" في مكان غير مكاننا وفي زمان غير زماننا لم تحدث القصة " هذا هو التصدير الذي بدأ به جمال مقار روايته الأخيرة : " رقصة الكتكوت الأخيرة " الصادرة أخيرا عن إصدارات ورشة الزيتون ، والتي وصفها الكاتب بأنها مسخرة روائية . بداية يؤكد الكاتب أن هذه القصة لم تحدث ، ليدفع بنا مباشرة إلي فضاء التخييل الروائي وإن كان ساخرا حتي يُسقط عبر السرد ما يريد أن يقول علي الواقع . يحاول الكاتب منذ البداية أن يوهمنا بأنه يستخدم وقائع تاريخية فيستدل باسم مؤرخ متخيل ( النشرتي ) ، ولا تُخفي علينا الإشارة إلي المؤرخ الجبرتي . هي محاكاة ساخرة للواقع ، يصنع زمنا متخيلا ليصور قبح الواقع وفوضاه ومفاسده . حاول الكاتب الفرار من المباشرة لو أنه صور قبح الواقع كما هو ، فصنع أحداثا وأوجد شخوصا ، وحملها بأحداث لا تفرق كثيرا عن الواقع المصري في الثلاثين عاما الماضية : " يذكر النشرتي المؤرخ الذي جايل حندوق الأول وامتد به العمر حتي أدرك طرفا من أيام خلفه حندوق الثاني ، وهو عمدة الباحثين في الحقبة الحندوقية " . حاول الكاتب صنع نوع من الكوميديا السوداء التي تُعتبر تجسيدا لمرارة الشعوب، وتكون النكتة السياسية أبسط أنواع هذه الكوميديا، والشعب المصري من أكثر الشعوب التي جعلت مشاكلها وما تعانيه مادة للسخرية،فالمصري يضحك مما يقاسيه بدلا من أن يبكي. وتلك الكوميديا السوداء والسخرية قادرة علي أن تتعاطي مع الموضوعات الشائكة التي يصعب ارتيادها بشكل مباشر ، وتعتبر السياسة هي المجال الأكثر مناسبة لذلك النوع من الأدب ، بحيث يتم التعاطي مع تلك المواضيع بشكل فكاهي أو ساخر مع الاحتفاظ بجانب الجدية في الموضوع. أبطال مسخرته الروائية هم حندوق الأول وبندوق الثاني وجنزار الجبار والبهلوان والطرطور وغير ذلك . بدأ الرواية بديباجة تاريخية اعتبرها الكاتب تمهيدا زمنيا للسرد ، وفي الديباجة نكتشف أن حندوق الأول استولي علي الحكم بعد فترة صراع مع بندوق الثاني ، كما رسمها النشرتي في كتابه (تنبيه القافلة في تاريخ النجوم الآفلة ) . حاول النشرتي ومن وراءه الكاتب أن يرسم صورة مؤلمة لما حل بالبلاد التي نفهم أنها مصر رغم أن الكاتب نفي في بداية التصدير أنها في غير زمان وغير مكان : " وفي ظل الفوضي غير الخلاقة غرقت البلاد في بحور من الفساد . استطاع خلالها القضاء علي كل الأعداء الظاهرين والخافيين بل والمفترضين ، وبعد عقد من التجريب أعلن الوزير الأول إن عهد السياسة القديمة قد ولي ومضي ، وعليه سنبدأ سياسية جديدة هي الفوضي الخلاقة " . قسم الكاتب روايته إلي سبعة عشر قسما أو فصلا وفي لغة ساخرة حاول من خلالها أن يرصد التغيرات التي طرأت علي مملكة " حندوق الأول " بدأها بسنوات الحروب والفوضي ، ومر بالمجتمع علي الفوضي الخلاقة ، راصدا التحولات القسرية للمجتمع الحندوقي . التهكم والسخرية بوصفه مفارقة بنائية مفتوحة يمثل أساس السرد، علي مستوي المحكي طوال فصول المسخرة الروائية؛ فالسارد عادةً يبني مواقف عرضية مع الواقع ليسوغ من خلالها متخيله السردي، ولكي يبدو هذا الأخير مقنعاً بموقفه من الواقع يبرز الدور الفاعل للعلاقات التهكمية بين السارد والواقع من جهة وبينه وبين شخوص السرد من جهة أخري. بعد سنوات من التجريب مر بها المجتمع حتي يصل إلي بدء تطبيق السياسة الإنسانية الجديدة مما يدفع بالأمل إلي قلوب الناس في نيل الحقوق وتطبيق السياسات الصحيحة . يسير الأمر في حندوقي بتفاصيل لا تختلف كثيرا عن تفاصيل الحياة في مصر ، فربما نكون قادرين علي أن نشير للجنزار صاحب الشرطة وكأنه وزير داخلية مصر ، ونشير إلي تفاصيل الفساد والصراع علي السلطة كأن الأحداث تدور في مصر . ورقصة الكتكوت الأخيرة هي رقصة المتآمرين علي السلطة والذين تمّ حبسهم من قبل حندوق الأول فوق الصينية المحماة كعلاج لحالات الجنون التي اُتهموا بها. هاهو جنزار صاحب الشرطة والذي طالما عذب الناس لصالح الملك حندوق الأول يرقص رقصته فوق الصفيح الساخن ، رقصة يختلط فيها الألم بالدموع بالضحك ، فهو نوع من العلاج قررته إدارة المستشفي حينما قرر الملك عزل جنزار واتهامه بالجنون .. تخفت كل أصوات المعارضة والموالاة ولا نسمع سوي ضحك ممزوج بعويل يصدر عن أهل حندوقي بعد القضاء علي كل صوت في رحلة القضاء علي الفوضي الخلاقة وغير الخلاقة . ثم يقتل حندوق الأول ويأتي للحكم حندوق الثاني و : " هكذا أصبح حندوق الثاني سعيدا ، ولم يعد الملل يراوده أبدا ، فكل حندوقي باتت تتألم، الحاشية والخدم والحشم والرعية ، كانوا يتألمون ويتعجبون ويرفلون في أحرف العلة أناة الليل وأطراف النهار