مركز الدراسات والبحوث يشارك في مؤتمر علمي عن دور الذكاء الاصطناعي في تحقيق التنمية المستدامة    وزير التموين ومحافظ الجيزة يفتتحان سوق اليوم الواحد بمنطقة حدائق الأهرام    حماس: قصف إسرائيل مركز إيواء بغزة جريمة وحشية وخرق فاضح لوقف النار    محافظ المنيا يتابع مع وزير الرياضة آخر أعمال تطوير مراكز الشباب بالمحافظة    الأرض تنحاز لأصحابها في المباريات الافتتاحية لأمم أفريقيا    إصابة 7 أشخاص من أسرة واحدة في حادث تصادم سيارتين بالطريق الصحراوي بالبحيرة    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم السبت 20-12-2025 في محافظة الأقصر    المستشار حامد شعبان سليم يكتب عن : لعنة الله على تلك .. المسماة " ديمقراطية !?    منصور أريمو رئيسا للاتحاد الأفريقي لكرة اليد.. ومدحت البلتاجي نائبًا أول    «التموين» تقر حل وتصفية 3 جمعيات تعاونية في 3 محافظات    صاحب الفضيلة الشيخ سعد الفقى يكتب عن : موسم سداد الديون؟    وزير الرى يتابع خطة إعداد وتأهيل قيادات الجيل الثاني لمنظومة المياه    واشنطن تلغي حظر استخدام الألغام المضادة للأفراد    وزير الخارجية يلتقي وزير خارجية جمهورية الكونجو لبحث تعزيز التعاون الثنائي    أطباء بلا حدود: أطفال غزة يموتون بردا وندعو إسرائيل لإدخال المساعدات    استعدادا لامتحانات منتصف العام، انتظام التدريب العملي لطلاب علوم القاهرة الأهلية    ضمن مبادرة صحح مفاهيمك، أوقاف الإسماعيلية تواصل التوعية ضد التعصب الرياضي    سعر الذهب اليوم السبت 20-12-2025 في مصر صباحًا    منتخب مصر يخوض مرانه الرئيسى اليوم استعدادا للقاء زيمبابوى بأمم أفريقيا    نجم الزمالك السابق: أحمد عبدالرؤوف مُطالب بالتعامل بواقعية في المباريات    مواعيد مباريات اليوم السبت 20 ديسمبر والقنوات الناقلة    سعر الدولار أمام الجنيه في بداية تعاملات اليوم السبت بالبنوك    إخلاء سبيل طليقة إبراهيم سعيد بعد مشاجرة معه بفندق في القاهرة الجديدة    شهود عيان عن مصرع قائد حفار بالعياط: سقط عليه جزء من جبل رملي    موعد ومكان تشييع جنازة الفنانة سمية الألفي    مكتبة مصر العامة بالأقصر تستقبل وفد المركز الثقافي الكوري لبحث التعاون    إقبال جماهيري على «حفلة الكاتشب» في ليلة افتتاحه على مسرح الغد بالعجوزة    كايروكي تجهز مفاجأة كبرى خلال أيام    استمرار مبادرة "كلنا واحد" حتى نهاية ديسمبر لتوفير السلع بتخفيضات تصل ل 40%    محافظ أسيوط يقرر صرف تعويضات عاجلة ودعم شامل للمنازل المتضررة بمنطقة غرب البلد    قفزة قياسية متوقعة لأسعار الذهب في 2026.. وتراجع محتمل للنفط    دار الإفتاء تستطلع هلال شهر رجب| اليوم    للنساء بعد انقطاع الطمث، تعرفي على أسرار الريجيم الناجح    المبادرات الرئاسية تعيد كتابة التاريخ الصحي لمصر    أزهري يعلق علي مشاجرة الرجل الصعيدي مع سيدة المترو: أين هو احترام الكبير؟    نشرة أخبار طقس اليوم السبت 20 ديسمبر| الأرصاد تحذر من أجواء شديدة البرودة    ذكرى ميلاده ال95.. صلاح جاهين يصرخ عام 1965: الأغنية العربية في خطر!    د. خالد سعيد يكتب: ماذا وراء تحمّل إسرائيل تكلفة إزالة أنقاض غزة؟!    