كما المرض معلق بأنابيب المحاليل، ومواعيد تناول الدواء، فالشفاء معلق علي علامات هشة وبسيطة، كرائحة فاكهة طازجة، أو صوت جاري وهو ينادي زوجته " ما ..ما" ، أو بمركب ورقي سابح في ماء المطر المستمر وراء الشباك أثناء مكوثي لمدة أسبوعين بمستشفي القديس انطونيوس بألمانيا، لم أكن أتحدث إلا اللغة الإنجليزية. عندما كان يتقدم أحد الأطباء للكشف علي كان زملائي في الغرفة من الألمان يبادرون الطبيب عندما يبدأ حديثه معي بالألمانية: " إنجلش". يعنون أني أتحدث بالإنجليزية. هذا الخيط البسيط من الحكاية لم أعرف كيف امتد وتعقد. الجميع كان يعرف بأني قادم من مصر، وأن إقامتي في المانيا مؤقتة وبعد انتهائها سأعود إلي مصر ثانية. هناك شيء حدث في المنتصف، أن حديثي بالإنجليزية تم ربطه بأني أعيش في أنجلترا وأحمل جواز سفر إنجليزيا. عرفت مصدر هذه المعلومة، وكان زميلي في السرير المجاور. كان يبلغ من العمر 87 عاما، وكان أحد الشهود الأطفال علي الحرب العالمية الثانية. ربما كان وجهي القمحي قريبا من لون اللغة الإنجليزية أو المواطنين الإنجليز في مخيلة جاري. وخاصة في مدينة يندر فيها وجود الأجانب. أصبحت بشكل ما "المريض الإنجليزي"،وكل زميل جديد يأتي للغرفة يؤكد هذه المعلومة وبدون حتي سؤالي عنها وعن مدي صحتها. كان جاري العجوز يتحدث لزوجته في التليفون كل صباح، يناديها بصوت أجش: " ما.. ما". كما نقول نحن " ماما". كان يقسم أمومتها له علي مقطعين صوتيين. كان يشك في وجود ورم سرطاني في جبهته. أخذو له عدة عينات، وفي النهاية اكتشفوا بأنه ورم حميد. عندما كانت تأتي زوجته لزيارته، كانت في مثل سنه تقريبا وتتكيء علي عصا؛ يصادف أوقات تقديم الطعام. كان تتحدث معه وهو يأكل، بينما هو لايرفع عينه عن الصينية حتي يأتي علي آخرها. كان يحب كرة القدم، وصادفت إقامة مباريات كأس العالم للكرة النسائية. عندها كان يؤخر ميعاد نومه حتي تنتهي جميع المباريات. أحيانا عند خروجي للتدخين في حديقة المستشفي أشير له بشكل السيجارة علي فمي، يبتسم ويقول لي مشجعا " جوووود". ربما الإنجليز أيضا في مخيلته مشهورون بالتدخين. المريض الذي كان قبله علي نفس السرير، كان أحد عمال رصف الطرق. سحق البلدوز طرف إصبعه، فاستأصلوا له عقلة، وكان في انتظار النتيجة لاستئصال العقلة الثانية حتي لايتمدد الصديد. كان ينام طوال الوقت، يشخر ويحلم بصوت عال، ولكن له حاسة ذئب عندما يأتوا بوجبة الطعام، عندها يستعيد كامل نشاطه ويدخل للأكل بشهية مستيقظة تماما. هذا النوم الدائم كان يعبر عن تسديد دين قديم للتعب. كنا نضحك عليه بسبب نومه المتواصل، ولم يبد أي غضب تجاهنا. كان يتحدث معي بالألمانية، وهو علي ثقة بأني أفهم مايقول. أحيانا كانت يصدق حدسه. كنت أتحرك في المستشفي تحت قناع وحماية هذا "المريض الإنجليزي"، للفيلم والرواية اللذين يحملان نفس الأسم. كان البطل يعاني أيضا من حرق في أجزاء متعددة من جسده. كانت تجلس إليه الممرضة ليحكي لها جزءا من تاريخه القديم. كنت أنا أيضا أعيش تحت هذا القناع المحروق، لاأتذكر شيئا سوي مامضي. المستشفي مكان لتجميد الزمن وضبطه علي بعد واحد من أبعاده. صنعت زوجتي ثلاث مراكب ورقية اثناء حضورها لزيارتي. وضعتها علي إفريز الشباك المجاور لسريري. كانت المراكب بالنسبة لي رمز للشفاء. وأنا صغير أثناء مرض طويل ألم بي، كنت أصنع مئات المراكب الورقية وأضعها فوق الدولاب. كما المرض معلق بأنابيب المحاليل، ومواعيد تناول الدواء، فالشفاء معلق علي علامات هشة وبسيطة، كرائحة فاكهة طازجة، أو صوت جاري وهو ينادي زوجته " ما ..ما" ، أو بمركب ورقي سابح في ماء المطر المستمر وراء الشباك. المراكب الثلاث كانت تبحر في المستقبل. حملتها معي داخل حقيبة ملابسي أثناء خروجي من المستشفي، وأيضا عند عودتي إلي مصر.