في روايتها "بروفا" الصادرة حديثا تقدم الكاتبة السورية روزا ياسين الحكاية من وجهة نظر رجل الأمن، وهي وجهة نظر سردية لم نعتدها بشكل عام في الأدب العربي. جري العرف أن تسرد الشخصية رؤيتها حيال رجل الأمن، وحيال ظلمه وجبروته وبطشه، حيال لا مبدأيته التي تسمح له بفعل أي شيء لينال الفريسة. لكن أن يكون رجل الأمن هو السارد والكاتب فهو ما يعد مغامرة روائية حقيقية. تنسج الكاتبة خيوط السرد من واقعة متكررة ومعتادة في بلادنا، رجل يتدرب في فرع للمخابرات وتنحصر مهمته في التنصت علي مكالمات الأشخاص الموضوعين تحت المراقبة وكتابة تقارير عنهم. إلا أن المحظور وقع، ووقع المستمع في غواية الأصوات، إذ أدرك أن "الهاتف أداة مليئة بالاحتمالات السردية" (12)، وبالتالي فإنه علي مدار سنة وشهرين وأربعة أيام "استطاعت شخصياتي أن ترمي إلي بأول خيوطها، وما كان علي إلا سحب ذلك الخيط علي مساحة الخيال" (15). أصبح المستمع جزءا من الحكايات التي يستمع لها وقرر أن يكتبها، يجمع القصص جنبا إلي جنب، وعندما كانت "المناطق المفرغة تعترض سبيل حكايتي كنت أملؤها بتخييلي. هكذا بت أظن أن اللوحة أضحت مكتملة أمامي" (15). يشحذ الصوت ملكة الخيال لأقصي درجة، وما كان المفروض أن يكون تنصتا أمنيا وملاحقة للمواطنين يتحول إلي رحلة اكتشاف لحيوات أخري. بعد أن يقدم رجل الأمن نفسه وهو يقف علي الحدود بين عالمين، عالم انساني رحب وعالم أمني مهمته هي انتهاك هذا الانساني، يبدأ السرد التخييلي الذي اعتمد علي الاستماع للمكالمات. في البداية تبدو القصص وكأنها منفصلة، لكن بشكل ما وقرب النهاية تلتئم كل مناطق الانفصال ليدرك القاريء أن الشخصيات كلها تعرف بعض بشكل أو بآخر. تغوص هذه القصص في أعماق النفس لتلتقط كافة المناطق المعتمة لدي الرجال والنساء، التفاصيل التي لا يسر بها الانسان إلا لذاته، كل مناطق الضعف والخطأ، وهي كلها مناطق تكشف مدي تعقيد النفس الانسانية في مقابل التسطيح الذي تمارسه العقلية الأمنية. تنبع معظم القصص من وضع المرأة المجتمعي الذي يفرض عليها ممارسة ما لا تقبله سواء كان عهرا أم زواجا أم فراقا أو قتلا أو استلابا عاطفيا وفكريا. وهي في هذا لا تشتبك مع الرجل بوصفه فردا بل بوصفه حاملا لموروث ثقافي كامل لا يمكنه الانفصال عنه إلا إذا انعزل تماما مثل مهيار السالمي. ولأن الراوي المتنصت قد قرر منذ البداية أنه يكتب تدوينات قصيرة بوصفها بروفا للرواية التي سيعاد كتابتها، فإنه قد قام بوضع ملحوظات لنفسه في الهوامش وما ينبغي أن يعيد النظر فيه أو يسد نقصه. بقراءة المتن مع الهوامش تكتمل كافة العناصر السردية لتخرج "بروفا" كعمل مكتمل تلعب فيه الهوامش دور محامي الشيطان النقدي. وأيضا بوصفها تدوينات قصيرة فقد لجأ المتنصت إلي تفريغ مكالمات مسجلة كما هي باعتبارها مادة خام سيتم إدخالها في عجينة السرد فيما بعد. بهذا الشكل يذوب المركز الكلاسيكي للسرد وتتحول الرواية إلي دوائر سردية تفضي الواحدة إلي الأخري ليظهر الخيط الذي يجمع هذه التدوينات. إنها الكتابة الدائرية التي أفاض مهيار السالمي في الحديث عنها في إحدي المكالمات المسجلة بينه وبين صديقه الأيهم (نقيضه تماما)، فقال: "يمكننا ألا نغفل أن الجسد الأنثوي، بما هو صنو للخطوط المنحنية والزوايا الدائرية، هو التعبير الأكمل عن الكتابة المدورة أي الحقيقية في مواجهة الكتابة الحادة والمنكسرة أي المزيفة التي كانت سائدة علي مدار سنوات طويلة من عمر القمع مختاف التمظهرات" (174). إنها الكتابة المعتمدة علي فلسفة الجسد الأنثوي (التي ظهرت في فرنسا عام 68 وليس تلك التي تم ترويجها خطأ في مصر في التسعينيات من القرن الماضي). وكما حدث للسرد من انفلات للمركز حدث لرجل الأمن الذي وقع في غواية الصوت بكل ثرائه وتعدديته وقدرته علي تخصيب الخيال، فقد فقد صوت السلطة في اشكالها المختلفة هيمنته علي الروح والعقل: "لم يعد الصوت منوطا بالخطب الدينية صباح أيام الجمعة، ولا بالخطب السياسية التي كنا نتلقفها، رفاقي وأنا، في غرفة التليفزيون في الفرع. لم أعد أشعر بأنه محصور بصوت مركزي واحد يهيمن علي، لقد استحال متبددا، متعددا، لا أستطيع جمعه في بؤرة واحدة" (113). انفتحت الرؤية ولم تعد تمر من الثقب الضيق، انفتحت علي عوالم جديدة بفعل الصوت، وكما انهدم مركز السرد انهار مركز السلطة. وبالرغم من أن المستمع أكد في النهاية أنه لم يهتم مطلقا بسرد المواقف السياسية للشخصيات التي كتب عنها، المواقف التي سيتم تسجيلها في التقارير الأمنية، لأن ما كتبه هو كل ما يهمه في الحياة. في الوقت ذاته قد يكون القاريء متشوقا أو مفتقدا لبعض الخلفية السياسية لهذه الشخصيات ومصائرها في قبضة الأمن. لكن هذا التوقع في حد ذاته هو انعكاس للكتابة المنكسرة الحادة التي قوضتها الرواية، وإذا تذكرنا أن السرد جاء من وجهة نظر رجل الأمن منذ البداية فإن التغيير المنشود قد حدث. "التلصص علي الحيوات الأخري غير حياتي! فالحكايات تغير حياتنا! تشكل لغتها كصلصال رخو. ... أمر مضحك حقا أن أكتب أنا: الآخر، العدو، الخارج عن الدائرة، أو ما يمكن تسميته بذلك...غريب أن أكتب ذاكرتهم بلغتي. كأن أذني تحولت من أداة للتجسس إلي طريق للمعرفة" (232). يعتبر هذا التغيير في الرؤية الأمنية- وإن كانت علي مستوي فردي- بديلا كاملا للخلفية السياسية التقليدية. الحكايات لابد وأن تغير حياة المستمع.