يستقبلك غلاف/ باب «حجرتان وصالة» لإبراهيم أصلان بابتسامة بيضاء. سيصعب عليك وقتها أن تتصور أن هذه المتتالية المنزلية كما يسميها صاحبها (أو الرواية كما أراها أنا) تتخذ من الشيخوخة والموت تيمتها الأساسية. يبدو جليا أن الغلاف الأبيض للفنان الجميل محيى الدين اللباد هو صفحة من جريدة. لكنك لو دققت فى البنط الصغير لتقرأ ذلك المقطع، فستجده صفحة وفيات. أما علبة الثقاب وغطاء زجاجة ال«بيبسى» الملقاة فوق الجريدة فهى تلك الأشياء العادية التى لا تلفت الانتباه. ومن هذه الأشياء الصغيرة ينسج أصلان حكايات مدهشة وغنية ومذهلة فى بساطتها. فى 28 نص/ مقطع/ لقطة فوتوغرافية بكاميرا فائقة الحساسية، يرسم إبراهيم أصلان أيام شيخوخة أستاذ خليل والحاجة إحسان. تشكل الشخصيات الأساسية (خاصة خليل) وعالمه العمود الفقرى الذى يربط النصوص فى عالم روائى واحد حيث الحدث إما عادياً تماما، ولكن أصلان يولد منه دراما إنسانية مدهشة، أو مأساوياً جداً، لكن أصلان يبسطه فيجعله عادياً تماما. تحفل «حجرتان وصالة» بأحداث شديدة البساطة مثل مكالمة تليفونية من صديق قديم، حيث يصعب على أستاذ خليل سماع صوته بوضوح أو حتى التأكد من هويته، حالة الفزع التى تنتاب الحاجة إحسان كلما ظهر لها زوجها فى البيت فجأة، جدل حول تدميس الفول بكبشة من الأرز أم العدس الأصفر، كسر الطبق القيشانى أبو ورد من قبل أستاذ خليل ورفضه الاعتراف بمعرفة أى شىء عنه. يقدم أصلان تلك اللقطات ببساطة متناهية مستخدما لغة قد نزع عنها كل زخرفها. تبدو الجمل فى تتاليها البسيط كأنها محاولة لتهجى أبجدية الحياة. وبتلك اللغة العارية حتى العظام يكتب أصلان حكايات الشيخوخة والرحيل فتخرج إلى القارئ مرتدية ثوب الحياة الزاهى. ومثلما يجلو أصلان جوهر اللحظات الصغيرة فتلمع بالدهشة، فهو ينزع رداء المأساة عن الأحداث الكبيرة كالموت. كانت تجلس على الفراش مائلة فى الحجرة شبه المعتمة بجسدها المنهك وشعرها الأبيض المربوط، عندما ارتفع صوت التليفون فى الفيلم المعروض بالتليفزيون فى الصالة. وهى سمعت هذا الجرس وقالت: «حد يرد على التليفون يا ولاد». ومالت إلى جانبها الأيمن، ولم تقم بعد ذلك أبداً. بنفس النبرة الهادئة يستمر السرد فى تقصى رد فعل أستاذ خليل عندما جاءها الغرفة يمازحها بأن عباس فارس سمع كلامها ورد على التليفون ليجدها قد فارقت الحياة. وكيف أنه فى العزاء «كان يروى الحكاية كلها لمن يجلس إلى جواره أو يربت على كتفه معزيا، ثم يلتفت إليه بعينين دامعتين، ويبتسم». تموت الحاجة إحسان فى منتصف الرواية وتترك أستاذ خليل مع متتالية أخرى من اللحظات الصغيرة التى يمتزج فيها أسى الذكريات مع خفة ظل الحكاية. تموت فتتركه يحاول لضم إبرة الخياطة ليوم كامل ويفشل، يقع على مجموعة من الصور القديمة لأعياد ميلاد الأولاد وإحسان فى شبابها وكامل زينتها فيزوره الأسى وهو يتذكرها تعيد فى آخر اليوم تزيين ثلاجتها بالقطع البلاستيك الملونة التى أصبحت متربة الآن. فى «حجرتان وصالة» يخلق إبراهيم أصلان عالما بسيطا ورائعا وجميلا من اللحظات الصغيرة، عالم يستقبلك بابه بجزء من صفحة الوفيات وعلبة ثقاب وغطاء زجاجة بيبسى، وفى الداخل بإمكانك أن تتهجى أبجدية الحياة والدهشة.