غير خطه الروائي، الذي يصور فيه دائما عالم الشرطة، خرج الروائي حمدي البطران عن المألوف في روايته الثالثة " ذكريات منسية" بعد روايتيه: " يوميات ضابط في الأرياف" و" خريف الجنرال". في ذكريات منسية قدم البطران ملامح من تاريخ وطن من خلال عائلة استشهد ابناها فداء لمصر، الأول في حرب 1973، والثاني في أسيوط في فترة تأدية خدمته العسكرية، في أثناء صراع الدولة مع الجماعات الإسلامية، أما الثالث فهو الشخصية الرئيسية في الرواية " عمار" فهو رواي الذكريات التي غطت حقبة طويلة منذ 1973 وحتي نقل تمثال رمسيس في عام 2005 من مقره بالميدان الذي يحمل اسمه. أسأله: هل بالفعل تري أنه منذ انتصار أكتوبر وحتي الآن.. نمر بمرحلة واحدة، رغم تناوب رئيسان ( السادات- مبارك)؟،فيجيب:أعتقد ان هذا صحيح تماما، غير أنني أود ان أعود الي الخلف حتي ثورة 1952 فمن الناحية السياسية لم يتغير نظام الحكم ، هو الحكم الشمولي القائم علي ديموقراطية شكلية ، ورئيس يمسك في يده كل تقاليد الأمور ، وفي كل مرحلة سواء من عهد عبد النصر وحتي مبارك كان هناك من يلتف حول الرئيس ليقنعه بأنه الرئيس الملهم، وكانت النتيجة أن حجم الفساد من رجال الرؤساء كان هائلا ، إلا أننا نلاحظ أن هذا الفساد بدأ في الإضطراد بشكل مخيف في عهد مبارك . وفي كل مرحلة من تلك المراحل كان الفساد يغطي علي كل الإنجازات التي قام بها المصريون. ومنها حرب أكتوبر 73 والتي يبدو لي أنه عمل بطولي لن يتكرر، وفي رأيي أن تلك الروح لم يتم استثمارها بطريقة جيدة، بل وتم تجميدها تماما، فلم تعد روح اكتوبر التي حاربنا بها، هي نفس الروح التي سادت في عصر مبارك، فقج تم إيقافها أو تنحيتها لصالح الفساد العظيم، وحلت محلها روح أخري جلبت لنا أوضاعاً تجرنا للخلف آلاف الخطوات . في الرواية أشرت إلي ردود الفعل الغاضبة للعرب تجاه اتفاقية كامب ديفيد والإهانات التي تعرض لها المصريون العاملون في الخارج: هل تري أن زيارة القدس نقطة فاصلة في طريقة تعامل العرب مع المصريين ولم تتغير حتي الآن؟ - حسب ما أوضحت في الرواية كانت إهانة المصريين في الخارج بفعل تقاعس القيادة السياسية عن النظر الي أبناء هذا الشعب ، فقد كان هناك فقه سائد في عهد مبارك أن كثرة السكان تمثل وبالا عليه، ولم يتخذ أي خطوات لتنمية بلاده من أجل استيعاب الزيادة السكانية، لأجل هذا كنا نسمع عبارات اليأس في كل المناسبات ، ومن هنا كانت نظرته إلي أبنائه المصريين نظرة استعلائية ، وبدأت أجهزته الرسمية في إهمال المصريين تماما ، في الداخل حدثت كوارث عديدة ، أبيد فيها مصريون ، وكان رد فعله باردا ، لا يتناسب مع جسامة الحدث الجلل ، وانعكس ذلك علي المصريين في الخارج . فأهمهلهم تماما ، سواء كانوا من أقباط المهجر في أوروبا وأمريكا وغيرها ، أم البسطاء الباحثون عن الستر في الدول العربية والخليج فحدث ولا حرج. ففي العراق مثلا ، وحسب ما صورت الرواية