ما يحدث في ميدان التحرير.. ليس صراعاً علي السلطة. إنه صراع من أجل الحرية. صراع بين ديناصورات منقرضة تحاول أن ترسم مستقبل وطن، وبين شباب حالم يريدون أن يصنعوا مستقبلهم بأيديهم، مستقبل لا يفرضه عليهم آخرون. نحن في التحرير من أجل الحرية وحدها، ولم تكن ثورة 25 يناير من أجل إزاحة مبارك وحفنة من رجاله، لكنها من أجل اسقاط الدولة الأمنية، القمعية، من أجل إسقاط دولة الوصاية الأبوية، من أجل إسقاط الخيال القديم للسلطة. الثورة المصرية هي ثورة خيال بالأساس، ثورة إبداع. وخيال السلطة دائما فقير، لغتها أيضا فقيرة... إذا كانت قد استخدمت في الثورة الأولي الخيول والأحصنة لقمع المتظاهرين، فإنها استبدلتها هذه المرة بأقصي آليات الحداثة..الغاز القاتل، المسمم، متصورة أن الشباب يمكن أن يتراجع أو يصمت ويسلم بالأمر الواقع..لكن ذلك لم يحدث... واصلت الثورة إبداعها.. اكتشفنا أن استنشاق ثاني أكسيد الكربون يخفف أثر الغاز. يقلب كل قواعد العلوم التي درسناها، واستخدام خميرة البيرة وغسل الوجة باللبن أيضا يفعل ذلك.. الشباب يواجه الموت بصدر عار تماما.. لا يخاف الرصاص، بينما يخاف أن تعرف أمه.. أنه في صفوف الثورة الأولي. صديق أصابته رصاصة.. لم يكن يهتم بأي شيء وهو ينقل الي المستشفي سوي: "ما تقوليش لأمي".. الابن قال لأبيه لدي " درس خصوصي"..والأب قال للابن: سأذهب إلي العمل. وفي المظاهرة كان الإثنان يلتقيان، ابتسما. والأمهات أيضا أكثر روعة. عندما خرج شهيد من مشرحة زينهم فاجأت الأم المحيطين بها بالزغاريد.. قالت: "ابني خارج ياولاد زفوه لعروسته في الجنة". هل هناك أجمل من ذلك؟ كأننا في فيلم رعب، قنابل تسقط، يتساقط بعدها الثوار، وكأنهم أحجار شطرنج، سرعان ما يستعيدون الوعي، ليواصل "التحرير"مشاهد الشهداء والمصابيين والرعب والقنابل تفوق الوصف، بل ان ما يحدث يتجاوز أي خيال. حرب إبادة حقيقية علي الثورة والثوار. هل شاهد أحد المسئولين هذا المشهد: سقط أحد المتظاهرين برصاص قوات الأمن، اقترب منه أحد ضباط الأمن المركزي، سحل جثته علي الأرض وألقي بها في الزبالة. المشهد كفيل بمن لديهم قلب في التحرك، الاحتجاج. لهذا خرج الشعب دفاعا عن حريته وكرامته التي يريد ألا ينتهكها أحد مرة أخري. الشعب الذي هتف في أول أيام ثورة " 25 يناير" :" الجيش والشعب إيد واحدة".. هو نفسه الآن الذي يهتف: " الجيش والشرطة إيد وسخة".. كيف وصلنا إلي ذلك الأمر؟ هل تقود الداخلية حربا ضد الشعب. أم أن تمردا كبيرا داخل الجهاز يرفض تنفيذ أوامر وقف إطلاق النار؟ أم أن القيادات القديمة التي لم يشملها التطهير قررت أن تقضي علي ما تبقي من الجهاز. " لعبة" ربما لتأديب الشعب ولكن يبدو أنها ستنقلب عليه. الثورة إذن هي ثورة تطهير حقيقي. ولحظة فرز حقيقية للنخب الثقافية التي مارست للأسف العهر الفكري طوال تاريخها ولا تريد أن تنظر أبعد من تحت قدميها. عهر فكري حقيقي عندما يخرج كاتب لكي يقول: " لو الصحفي نازل علشان يتظاهر فهو خارج حماية نقابة الصحفيين". "عهر" عندما يصف البعض المتظاهرين بأنهم بلطجية أو أنهم تقاضوا أموالا ليقوموا بالثورة..خيال السلطة البائس هو الخيال نفسه الذي تمتلكه النخبة الثقافية البائسة أيضا. وخدم السلطة القديمة هم الذين يقدمون أنفسهم حالياً لخدمة السلطة الجديدة، وأي سلطة... الموجة الجديدة تدافع عن الحق في دولة مدنية ديمقراطية، تعلن نهاية حكم الجنرال والفقية.. أو هؤلاء المتحدثين الذين يعتقدون أنهم يمتلكون توكيلا للحديث باسم السماء. الثورة مستمرة تواصل "إبداعها".....