طريقنا مخلفين بقايا طعام وبقايا صخب وبقايا مشاعر لم تكتمل، وبقايا أسئلة لم يجب عنها أحد، لأنه ليس بمقدور أحد الإجابة عنها. يتشكل الفضاء الذي تقع فيه الشقة بحجرتيها وصالتها في البداية فقط، قبل أن تسارع في الانغلاق، لهذا لن نعرف غير أن الشقة "كانت تطل علي جزيرة مزروعة بكمية من الأشجار العالية، حولها رصيف بيضاوي كبير"، أي أن المجموعة تبدأ ببانورما للشقة من الخارج قبل أن نبدأ في التعرف عليها من الداخل، وقبل أن نعرف أن ثمة مقعد كبير إلي يسارك وأنت داخل وثمة مقعد كبير علي يمينك وأنت داخل، وقبل أن نعرف أن ثمة تليفزيون ملاصق للجدار الأيمن. لهذا فإن حارس العمارة هو من يقابلنا أولا قبل ساكني الشقة، رغم أنه يرحل سريعا وبشكل مفاجئ مثلما ظهر بشكل مفاجئ، ككل شيء في هذه القصص. وليس قبل موت إحسان يمكننا معرفة الفضاء الذي يتحرك فيه خليل. خليل الذي يظل تقريبا في مكانه المفضل أمام التليفزيون لا يقوم إلا قليلا، لن يغادر فضاء الحجرتين والصالة إلا بعد موت إحسان، لهذا فإن الفضاء سوف يمتد للمقهي ولشقة عبد العال، وحتي للشقة القديمة التي كانت أيضا حجرتان وصالة. ورغم ذلك فإن هذا الامتداد لن يعني أكثر من أن الحجرتين والصالة قد تمددا قليلا فحسب، لأن خليل حتي وهو في المقهي أو يزور أحد أصدقائه سوف يحمل معه حجرتيه وصالته كصليب. ولن يحملهم معه إلا وفي القلب منهم الحاجة إحسان. تبدأ المجموعة بعد أن أحيل خليل إلي التقاعد، فتحول إلي كائن يعيش في مربع صغير صامت وخالي تقريبا.. كائن يعيش في مربع صغير ليس في معية زوجته ولكن أيضا في رعايتها. الزوجة احسان التي تملك حضورا طاغيا رغم غيابها، حتي قبل أن يُغيبها الموت، ابراهيم يشرب زجاجة المياة كلها ثم يضعها علي الطاولة حتي تقوم الحاجة وتملأها، رغم أنها الآن وربما طوال الوقت تكون نائمة ومغطاة تماما حتي أنها لا تنسي أن تضع المخدة فوق رأسها. الحاجة إحسان التي سوف تموت دون أن تعرف أين ذهب الطبق أبو ورد، ودون أن تعرف أن الجرس الذي سمعته يرن في سكون الصالة لم يكن إلا جرسا متخيلا في فيلم أبيض وأسود، لهذا فإن خليل حين يصر في جنازتها أن يحكي لمن يجالسه أنه ذهب ليخبرها "من باب الهزار يعني" أن عباس فارس سمعها وذهب ليرد علي التليفون، يبدو كما لو كان يقدم اعتذارا فات ميعاده. وهي الحكاية التي سيظل يحكيها حتي الأربعين كما لو كان بحكايتها يحاول استعادة اللحظة علّه يُغير مجري الزمن. لهذا أظن أن بطل هذه المتتالية هي الحاجة إحسان أكثر من خليل رغم أن الموت يغيبها في القصة التي تحمل رقم (12) والمعنونة ب "أبيض وأسود". طاقم الأسنان في ظني أن المعني الحقيقي لهذه المتتالية ينغرز في هذه القصة، لأنها القصة التي تسجل مضي الزمن علي نحو رائع، العبارات التي يطلقها ابن خليل وصديقه تبدو كما لو كانت مقتطعة من كوميديا سوداء لدورنمات، لأنها بقدر ما بها من تفكه بقدر ما نشتم فيها رائحة المرثيات، فحين يقول الابن مازحا "أيوة يا عم بكرة تقزقز لب وتعض ومحدش يعرف يكلمك" كما لو كان يعلن عن مفتتح لمرحلة جديدة من القدرة علي الفعل فإنه أيضا يبدو كما لو كان يعلن نهاية مرحلة من الحياة ببساطة، وأنها إن كانت مفتتح لمرحلة علي نحو ما فإنها مرحلة تجعل من الزمن المتبقي يتسارع نحو فنائه. هذه الكوميديا السوداء تشي بكونها مرثية للزمن الذي ما أن يرحل حتي تصبح استعادته مستحيلة، لهذا فإننا سوف نري خليل وهو يقلب في صوره القديمة، فنشعر بالأسي معه علي العمر الذي ينقضي مسرعا، وعلي حياتنا التي لن يبق منها غير مجموعة من الصور القديمة التي سوف يمر وقت قبل أن يعني لأحد أن يقلب فيها. ولهذا فإن الافتتان الذي سوف يسرقك لن يكون باعثه فحسب هذه التفاصيل المدهشة ولا اللغة المقتصدة الفنية ولكن أيضا القدرة علي صنع صورة تكاد تشف عن المعاني حتي ولو لم تجد ما يقال، هناك مشهدية بالغة الروعة، فصورة خروج إحسان من البلكونة بينما تنزلق الستارة خلفها، أو صورة إبراهيم الواقف يكلم إحسان بينما يظل مراقبا لصورته في المرآة التي لا تظهر فيها قدماه لا يمكن نسيانها، فضلا عن مشهد الأبيض والأسود الذي أحسبه من أجمل المشاهد المكتوبة في تاريخ الأدب العربي. لهذا فإن متتالية "حجرتان وصالة" هي مرثية للزمن الذي ليس أكثر من "صور قديمة". ومع هذا فإن أصلان لا يتركنا فريسة لهذه المرثية قبل أن يدلل علي روعة الحياة وجمالها، ليست مصادفة طبعا أن تنتهي المجموعة أو المتتالية بقصة بعنوان "أول النهار" كما لو كانت الحياة حتي في نهايتها يمكنها أن تتجدد، فها هو منصور "بتاع الفول" ما أن يري "كوبة الألومنيوم" التي تخص الأستاذ خليل حتي يسارع بنفسه إلي شقة خليل "الحمد لله إنك بخير يا أستاذ.. عُمر يا أستاذ.. بس أنا عرفت الكباية أول ما شفتها".. هذا الدفء الذي يرن في صوت منصور هو ما يمنح الحياة روعتها رغم كل شيء، حتي أننا لنتوقع من خليل ابتسامة فرحة بينما يغلق الباب، ابتسامة رغم أنها لم تظهر فإن معرفتنا بخليل تُرجح أننا نكون في توقعنا علي حق!. حاتم حافظ