ستار بوست| أحمد العوضي يعلن ارتباطه رسميًا.. وحالة نجلاء بدر بعد التسمم    أحمد العوضي عن درة: نجمة كبيرة ودورها في «علي كلاي» مفاجأة    ماذا يحدث لأعراض نزلات البرد عند شرب عصير البرتقال؟    قتلوه يوم الاحتفال بخطوبته.. محمد دفع حياته ثمنًا لمحاولة منعهم بيع المخدرات    إرث اجتماعي يمتد لأجيال| مجالس الصلح العرفية.. العدالة خارج أسوار المحكمة    التحالف الدولي يطلق صواريخ على مواقع داعش في بادية حمص ودير الزور والرقة    القوات الأمريكية تشن غارات على أكثر من 70 موقعا لداعش في سوريا    موهبة الأهلي الجديدة: أشعر وكأنني أعيش حلما    تايكوندو مصر يواصل التألق في اليوم الثاني بدورة الألعاب الإفريقية للشباب    محمد معيط: روشتة صندوق النقد الدولي عادة لها آلام وآثار تمس بعض فئات المجتمع    محاكمة 9 متهمين في قضية خلية البساتين.. اليوم    مصر للطيران تعتذر عن تأخر بعض الرحلات بسبب سوء الأحوال الجوية    حريق في مول تجاري بأسوان والحماية المدنية تسيطر على النيران    الأنبا فيلوباتير يتفقد الاستعدادات النهائية لملتقى التوظيف بمقر جمعية الشبان    روبيو: أمريكا تواصلت مع عدد من الدول لبحث تشكيل قوة استقرار دولية في غزة    وزير العمل يلتقي أعضاء الجالية المصرية بشمال إيطاليا    السفارة المصرية في جيبوتي تنظم لقاء مع أعضاء الجالية    كل عام ولغتنا العربية حاضرة.. فاعلة.. تقود    التغذية بالحديد سر قوة الأطفال.. حملة توعوية لحماية الصغار من فقر الدم    جرعة تحمي موسمًا كاملًا من الانفلونزا الشرسة.. «فاكسيرا» تحسم الجدل حول التطعيم    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



عن القصة وكرنفال الدم العربي: قطرة .. قطرة دم
نشر في أخبار الأدب يوم 12 - 11 - 2011

قبل الدخول إلي القصة القصيرة، قبل الإنصات لصوتها الخفيض في لُجة أصوات العالم، والتفكير بمقاربات حياتها في لحظة عربية فاصلة، أقترح أن أستعيد حكايتين خاطفتين، الأولي تبحث عن سرّ من أسرار الحكمة والثانية تحكي عن دم النديم، وليكن هذان عنوانيهما: سرّ السعادة، وقطرة دم، وهما تأخذاننا إلي القصة التي طالما وقفت خلف بابٍ موصدٍ من أبواب تجربة الإنسان التي تتوالي باباً بعد باب، حتي كانت الدنيا نفسها والدنيا قصة بيتاً له بابان، كما يذهب الأثر العربي، باب الولادة وباب الممات.
أرسل أحد التجار ابنه ليتعلّم سرَّ السعادة عند الرجل الأعمق حكمة من بين كل الرجال، هكذا تبدأ الحكاية الأولي، مشي الصبي أربعين يوماً في الصحراء قبل أن يصل إلي مدخل قصر علي قمة جبل، حيث يقيم الرجل الحكيم.
دخل الصبي قاعة تنشط فيها حركة كثيفة: باعة يدخلون ويخرجون، أناس يتحادثون، وفرقة تعزف، وطاولة مليئة بأشهي المآكل، والرجل الحكيم يتحدث مع هؤلاء وأولئك، اضطر الشاب إلي الانتظار ساعتين قبل أن يحين دوره.
أصغي الحكيم بانتباه إلي الشاب وهو يشرح سبب زيارته، لكنه قال له، أن لا وقت لديه الآن ليطلعه علي سرّ السعادة، واقترح عليه القيام بجولة في القصر ثم العودة ليقابله بعد ساعتين.
مع ذلك، أريد أن أطلب منك معروفاً
أضاف الحكيم، وهو يعطي الشاب ملعقة صغيرة سكب فيها نقطتين من الزيت: خلال جولتك أمسك جيداً بهذه الملعقة، ولا تدع الزيت يسقط منها.
بدأ الشاب يصعد وينزل سلالم القصر كلها، وعيناه مركّزتان علي الملعقة. وعاد، بعد ساعتين، إلي حضرة الحكيم.
