عندما ولدت "سهرة" هذا الولد زغردت. إذ أنه ما إن نزل منها، والنسوة اللاتي يولدنها قلن لها إنه ذكر حتي ابتهجت، ولم تزغرد، لكن ما إن قطعوا حبله السري، وأعطوه لها، ونظرت إليه، لم تملك نفسها أن زغردت، لأن الولد كان جميلا، لأن الولد كان أجمل ذكر وُلد في النجع، منذ وُلد النجع نفسه وحتي الآن، والنسوة أنفسهن أكَّدن هذا، فقالت واحدة: "ما رأت عيناي مثله"، و قالت واحدة: "جميل مثل الملائكة"، وقالت واحدة: "يغار منه القمر"، أما التي قطعت حبله السري بالموسي المطهَّرة علي لهب النار فقد جرحت الموسي سبابتها وهي تنظر في وجهه، وقالت "نوَّارة" أخته وقد جلست بجوار أمها الفرحانة تسرح بعينيها في التقاطيع البريئة الغاية في الجمال: "أخي أحلي ولد"، وقالت "سهرة" وهي تلقمه ثديها: "و من شر حاسد إذا حسد"، ثم زغردت ثانية، وضمَّت الولد بوركيها إلي صدرها ورفعت ذراعيها إلي السماء و قالت: "الحمد لك يا حنَّان يا منَّان يا وهَّاب، يا من إذا أضمر الوهبة ما تعطله أسباب" وزغردت الزغرودة الثالثة، ثم رفعت ذراعيها إلي السماء و قالت: "يارب اجعل يومه قبل يومي"، كانت تريد أن تقول: "يارب اجعل يومي قبل يومه "، أخطأت من شدة الفرح، و"نوَّارة" انتبهت لخطأ امها ففزعت وقالت: "يا أمي تريدينه يموت قبلك؟!"، فحضنت "سهرة" القمر بذراعيها ملتاعة وقالت: "يقطعني إذا اردت هذا"، قالت "نوَّارة" لائمة : "تصبرين عشر سنين ثم لما يعطيك ما اعطاك تريدينه يموت قبلك!"، فبكت "سهرة" وضربت بشمالها صدرها وقالت: "أنا قلت اجعل يومي قبل يومه"، قالت "نوَّارة ": "قلتِ اجعل يومه قبل يومي"، فصرخت "سهرة" كما تصرخ علي ميت، وضمت وليدها إلي صدرها بوركيها، ورفعت ذراعيها وهتفت: "يارب اجعل دفنتي قبل دفنته"، فضحكت "نوَّارة"، وابتسمت "سهرة"، والنسوة خرجن الواحدة تلو الأخري. وكانت الدنيا ليل، والحقول عتمة، لكن القمر الذي طلع للتو كان منيرا، وفي الجو نسمات رائقة . في البدء كانت الكلمة، وكانت الكلمة عند الرجل، فأخذتها منه المرأة، فصارت الكلمة عند المرأة، قال "محبوب" أيو الولد: "أسميه جلال"، و قالت "سهرة": "أسميه قمر السماء"، فقال "محبوب" مستنكرًا: "اسم غريب وعجيب وطويل! كيف اناديه يا امرأة ؟!"، فقالت "سهرة": "ما اسمك يا رجل؟"، قال: "تعرفين إسمي يا سهرة"، فقالت "سهرة": "يا نوَّارة أي الأسماء أحلي، جلال محبوب، أم قمر السماء محبوب؟". وكانت في الشرق شمس طالعة ساطعة، وكانت في الشرق نخيل سامقة، وكانت في الشرق حقول وزروع مرحة، وفي الغرب مقابر في صحراء، وترعة مُرَّة تمص النزيز المالح من طين الغيطان، وسباتة راعي الغنم الذي ترك الأحياء وسكن عند الأموات، وقال "محبوب" للراعي: "أريد كبشين أملحين أعمل بهما عقيقة للولد علي سنة الله ورسوله"، فقال الراعي بصوت فيه غرغرة ثغاء الخراف: "الصلاة والسلام علي كامل الأنوار، وماذا سميت ولدك ؟"، وضع "محبوب" يده علي ظهر كبش يَعِس لحم ظهره وقال: "قمر السماء". الكلمة كانت في البدء، والكلمة كانت عند الرجل، كان الرجل كلمة، هذا كان في البدء، لما بدا رحم "سهرة "و كأنه نضب، لكن ما إن طرح الرحم الثمرة، حتي أخذت المرأة الكلمة، فصارت السطوة لها، وسمَّت ولدهما "قمر السماء محبوب" بدلا من "جلال محبوب".
