علي مدار الخمسين عاما الأخيرة اقترن العرب والمسلمون في الإعلام الغربي بالإرهاب وبالحرب وبالنفط. وفي أقل من بضعة أشهر ونتيجة لأحداث الربيع العربي المبهرة تغيرت تلك الصورة النمطية للعرب في المخيلة الغربية. تشهد لندن في الفترة من 4 إلي 24 يوليو الحالي أول احتفال بالثقافة العربية المعاصرة، فعلي مدار تلك الأسابيع الثلاثة وتحت رعاية عمدة المدينة، بوريس جونسون، يشمل المهرجان، الذي يحمل اسم "شباك: نافذة علي الثقافة العربية المعاصرة"، حوالي مائة فنان يعرضون أعمالهم من خلال ما يفوق علي سبعين فعالية تقام في أكثر من ثلاثين مؤسسة ثقافية رائدة في شتي أنحاء المدينة. وتتنوع أعمال هؤلاء الفنانين من الفنون البصرية إلي الأفلام والعروض المسرحية والموسيقية والرقص والأدب والفن المعماري والمحاضرات وجلسات النقاش. وتعد هذه أول مرة تشهد فيها العاصمة البريطانية مهرجانا يحتفل بالعالم العربي علي هذا النطاق. فعلي الرغم من وجود أكثر من ثلاثمائة ألف عربي يقيمون في لندن بشكل دائم، وعلي الرغم من أن المدينة تستقبل مليون ونصف المليون سائح عربي كل عام يفدون إليها بغرض التسوق أو الدراسة، إلا أن التواجد العربي ظل محصورا جغرافيا في منطقتي إدجوير روود وبايزواتر، كما لم يظهر لهذا الحضور العربي الكثيف أثر في مجال الثقافة، اللهم إلا في بعض المطاعم العربية التي تنشر في أحياء مختلفة من المدينة. وقد كان لي شرف المشاركة في مهرجان "شباك" من خلال دعوة وجهها لي المتحف البريطاني لإلقاء كلمة عن الثورة المصرية والربيع العربي. وقبل إلقاء كلمتي تحدثت فينيشيا بورتر، نائب مدير قطاع فن الشرق الأوسط في المتحف البريطاني، عن جهود المتحف في اقتناء أعمال فنية معاصرة من شتي أنحاء العالم العربي لعرضها في المتحف، وقد أسعدني كثيرا أن أري متحفا مثل المتحف البريطاني ظل اهتمامه بمنطقتنا محصورا في عصور مضي عليها آلاف السنين يتنبه أخيرا لوجود ثقافة عربية معاصرة جديرة بالاهتمام. وتبين لي من خلال الحضور الكثيف ومن أسئلة القاعة عقب الانتهاء من المحاضرة مدي شغف الجمهور البريطاني بالتعرف علي المتغيرات المذهلة التي تمر بها منطقتنا هذه الأيام، كما تبين لي أن أحداث الربيع العربي قد أحدثت بالفعل تغيرا عميقا في رؤية الغرب للعرب. فطوال سنوات، إن لم يكن عقود أو حتي قرون عديدة، ظل الغرب أسير مخاوف عميقة من العرب والمسلمين، وعلي مدار الخمسين عاما الأخيرة اقترن العرب والمسلمون في الإعلام الغربي بالإرهاب وبالحرب وبالنفط. وفي أقل من بضعة أشهر ونتيجة لأحداث الربيع العربي المبهرة تغيرت تلك الصورة النمطية للعرب في المخيلة الغربية، فالملايين في شتي أنحاء العالم شاهدوا العرب يهبون في ثورات تدعوا للكرامة والحرية والعدالة الاجتماعية، كما شاهدوا الأنظمة القمعية العديدة -- التي دعمتها حكوماتهم الغربية من خلال أموالهم وضرائبهمشاهدوا هذه الأنظمة وهي تقمع شعوبها بوحشية بالغة في محاولة مستميتة للاحتفاظ بالسلطة. وبعد أن كان الغرب مذعورا من ال"شارع العربي"، ذلك ال"شارع" التي تحركه مشاعر الجوع والكراهية والعنف، إذ به يتحول أمام عيون الغرب إلي "ميدان التحرير"، ذلك المكان الرحب الذي سيطرت عليه مشاعر سامية مثل التوق للحرية وحب العدالة والانتصار للكرامة الإنسانية. إن إقامة لندن لمهرجان يحتفل بالثقافة العربية المعاصرة لهو حدث ثقافي وسياسي هام يجب أن نرحب ونسعد به، إذ أن مهرجانا مثل ذلك من شأنه أن يذكر الغرب بأن ثراء العرب ليس عائدا لنفطهم بقدر ما هو نابع من ثراء ثقافتهم وتنوعها. علي أننا يجب أن نتذكر أيضا أن هذا المهرجان لم يكن ليوجد إلا نتيجة لثورات العرب في ربيعهم الدافئ، تلك الثورات التي أجبرت الغرب علي أن ينظر لنا باحترام وتقدير.