وكما هو متوقع سيسأل الحكيمُ الشابَ إن كان قد رأي النجود الفارسية الموجودة في غرفة الطعام، إن كان قد رأي الحديقة التي عمل مسؤول البستانيين عشر سنوات لإنجازها، إن شاهد الرق الجميل في المكتبة.
يرتبك الشاب، ويضطر للاعتراف بأنه لم ير شيئاً، همّه كان ألا تقع نقطتا الزيت من الملعقة.
إذن عُد وتعرّف علي روائع عالمي.
قال له الرجل الحكيم.
لا يمكن الوثوق بإنسان إن لم نكن نعرف المنزل الذي يقيم فيه.
حمل الشاب الملعقة، وهو أكثر اطمئناناً الآن، وعاد يتجوّل في القصر، مركّزاً انتباهه، هذه المرّة، علي كل الأعمال الفنيّة المعلّقة علي الجدران والمرسومة علي السقف، ولدي عودته إلي الحكيم عرض له كلَّ ما رآه.
لكن، أين هما نقطتا الزيت اللتان أوكلتك بهما؟
نظر الشاب إلي الملعقة فوجد أن النقطتين قد سقطتا منها.
قال الحكيم عندئذ:
النصيحة الوحيدة التي يجب أن أعطيك إياها: إن سر السعادة هو أن تنظر إلي روائع الدنيا كلها من دون أن تنسي أبداً نقطتي الزيت في الملعقة.
قبل أن ندخل إلي الحكاية الثانية سأجري تعديلاً علي عنوان الحكاية الأولي يتناسب مع هدفنا في مقاربة القصة القصيرة والإنصات لصوتها الخفيض، ألغي سرَّ السعادة وأضع قطرة الزيت بديلاً، ولأن القطرة تهطل وتقطر وتسقط وتسيح في خط موصول من السماء إلي القارورة، من المطر إلي الدمع، من الزيت إلي الدم، سأفتح كتاب أبي الفضل أحمد بن محمد بن إبراهيم، النيسابوري، الميداني، مجمع الأمثال، لأحكي هذه الحكاية:
ذكروا أن ملكاً من ملوك حمير خرج متصيداً ومعه نديم له كان يقرّبه ويكرمه، فأشرف علي صخرة ملساء ووقف عليها، فقال له النديم:
لو أن إنساناً ذُبح علي هذه الصخرة إلي أين كان يبلغ دمه؟
فقال الملك:
اذبحوه عليها ليري دمه أين يبلغ.
فَذُبح عليها، فقال الملك:
رُبَّ كلمة تقول لصاحبها دعني
لم تكن القصة القصيرة العربية غير الخيط الشفيف الرابط بين قطرة الزيت علي ملعقة الخيميائي ومسيل الدم علي الصخرة الملساء، وهي تفتح في كل مرّة باباً جديداً من أبواب حياتها في مواجهة واختبار تدافع فيهما عن ضرورتها وتعمل علي تأكيد قيمتها وهي تسعي لإدراك معادلتها في ضرب من التوازن المستحيل بين الانشغال بالعالم، بتفاصيله الدقيقة المغرية، والحفاظ علي قطرة القص في اكتنازها الثري، مثلما تضع حداً فاصلاً، هو الحد بين حياة القصة وموتها، بين أن تقول أو لا تقول، وهي تتحرّك بين الإيماءة الدالة وحيلة الوهم المكثف لاستيعاب عالم التجربة الإنسانية بخصوبته واتساعه وتعقيده.
إن كتابة القصة القصيرة اختبار مفتوح تتجدد فيه أسئلة العلاقة مع العالم واللغة والأسلوب الذي تنهض عليه والطريقة التي تتكون بها، إنها تستمد صعوبتها من لحظة الوجود التي تسعي لاقتناصها بمهارة للتعبير عن لؤم العالم وفداحته.