كانت الإهانات أثناء المؤتمر الذي عقده رؤساء الدول الأربعة في نهاية 1988 لإعلان لحظة ميلاد ما عرف وقتها باسم اتحاد الدول العربية ، وكان الرئيس مبارك هناك ، وعندما تفاقمت الأزمة جاء أحد رجال صدام حسين إلي مصر لاحتواء أزمة النعوش المصرية التي كانت تصل في الطائرات، والغريب أن الرجل اُستقبل بحفاوة منقطعة النظير من قبل الأجهزة الرسمية ومثقفي المؤسسة، وعاد إلي بلاده ، وكأن شيئا لم يحدث ، واستمر مسلسل النعوش حتي غزو الكويت . ويضيف البطران: ولو عرفنا كمية الهدايا التي منحها صدام حسين للمثقفين المصريين الذين تمت دعوتهم الي العراق ، لعرفنا السبب الذي من أجله ابتلع نظام مبارك أزمة النعوش والجثث التي كانت تصل يوميا إلي المطار ، وقتها تم التعتيم بطريقة بالغة الغرابة علي تلك القضية ، فقد كانت تلك الهدايا تنم عن رغبة عارمة لدي القيادة العراقية في استعراض الوفرة التي لديها من الأموال ، والرخاء الذي يعيشون فيه ، ومع ذلك لم يسمحوا للمصريين العاملين فيها بإحضار الأموال والأجور التي هي ناتج عرقهم وكدهم ، وأعدم بعض المصريين بسبب محاولتهم تهريب نقودهم ، وفي اللحظة الأخيرة تدارك صدام ذلك وأصدر عفوا عن بعضهم . الغريب أن المثقفين المصريين ابتلعوا اللقمة ، وانحازوا إلي صدام حسين تحت وهم القومية العربية والحلم العربي ، إلي الحد الذي وصفته فيه شاعرة عربية بأنه السيف العربي الوحيد ، وبعدها بعام واحد كانت الشاعرة تفر مع عائلتها من بلدها أمام دبابات ومدرعات النشامي من رجال صدام حسين . وللعلم فإن تلك الوفرة ما تزال تبهر بعض المصريين، ويرون أن مجتمعات الخليج تقترب من المثالية السياسية في نظم الحكم، بسبب ما تنعم به من وفرة المالية . وأري تلك النظرة ما تزال حتي تلك اللحظة تحكم العلاقة بين أغنياء الخليج وفقراء المصريين ، فهم لم يحتملوا أن يثور المصريون من أجل إسقاط رئيسهم الفاسد، وعبروا عن ذلك في أقرب احتكاك مع المصريين والمضايقات التي حصلت للمعتمرين المصريين في جدة مؤخرا، خير دليل علي ذلك ، والملايين التي مولوا بها بعض الجمعيات الدينية والمدنية ، والتي ظهرت نتائجها الفورية في أربع وقائع للفتنة الطائفية لم تشهدها مصر من قبل ، وانا أعتقد أن مسلسل الفتن الطائفية والذي طفا علي سطح النيل المتسامح لم يظهر إلا منذ انفتاح المصريين علي مجتمع الصحراء والبدو ، وانتشار تثقافة البدو بينهم ، وتركوا جلبابهم البلدي الواسع ، وعادوا بالجلباب الخليجي الضيق والقصير . وتحديدا منذ 1975 وحتي الآن ، ومن يراجع حوادث العنف الطائفي ، سيجد أن ما وقع منذ تلك الفترة ، يساوي تماما مجمل الحوادث الطائفية التي وقعت منذ عهد محمد علي 1805 حتي 1975 . - عمار شخصية ثرية انتقل بمعاناته من مصر، التي حلم أن يكون فيها أستاذا جامعيا، وفشل رغم تفوقه لينتقل للعمل في أكثر من بلد، هل عمار يصلح أن يكون النموذج الصارخ للإنسان المصري في السنوات الماضية؟ - احببت أن أجعل معاناة بطلي ، نسخة من معاناة كافة المصريين ، معاناة وتفوق ، ثم التغلب علي تلك المعاناة بالكفاح . فالبطل كان متفوقا في كليته ، وكان الأول علي دفعته ، ولكن الفساد المستشري لم يجعله ينعم يمكانه الطبيعي في الجامعة ، ولكنه كافح وحاول بعرقه أن يبني بيته ومستقبله ، ثم حصل علي الدكتوراة التي كان يريدها . وقد كان له ذلك . هذا البطل أيضا كان يعاني من الكبت الجنسي لوجوده في مجتمع مغلق ، وانعكس هذا علي كل تصرفاته في الرواية.. - ألا تري أن شخصية الفتاة الصومالية التي قابلها عمار مصادفة في القطار تبدو مقحمة في السياق؟ - لم تكن حكاية الفتاة الصومالية مقحمة في سياق القصة ، ولكن الكاتب قابلها عرضا أثناء رحلته في القطار ، وشكلت له هاجسا جنسيا شبقيا ، وجلس ليتحدث معها ، كان يريدها جنسيا ، كانت تريده جنسيا أيضا، وبالفعل أعطته عنوانها ، وربما كان يشكل لها نفس التوجه الجنسي ،، وعرف أنها تدرس الدكتوراة علي حساب الجامعة ، وهو ما اعتبره نقطة مضيئة وملهمة ، ولكن ما حدث معه في محطة القطار جعله ينساها ، فكتب عنها في روايته ، ولكنها عادت وقرأت ما كتبه عنها ، لم تتصور أن اللحظات القليلة التي قضاها معها الكاتب ستجعله يتذكرها، فأرسلت إليه برسالة مطولة ، رسالة مصارحة بررت فيها هوسها الجنسي وحال بلادها . وكانت رسالتها كاشفة عما حدث معها في الصومال ومع قومها ، نتيجة لموجة العنف الديني التي سادت في تلك الفترة. غير أنها في الصومال ما تزال مستمرة حتي اليوم . كتابك الجديد ( الأمن من المنصة إلي التحرير) ما القضايا الأساسية التي تطرحها في هذا الكتاب؟ في أحيانا كثيرة ينتابني الملل من الكتابة الروائية ، وأشعر أنني عاجز عن توصيل ما أريده للناس ، ربما لعدم جدوي الكتابة الروائية ، لحالة عدم القراءة ، أو استغراق الناس في القضايا السياسية كما يحدث الآن ، فوجدت أن لدي مخزوناً من المعلومات والوقائع المسجلة عن القبضة الأمنية التي كانت تحكم مصر ، كانت الصورة واضحة أمامي أن القبضة الأمنية تعود بنا إلي عصور العبودية ، وعصور القهر ، وكنت أري مفاسد وتجبُّر واعتداء علي كرامة المصريين البسطاء ، فحاولت أن أضع أمام القارئ صورة المؤسسة الأمنية في عهد مبارك ، وكيف كانت تحكم مصر . صورة مباشرة حقيقية وموثقة بدون أي تعديلات . أخيرا بصفتك ضابط سابق ومثقف له اسهاماته .. كيف تنظر لمحاكمات الضباط المتهمين بقتل الثوار في مختلف محافظات مصر، بمعني هل قانون الشرطة بصراحة في صف المتظاهرين أم الضباط؟ تحاكم قيادات الداخلية بالقانون الجنائي وليس بقانون هيئة الشرطة ، والقانون الجنائي يضع دائما نصب عينية فكرة ارتباط المجرم بجريمته ،وهو ما تقوم به النيابة من محاولة إسناد التهم إلي المتهمين بموجب أدلة واضحة ، وتطرح كافة الأدلة أمام المحكمة ، وهي وحدها التي تفصل فيها طبقا لما تكوّن لديها من قناعة . وأري أنه لا توجد جريمة ، في أي قانون مصري ، تسمي بجريمة قتل المتظاهرين ، ولكن توجد قوانين الاعتداء علي النفس ، سواء بالقتل ، أو الجرح أو الإيذاء البدني ، وكلها جرائم محددة بصفة عامة ، وتتم المحاكمات لمعرفة ما إذا كانت الرصاصة التي خرجت من بندقية فلان هي التي قتلت المتهم فلان . وهذا أمر قد يصعب إثباته من الناحية العملية في ظل مظاهرات كانت بالملايين . وأود أن ألفت النظر الي الاعتداءات التي شهدناها من أهالي المجني عليهم علي المحاكم والقضاة في الآونة الأخيرة ، والتشكيك في نزاهة القضاء من جانب بعض أجهزة الإعلام ، يمكن أن يؤثر بالسلب علي حيادية القاضي ، كما يمكن أن تجعل القاضي ، ما لم تتوافر له الحماية اللائقة ، يعيد التفكير قبل صدور الحكم . وهو أمر أرجو ألف مرة ألا يحدث . خلْفها، دون أن تنظر! عاد سليمان باشا لتأمّل الحصان، ازداد إعجابا به، فحسم الأمر: وقد قبِلنا الهديّة! - الحمد لله، هذا يعني أن الخير فيما سيأتي. علَّقتْ نجمة. - ليس لي سوي طلب واحد، لا غير، أن تفتحوا أبواب طبرية، وتخرجوا إليَّ ومناديلكم في رقابكم! - هذا ليس طلبًا يا باشا. هذا أَمْرٌ؛ فجنابكم لم ينتصر ونحن لم ننهزم! - بل هُزمتم، منذ اللحظة التي وصلتُ فيها إلي هنا! - لقد جئتُ يا باشا لحقن دمائنا ودمائكم، وكلي أمل أن تساعدني في هذا. - لا تقلقي علي دمائنا، فورائي برّ الشام كلّه، وأستطيع إحضار مئة جندي مقابل كل جندي يموت! - أعرف هذا يا باشا. كلنا نعرف هذا يا باشا! ونعرف أن من نفقده في طبرية يصعب علينا أن نعوّضه حتي بواحد، وليس بمائة؛ ولكن من نفقده من أولادنا نحزن عليه مثل ذلك الذي يمكن أن تفقده أنت يا باشا، حتي لو أحضرت مئة مكانه! - أأنتِ أحرص مني علي دم جنودي؟! - جنودك بشَر مثلنا يا باشا! ولذلك يحقُّ لي أن أخاف عليهم! - ما هي مطالبك؟ - مطلبنا يا باشا أن تنسحب بجيشك وأن نُسدّد، مقابل ذلك، كلّ ما في ذمتنا للدولة من مال الميري. - أما مطلبي فهو أن تفتحوا أبواب المدينة، وتستسلموا، وأن أُمسك بظاهر وأحمله معي إلي دمشق، فقد أقسمتُ أنني سأفعل هذا قبل أن أتحرّك منها! - أتأخذ ولدي ليُعدم هناك كما أُعدم من قبله أخوه صالح؟! - هذا مطلبي! أطرقتْ نجمة، ثم التفتتْ إلي الباشا مباشرة. حدّقت في عينيه طويلا، إلي أن أبصرته يغيّر اتجاه نظره نحو قدميها، وقالت: - اسمح لنا يا باشا بالذهاب. - مع السلامة. نهضت نجمة، ربّتت علي ظهر الحصان، كما لو أنها تودّعه، وسار خلفها الفتيان الذين أتوا معها، الفتيان الذين كانوا ينتظرونها في الخارج.