المزامير تعصف بقلوب الرجال، والطبول تقصف مثل الرعود، والحناجر هادرة، ليلة السبوع قمرها مكتمل، ونجومها في آفاق السماء وضَّاءة، والطبالي مرصوصة، عليها الصحون مصفوفة، ومملوءة بما لذ و طاب، و الناس يقعدون ويأكلون ويقومون، والناس يجلسون علي الدكك يدخنون السجائر والجوزة، و"محبوب" فرحان، حتي أنه كان يلم العظم بنفسه من علي الطبالي ويرميه للكلاب التي وقفت خلف اللمة تتشمم رائحة الطبيخ واللحم، و"سهرة" جالسة في سريرها، في حضنها وليدها، تخبئ وجهه بغلالة من قماش شفاف، حتي لا يضايقه الذباب، ولا تحسده الداخلات والخارجات، المهنئات بالوجوه وبالقلوب حاقدات، وكانت "نوَّارة" تعطي أطفالهن الفول السوداني والحلوي الملونة بالألوان الفاقعة، وكانت "نوَّارة" حزينة، فلما انفض السامر، وهدأت الأحوال، قالت "سهرة": "شغِّلي يا نوَّارة إذاعة القرآن الكريم، تحضرنا الملائكة"، وقالت "نوَّارة": "عملتم لي ليلة مثل هذه في يوم سبوعي؟"، سكتت "سهرة"، لكن القارئ في الراديو رتَّل بالصوت الخلاَّب{ولَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَي}، فضربت "نوَّارة" "الراديو" بفردة من شبشبها وزعقت: "الأنثي أحلي" .
كان رحم "سهرة" مثل عقد انفرط، وولدت بعد "قمر السماء" ستة ذكور، ما رأت في وجه أحدهم جمالا، فأحدهم أنفه كبير وأفطس، لكن "محبوب" فرح به وقال: "ذكر"، وذهب إلي الراعي الذي ترك الأحياء وسكن عند الأموات واشتري منه كبشين أملحين وعمل عقيقة مفرحة، وفرح هو وأطعم الكلاب. وأحدهم عينيه ضيقتين، وفرح به "محبوب" وقال: "ذكر"، وذهب إلي راعي الغنم الذي ترك الأحياء وسكن عند الأموات واشتري منه كبشين املحين وعمل عقيقة صاخبة، وفرح أيضا وأطعم الكلاب. وأحدهم بدا مثل المساخيط، لكن "محبوب" قال: "ذكر"، وذهب إلي الراعي الذي ترك الأحياء وسكن عند الأموات واشتري منه كبشين أملحين وعمل عقيقة بزمَّار واحد وطبَّال واحد، وأطعم الكلاب. وأحدهم نزل برجلين طريتين خاليتين من العظام، فتحسسهما "محبوب" وقال: "ذكر"، وذهب إلي الراعي الذي ترك الأحياء وعاش مع الأموات واشتري منه نعجتين وعمل عقيقة بزمار واحد ومن غير طبل، وكان مهموما فلم يطعم الكلاب. وأحدهم نزل بعينين مطموستين خاليتين من النور، فقال "محبوب": "ذكر"، وذهب إلي راعي الغنم الذي ترك الأحياء وعاش عند الأموات واشتري منه جديين وعمل عقيقة من غير طبل ولا زمر، وإنما قرئ فيها قرآن، ولما رأي التذمر في عيون الناس قال لهم: "الزمَّارة حرام يا ولاد الكلب"، واغتاظ وطار وراء الكلاب. ولما نزل الأخير برأس مبططة خالية تماما من العقل رفعت "سهرة" ذراعيها ووجهها وقلبها إلي السماء وقالت كلمتين ليس لهما ثالث: "يارب كفي"، وكان الله يسمع لدعاء "سهرة" ويلبيه، فكف عنها، وكف "محبوب" عن الذهاب إلي الراعي الذي ترك الأحياء وسكن عند الأموات، وكان "قمر السماء" قد بلغ سبع سنين، و"نوَّارة" عشرين.