وإذا كانت قصتنا العربية القصيرة قد أنتجت بلاغة حضورها منذ منتصف القرن الماضي ارتقاءً لعقد ستينياتها الذهبي، فإنها اليوم تدخل اختبار القرن الجديد، وقد دخل الوجود العربي نفسه مثل هذا الاختبار بعد أن اختلط الدم علي صخور العواصم وارتجفت اليد فاهتزت قطرة الزيت التي طالما شهدت علي وطادة العلاقة بين القصة العربية ومرجعها الواقعي، وربما كانت أهم انجازاتها تنويعاً علي طبيعة تلك الصلة، وإعادة تشكيل لمعدن العلاقة، مع إدراكها أهمية المسافة الفاصلة بين ما تقصه من تجارب وبين التجارب نفسها، بين العالم والصورة التي تسعي لإنتاجها عنه، وهي تعيش عصر التحوّل من الكلمة إلي الصورة، عصر الانتقال من الفهم إلي السكني، بتعبير سوزان سونتاغ إن النصوص تستطيع أن تجعلنا نفهم. أما الصور فهي تفعل شيئاً آخر: إنها تسكنناا الأمر الذي دعا نجيب محفوظ للتعبير قبل ما يقارب الثلاثة عقود عن مخاوفه من مستقبل القصة: ولما كانت القصة القصيرة عسيرة علي التحويل من الكلمة إلي الصورة، فلن يكون مستقبلها باهراً إلا إذا طوّرت نفسها ورجعت إلي الحكاية القديمة أو خلقت شكلاً آخر جديداً.
في البحث عن مهمات الشكل القصصي وقدراته التعبيرية قدّمت القصة العربية اقتراحات عدة يمكن أن تُعدَّ اليوم فصولاً مؤثرة في سيرتها وهي تعبر من مرحلة إلي أخري محاولة في كل منها إنتاج خيارات كتابة وحياة تنوعت فيها رؤيتها لعالمها الذي طالما تغيّر هو الآخر، وتعددت سبل تعاملها معه وهي تؤكد سمة الإنصات العميقة التي ميّزتها عن سائر فنون الأدب، فللقصة رصيدها من النبوءة والحلم، ولها ممكناتها في قراءة الواقعة الإنسانية بالتركيز علي شظاياها وإضاءة وحداتها الهندسية الصغيرة والتقاط قوانينها.
وإذا كان نجيب محفوظ قد اقترح متجهين لتواصل الكتابة القصصية وتطورها، متجه الرجوع إلي الحكاية القديمة في تمثيلاتها المتعددة، وهو ما اجتهدت القصة القصيرة العراقية علي نحو خاص في إنتاجه محاولة منها لمواجهة حرب الثمانينيات الطويلة القاهرة، ضرباً من مناورة الواقع لإعادة اكتشافه بالذهاب إلي منابعه الأسطورية البعيدة، ومتجه الذهاب إلي شكل جديد مبتكر ما يزال يؤكد حيوية القصة العربية، فإن المهمة الأصعب في حياة القصة اليوم هي مواجهة طبيعة العلاقة مع الواقع، مرجعها الأساس، الذي لم يعد في باكورة القرن الحادي والعشرين مثلما كان في أخريات سابقه، ولأن الواقع يعيد تشكيل نفسه، يعيد بناء عناصره بما يكفي من مرارة وألم، فإن علي القصة، بالضرورة، إعادة بناء علاقتها معه، إعادة بناء تصوّرها عنه خارج تراتبية وانتظام أملتهما إرادة سلطة لا رادّ لها، في الوقت الذي يبدو من الضروري فيه التأكيد علي أن العلاقة مع الواقع لا تعني الذهاب إلي موقف اجتماعي أو رؤية فكرية مسبقين، إن وعي العلاقة يقترح نمطاً من الصلة مُخلّصاً من شبهة الوصاية والتكريس، قادراً علي رصد التجربة الإنسانية والإنصات لمتغيراتها وهي تنقل الحياة من الساكن والمألوف إلي أفق مفتوح علي احتمالات متراكبة، كل خطوة فيها تأسيس نمط واقتراح حياة، لتكون القصة بالفعل، اكتشافاً، مثلما هي الحياة العربية اليوم مواجهة مستمرة لاكتشاف مساحة من القدرة لم تكن قد اختبرت من قبل.
من قطرة الزيت، من الملعقة، من حكمة التوازن بين الفعل والرؤية، من الكلمة التي لا ملاذ لها في نسيج لا لغو فيه ولا تزيد، إلي القصة التي تدعونا للإنصات عميقاً إلي دواخلنا، ولإعادة التفكير في الصلة بين النص والواقع، واقعنا الذي يعيش كرنفال الدم العربي، في واحدة من لحظات التحوّل العسيرة النادرة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.