في مجموعتها القصصية الجديدة "أوطان عابرة" الصادرة مؤخرا عن دار "ميريت" تقتحم رحاب إبراهيم هاجس الاغتراب نحو احتمالاته القصوي .. تتخطي جدله الجغرافي نحو تجلياته الملتبسة داخل الزمن والجسد والروح والعاطفة .. يصبح معيار وجودي لكشف استفهامات التجربة، ولاختبار مسارات المعني داخل العالم .. يتحول كذلك إلي أداة تشريح لخبرات الحياة والموت في تراكماتها وصراعاتها، وفي ما يمكن أن تنتجه تفاصيلها المعقدة من إلهامات جمالية في نزوعها لتكوين أمان محتمل. في قصة "مرآة عارف" يسلّم المكوّن التقليدي للمرآة مشيئته إلي فكرة المرايا نفسها .. إلي الطبيعة المراوغة لحالة التأمل الذاتي المقترنة بمراقبة الآخر ورصد تحولات الزمن .. المرآة هنا هي ممر المواجهة حيث يتورط الوجه في نزاع ضبابي مع وجوهه الأخري المدفوعة للتوالد بإلحاح من الماضي .. في اقتفاء أثر الأشكال الملغزة للحضور البشري داخل الخوف والعزلة الشخصية باعتبار الملامح بوابة للقدر .. للمصائر التي تنتهي إليها الأحلام في خضوعها للشروط المتغيرة للفهم المنشغل طوال الوقت بطرح نماذج متطورة للخداع بديلة له. (أحببت "عارفا" لأنه منحني مرآة صغيرة. في اللحظة التي مد يده لي فيها بالمرآة طقطق الحب بداخلي، نظرت لوجهي فيها، وكركر قلبي مثل طفل) المرآة فعل اكتشاف ليس لما هو مخبوء وغائب فحسب بل لما لا يمكن حيازته أيضا إلا بواسطتها .. إلا بوضع الوجه تحت تصرف حكمتها .. المرآة تعطي الملامح أحيانا الاحتفال الخيالي الجديرة به وفقا لأسرار التحرر المتمنع الكامنة داخل الذات. (أصحو من نومي مرارا وأتحقق من نوم أبي لأفتح نور غرفتي، وأطيل النظر إليها بحوافها المذهبة وبريقها الفريد، ثم أرفعها ببطء أمام وجهي فأراني، ويا للعجب، جميلة فيها.. )، (مرآتك يا عارف سحرية .. ساحرة وشريرة، تريني الأشياء علي غير حقيقتها ) كأن المرآة التي يمنحها لنا الآخر تكون أحيانا نوع من الاستجابة لأمنياتنا التي قد نعجز عن إدراكها بوضوح .. كأن هذا الآخر يعرفها ويؤمن بها تماما دون أي دراية، وفي نفس الوقت يثق في قدرته علي مجيء اللحظة التي سيحولها من عزاء متواري داخل الروح إلي حقيقة ملموسة ومدهشة . ( مرآتي يا عارف غيرها تماما، تنقلت في أكثر من حجرة ثم استقرت في حجرتي. كتراث باق من غرفة نوم أمي احترمتها تماما ووثقت بها، وثقت أن بشرتي سمراء متجعدة ومليئة بالشوائب) إذن قد تكون المرآة تخليصا من سطوة مرايا أخري .. المرايا التي تحمل سلطة التاريخ العائلي بكل الأحكام والقرارات التي أجبرتنا علي الخضوع لها والثقة فيها ولو حتي من باب تفادي الشعور بالذنب لو تحركنا ضدها .. التي قامت علي مدار الزمن بترسيخ هوية للذات لا تخص الآماد المباشرة للوجود الشخصي فحسب بل تشكل صورة للوجود الإنساني نفسه. (ابنتي اسمها هدير وفي حجرتها ثلاث مرايا .. واحدة طويلة واثنتان مدورتان، وهي تقاتل باستماتة منذ سنتين كي تضيف إليها مرآة أخري صغيرة بإطار مذهب، تستقر في درجي ولن تطالها يدها أبدا ما دمت علي قيد الحياة) لأن المرآة كانت سحرية جعلت الأم تري الأشياء علي غير حقيقتها .. لأنها كانت نافذة للطيران خارج الواقع فمن الممكن أن يحتويها الخوف من تحولها لمرآة عادية لو امتلكتها البنت .. أن تصير جزءا من التابو الأسري وتفقد كافة الإمكانيات والخصائص الإعجازية التي تنقي بواسطتها الوجه من كوابيسه .. خوف من حتمية التكرار التاريخي الذي يدفع بالمرآة لأن تكون ميراثا تقليديا .. لكن في الأمر أيضا نوع من الاعتراف بهذه الحتمية .. يقين بأن القصة القديمة ستظل تتكرر رغما عن إرادة أي أحد .. استسلام للمصير الذي تنتهي إليه كل المرايا .. أنها ستظل دائما المكان الذي يختزن لقاءات الملامح مع اغترابها .. الملامح التي تحتفظ بالوجوه التي سبقتها كأن مرآة واحدة تتنقل عبر الزمن بين جميع البشر. في قصة (صورة لامرأة ميتة) تشريح لحالة اغتراب أمومي .. اغتراب موثق في صورة كارنيه هي الوحيدة التي تركتها أم لبنتها. (لم نكن نملك سوي صورة كارنيه قديم، صورة بالأبيض والأسود) وراء هذا الفقر البالغ في صور الأم يمكن لأسئلة كثيرة أن تتصارع : هل كانت الحياة خالية حقا من المشاهد التي تستحق التثبيت؟، أم أنه كان هناك حرمان دائم من القدرة علي تخليد اللحظات التي احتاجت حمايتها من الفناء ولو بأخذ صورة لها؟ .. هل كان الحرمان راجعا لأشخاص أم لسلطة أم لطبيعة لا يمكن الانفلات منها؟، أم أنه كان هناك تعمد من الميت نفسه علي ألا يعطي لحياته أي فرصة للبقاء بعد رحيله؟ (من أجل أن تصلح للتعليق علي الحائط، تم تكبيرها ووضعها في الإطار المذهب الفخم. عندما تكبر الصورة زيادة علي حد معين تتلاشي التفاصيل الصغيرة) كأن الصورة الوحيدة للأم الميتة تريد أن تكون ميتة أيضا .. غائبة .. تريد أن تكون أمينة في التعبير عن حياة صاحبها بالضرورة أيضا .. كأنها تسخر من رغبة الآخرين في الحفاظ عليها أو تمرر سخرية الميت من هذه الرغبة .. الصورة تعرف أنه لا ينبغي لها أن تكون واضحة أو مفهومة باعتبارها صورة لكائن كان ينتمي إلي الدنيا .. هل هناك احتمال أن الكيفية التي انتهت إليها هذه الصورة مثلت رسالة رمزية للميت أراد لمن عاشوا معه قراءتها ولم ينجح طوال عمره في البوح بها ؟ ، أم أن ممارسة الآخرين تجاه هذه الصورة تعد استمرارا لما كانوا يمارسونه ضد صاحبها ولو بنية طيبة؟ من أجمل قصص المجموعة في تصوري قصة (فراشات ناديا) ، وهي تتناول ما يمكن تسميته بالفتاة المستحيلة التي يمكن لأبسط فعل غير متعمد منها أن يخلق دهشة كبيرة .. وهي لم تتجاوز الخامسة وضعت كفها علي طلاء سيارة والدها فصنعت نصف فراشة دون قصد فجعلها الأب تكمل ثلاث فراشات صغيرة علي السيارة كان يباهي بها أصحابه .. كانت تتناول الآيس كريم فألهمت البائع لاستغلال المكان الذي تقف فيه لوضع منضدتين ثم العديد منها بعد ذلك ليشيد كافتيريا .. أضافت بالصدفة نقطتين من خل التفاح لخلطة السمك التي تعلمتها من أمها فأعجب الجميع بما صنعته . (مواقفها المدهشة كانت تنال تقدير زوجها في البداية ، لكنه بعد فترة بدأ يشعر بالإرهاق من الدهشة المتكررة كل صباح) ، (الذي تزوج ناديا ندم في النهاية لأنه لم يتزوج فتاة تشبهها) كأن ناديا خيالا لا يمكن تحمله .. لأنه ربما يفوق أي قدرة علي تصديق وجوده.. كأنه يتعذر العيش إلا برفقة غرباء حيث يعرف المحاصرون بعضهم بشكل أو بآخر، ويرفضون رغما عنهم إقامة المخلوقات الخرافية بينهم .. التي تبدو أحيانا قادرة علي التحليق دون عناء.