راقبها سليمان باشا تسير حافية، متوقِّعًا تعثُّرها، في أيّ لحظة بحجر، أو انغراس شوكة قاسية في قدميها، لكن ذلك لم يحدث. ظلّت تسير بهدوء، كما لو أنها تسير علي رمل شاطئ، إلي أن وصلت حيث الخيول التي جاؤوا عليها. وضعتْ قدمها اليمني في الرِّكاب، وقبل أن تمتطي الجواد، نظرت نحو سليمان باشا فوجدته يحدِّق فيها؛ فظلت قدمها داخل الرِّكاب لحظات، إلي أن أدرك أن عليه أن يغضّ بصره كي تستطيع امتطاء الحصان. أخيرًا أدرك ذلك، وما إن ابتعد بعينيه، حتي كانت فوق الحصان تبتعد. - يقولون إنها التي ربّت ظاهر بعد موت أمه. قال سليمان باشا. - نعم سيدي، ربته هي وفرس أصيلة؟ ردّ عثمان. - ماذا؟ - معرفة عدونا أمرٌ ضروريّ لكي ننتصر عليه سيدي! ولذلك سأخبرك بقصة ظاهر من أولها. - ولكن لا تُطِل! حين بدأ الكتخدا عثمان بسرد حكاية ظاهر، نسيَ سليمان باشا أن الحكاية حكاية عدوّه، فسأل يستحثه: وماذا بعد؟ استفاض عثمان باشا، وفوجئ بالسؤال ثانية: وماذا بعد؟ - كأنك أحببتَ حكايته يا باشا! انتبه سليمان باشا لذلك فقال: يكفي، هذا يكفي! - ولكن هنالك أمرًا آخر في الحكاية سيدي. - قلت لك، هذا يكفي!
حين رأي أهل طبرية نجمة ومن معها، من فوق الأسوار، عائدين، دون ذلك الحصان، استبشروا؛ بل كان بعضهم علي وشك أن يهنئ الآخرين علي ذلك النجاح الذي لا بدّ أن تكون قد حقّقته. - كانت أفضل رسول يمكن أن يرسله ظاهر إلي سليمان باشا! قال أحدهم. - الآن تقول هذا الكلام! أنسيتَ بأنك قلت في الصباح: ألم يجد ظاهر غير هذه العجوز ليرسلها؟! الصّيحات! كان الوجوم قاسيًا كحجر، وقد احتلّ ملامحَ الناس. وقف ظاهر علي واحدة من الدّرجات الصاعدة إلي أعلي السور، والناس تحدّق فيه. التفت يمينًا، شمالا، وأمامه، محاولا لمَّ الجميع. كلّ أهل طبرية تحوّلوا إلي قلب واحد وأذن واحدة. أشار ظاهر لنجمة أن تصعد وتقف إلي جانبه. تردّدت قليلا، فأعاد طلبه. صعدت ووقفت إلي جانبه وعيناها تتصفّحان وجوه الناس، وبين حين وحين تنظر إلي ظاهر. كانت قوية وصلبة كعادتها. - لقد سمعتُ من يصيح ليلة أمس: إنهم يريدون ظاهر والزّيادنة، فلماذا نموت نحن؟! ولذلك أرسلتُ أمي نجمة إلي سليمان باشا هذا النهار؛ أرسلتها لتوصل إليه مطالب طبرية، وتسمع مطالبه. لقد أرسلت إليه أقرب امرأة إلي قلبي علي هذه الأرض؛ تواضعًا وأملا في أن يفهم رسالتنا كلنا إليه. يريد أموال الميري، نعم. قالت له أمي ستصلك أموال الميري كاملة. سيصلك حقّ الدولة! لكنه طالب بأن تخرجوا ومحارمكم في رقابكم أذلاء، وأن تهزِموا طبرية بأنفسكم بأن تفتحوا أبوابها التي لم يستطع جيشه الوصول إليها. حقّ الدولة أن تأخذ الميري، أما إذلال الناس وتمريغ كراماتهم في الوحل فليس حقّ الدولة؛ لأن الكرامة التي وهبنا إياها ربنا ليست مُلكًا للدولة، وحريتنا ليست مُلْكا للدولة، وأرواح أبنائنا التي تُنتزع من أجسادهم، منذ شهرين، ليست مُلك الدولة. ومن يقول إن كرامته وحريته وروحه للدولة، لن أمنعه من الذّهاب. سأفتح له باب طبرية بنفسي، وليذهب عبدًا إلي حيث شاء. وسمع من يصيح: أين جيش أخيك سعد؟! وآخر: أخرج بجيشك يا ظاهر إلي الوزير واقتله! - أنا لا أفكّر علي هذا النحو، لأنني أري أبعد من هذا. قال ظاهر. لن أطلب من أخي سعد أن يوافيني بعسكره إلا في حالتين: الأولي عند