"نوَّارة أحبت "قمر السماء"، ولم يكن هذا الحب هو حب الأخت لأخيها، وإنما كان حب الأنثي للذكر، كانت في الخامسة عشرة من عمرها لمَّا أحست بفورتها، وكان "قمر السماء" عمره سنتين، وكانت تأخذه من "سهرة" التي انشغلت بوليدها الثاني وتذهب به إلي سريرها، وقبل أن تطفئ النور تتأمل فتنة جماله، وهو ينظر إليها ويضحك، تتحسس شعره السايح وهو ينظر إليها ويضحك، وتقبل خدَّيه وهو يضحك، وتمص شفتيه فيندهش ويضحك، ثم تطفئ النور، وفي الظلمة تبقي تتحسس بيدها جسده الناعم، ولا يهدأ بالها، ولا تخبو نارها، حتي تدفع يدها إلي الذي كمن بين فخذيه، فيلاعب يدها وتلاعبه، فتسمع ضحكة "قمر السماء"، وتسمع برجمة حمام، ونباح كلاب، وعواء ذئاب، ووشيش الريح وهي تخترق سعف النخيل. كان هذا منذ زمن وصار يجري إلي هذا الزمن، فقمر السماء بلغ سبع سنين، و"نوارة" عشرين .
"ضاحي" ولد عم "نوَّارة"، ويحب "نوَّارة" منذ أن رآها صارت شجرة سامقة طارحة بالفواكه، وقال لأمه أنه يريدها، وقالت لأمه أنها لا تريده، فاضمحل جسد "ضاحي"، وبقي في الحياة جسدا مركونا، به قلب يتفحم بحب "نوَّارة"، و"نوَّارة" تحب أخيها، لا تحبه حب الأخت للأخ، قلنا تحبه حب الأنثي للذكر، وفي البدء كان الذكر، والذكر في البدء كان جلدة طرية لا تتجاوب مع اللعب، لكنه مع طول المراودة بدأ يشتد، وبعد خمس سنين صار يضرب في الهواء حاملا ثمرة فراولة حمراء صغيرة، وكانت "نوَّارة" تحلِّي لياليها، تضع ثمرة الفراولة داخل فمها وتمصها، وثمرة الفراولة لا تعطيها عصيرا .
راعي الغنم كان قد ترك الأحياء منذعشرين عاما، وراح وعاش مع الأموات، في هدوء وسكينة مضت أيامه وسنينه، حتي ظهر في إحدي الليالي بين شواهد القبور شبح، وكان الشبح يصرخ: "نوَّارة"، ثم صار الشبح كل ليلة يصرخ في القبور :"نوَّارة . نوَّارة . نوَّارة"، ويبكي .
"سهرة" عاشت تري أولادها فتحزن، الذي شكل المساخيط ، والذي ساقاه عجينتان لا تحملانه، والذي لا يري، والذي رأسه مسطحة فصار عبيطا، ثم "نوَّارة" التي لا تريد ما تريده كل البنات، رجل وبيت وعيال، وقطارها يمضي، ومحطة العنوسة اقتربت جدا، كل ليلة في السنة الأخيرة تضرب "سهرة" صدرها وتئن: " البنت صار عمرها خمسة وثلاثين"، وأتي الحزن ل"سهرة" بالسكر، و السكر أتي ل"سهرة" بالضغط، فصارت جلدا علي عظام، وصار "محبوب" إذا دخل البيت ناحت روحه: " الأقصر