حمدي البطران كاتب قصصي في الستين من عمره, عمل بالشرطة حتي وصل لرتبة لواء قبل إحالته إلي التقاعد. فضحت بعض رواياته مثل يوميات ضابط في الأرياف فساد الشرطة وتغولها واعتداءها علي القانون فأحيل إلي التحقيق لكشفه أسرار المهنة, ودافع الكاتب والنقاد عنه, لكنه ظل مقلا في إنتاجه الذي لم يتجاوز أربع روايات ومجموعة قصصية, وتأتي هذه الرواية الجديدة ذكريات منسية لتوحي في الظاهر بأنه قد أخذ يجتر عوالمه المشحونة بالصراعات المهنية والفكرية. لكننا نفاجأ بأن راويها الرئيس عمار راشد لا يتوافق مع الكاتب سوي في شئ واحد, هو أنه صعيدي مسكون بهاجس الابداع الأدبي, ومعني ذلك أن تجربة الرواية في جملتها متخيلة, لا يتقاطر فيها من حرقة الحياة ولا رماد معاناتها سوي تلك الذرات التي نتنسمها في مناخ الصعيد الذي مازال يتحمس لوأد البنات لشبهة الزواج العرفي, والذي يتسغرق في الحزن حتي يفقد شهوة الجسد. غير أن الكاتب يلجأ لحيلة تقنية ناجحة لكسر حدة المنظور الذكوري في رؤيته, فيتيح لرواتين من الإناث ان تدليا بشهادتيهما عن الأحداث, احداهما فتاة صومالية مثقفة يلتقي بها الراوي في قطار الصعيد وتنبهه بعد ذلك إلي موهبته الأدبية, والأخري سيدة عراقية عاتية الأنوثة تلقاه عندما كان يعمل خادما عند أخيها المعوق في بغداد أيام عزها, ثم تهاجر إلي مصر عقب غزو العراق وتتصل به مرة ثانية فيسمي ابنته علي اسمها فارعة. والكاتب يشطر روايته إلي جزءين دون ضرورة فنية, اللهم إلا محاولة اعطاء صبغة التوثيق عليها حيث يفصل بينهما عشرون عاما. الذاكرة المصرية: يستنفد حمدي البطران من ترسبات الذاكرة المصرية القريبة مواجع الفقد الممض, ولذع الشتات المهين, ونبض المواهب البازغة, لدي الانسان المصري في العقود الماضية بتجاربها الطاحنة, فالمرأة مثلا, خاصة في الصعيد, تعتق الآلام مثل خمائر المسن, وتربي الوجع حتي تورثه لبناتها, فهذه أم الراوي بعد أن تفقد ابنها الأول في فاجعة النكسة والثاني في كارثة مديرية أسيوط عقب اغتيال السادات تنزوي في حجرتها التي تخصصها للحزن حرمت علي نفسها النوم في حجرة واحدة مع أبي, اخترعت لنفسها أشعارا حزينة وأناشيد من صنعها الخاص تنشدها عند البكاء, وكنا نسمعها فتقطع نياط قلوبنا, كانت ترتدي الملابس السوداء طبقة فوق طبقة, حتي الملابس التي تلامس جسدها كانت سوداء وأفدح من ذلك, أن أخته محاسن التي ضاقت روحها بهذا المناخ الكئيب, تطلعت إلي خطيبها شعبان, من أنه بدوره هجر زراعته وأطلق لحيته فلم يستطع أن يلبي مطالب الأسرة في المهر والتجهيز, فهربت معه إلي منزل شيخه واقترنت به عرفيا فيقول الراوي: كنت أعلم أن ما فعلته أختي إنما هو نوع من التمرد علي حزننا العميق المترسب في بيتنا, كانت روحها تتوق إلي الفرح, حاولت ان تجده عند شعبان, ولكنه تخلي عنها وكم كان من المؤسف أن يحاول الأب الاستنجاد بهذا الراوي كي يشاركه في دفن أخته وهي حية. وعندما تضيق السبل بعمار في وطنه يأخذ طريقه للهجرة البرية إلي العراق مثل ملايين المصريين, حيث ينتهي به الأمر إلي الجلوس علي رصيف في شوارع بغداد انتظارا لمن يستدعيه لأي عمل, حيث ينصحه زملاؤه بأن يقبل أي عرض للعمل, وينسي تماما أنه متعلم ومعه شهادة جامعية, فيرضي بالعمل خادما عند عبدون القعيد علي كرسيه المتحرك, ويتعلم منه فن الطبخ ويدمن القراءة, وعندما تأتي أخته فارعة مع أولادها لزيارته يشغف بها حبا, ومع أنه يقطع رحلته بعد أن يستشعر مع مئات الآلاف الأخطار التي بدأت تحدق بهم في مهجرهم التعيس, وتبدأ الطائرات في حمل مئات النعوش إلي القاهرة, فإنه يفقد ثلاثة أرباع مدخراته في بنك الرافدين ويضيع جهده أدراج الرياح, فيحاول تجميع شتاته بعد العودة, يستأنف دراسته العليا, ويلتحق ببعثة الآثار في أسيوط, ويكتب قصته تلك عن أيام الشقاء, تقرأها فارعة وهي في طريقها لمصر بعد وقوع العراق فريسة للاحتلال الأجنبي, تحاول العثور علي عابد وتجديد علاقتها معه, وعلي الرغم مما في الرواية من بعض الخلل فانها تنجح في استحضار فلذات حميمية من عذابات المصريين ولذاتهم وفرحاتهم المسروقة من الزمن خلال العقود الماضية, لكن دون أن تشف عن رؤية للمستقبل سوي هاجس الخلاص الأخير. المزيد من مقالات د. صلاح فضل