قدوم وزير صيدا بعسكره إلي طبرية، ففي هذه الحالة، أي عند وصول وزير صيدا بعسكره، سأطلب من سعد أن يتقدّم ويباغتَ سليمان باشا في معسكره، لأن الناس عندها ستقول إن وزير صيدا هو الذي هاجم وزير دمشق، لأن هذا الأخير اعتدي علي طبرية التابعة لولاية صيدا، وهذا ما أرجوه وأبتغيه، لأني لا أريد أن يقال: إن الشيخ ظاهر قام علي وكيل السلطان أمير الحج وقتله فتتعطل قافلة الحج ويقول الناس إنني قاتل. أما الحالة الثانية التي سأطلب فيها من سعد أن يتدخّل، فهي تلك الحالة التي سأعمل علي ألا نَصِلَها، وهي: إذا أفلح سليمان باشا في الوصول إلي الأسوار وشرع في نقْبها، ولم يعد بالإمكان صدّه بطريقة أخري، فعندها، وعندها فقط، أدعو أخي سعد إلي نجدة طبريّة. تعلمون، أخوتي وأخواتي، وأهلي، أننا حتي الآن لم نخسر، ولم ينقصنا شيء، إن قوَّتنا اليوم هي كما كانت عليه أمس؛ فرجالنا أقوياء وأسوارنا منيعة؛ فلماذا نخرج إلي الوالي ونقتله؟! ونحن نستطيع؛ فأتحمل وأحمِّلكم معي مسؤولية قتله، ونحمِل جميعًا نقمة السلطان. كل ما أرجوه أن أحافظ علي بلدي وأحمي شعبي، وأن يرحل الوالي ويكفينا أذاه. فكونوا علي حذر، وحاربوا حرب دفاع، اقتلوا كل من يقترب من الأسوار، وأما القتل لغير ذلك فتجنبوه. لقد بلغني، أخواتي وأخوتي، أن هناك من يقول: ما يحدث لنا سببه أن ظاهر لا يريد أن يكون أقلَّ من بطل! إن أسوأ فكرة خطرت للإنسان: أن يكون بطلا في الحرب؛ وهناك ألف مكان آخر يمكن أن يكون فيها بطلا حقيقيا. ولكنّ هذه الحرب فُرضت علينا، ولم نخُضها لكي نصبح أبطالا، بل خضناها لكي نكون بشرًا، كرَّمهم سبحانه وتعالي حين قال (ولقد كرَّمْنا بني آدم) صدق الله العظيم. نحن لا نريد أكثر من أن نكون بشرًا. أما ما أحلم به، فهو أن تكونوا أبطالا كلّكم بعد هذا الحصار. فالبطولة في أن تبنوا بلادكم بأمان، وأن تزرعوا أشجاركم بأمان، وألا تخافوا علي أطفالكم، لأنهم محاطون بالأمان. سيصبح كلُّ رجل بطلا حين يتجوّل في الطرقات كما شاء دون أن يعترض طريقه أحد، أو ينال من كرامته أحد، أو يسرق قوت عياله أحد، أو يعبث بحياته أحد، أو يقيّد حريته أحد. وتكون البطولة، حين تسير امرأة بمفردها فيهابها الجميع، لأنها بطلة علي جانبيها أطياف مئات البطلات والأبطال. أريد شعبا كاملا من الأبطال، لا شعبا من الخائفين بين هذين البحرين: بحر الجليل وبحر عكا. البطولة الحقيقية في أن تكونوا آمنين إلي ذلك الحد الذي لا تحتاجون فيه لأي بطولة أخري. أخواتي، أخوتي وأبنائي، لو كان الثّمن الذي يمكن أن تحصلوا عليه هذا الذي حدثتكم عنه، لحملتُ رأسي بين يديّ وخرجت لأسلمه إلي سليمان باشا! لكن كلّ واحد منكم يعرف، كما تعرف كل مدينة وقرية حوصِرت قبل طبرية، أن الذي يطلب رأسًا لا يكتفي إلا بكل الرّؤوس، فهل بينكم من يستطيع تقديم رأس أمّه أو ابنته أو ولده أو أخيه أو أخته أو زوجته إلي سليمان باشا؟! - معاذ الله. - معاذ الله.