مازلت أتذكر حتي الآن خطواتي الأولي إلي مقر مشيخة الأزهر، ولا أُخفيكم سرًا أنني لم أكن أعرف هذا المقر الجديد ولم أكن أهتم أصلاً بمعرفته، لكن دارت في ذهني وأنا في الطريق إليه أفكارٌ مُلِّحة جعلتني أستدعي كل تاريخ مصر منذ ثورة 1919 وحتي ثورة 25 يناير؛ ووجدتني فجأة أعود بالتاريخ إلي ثورتيّ القاهرة الأولي والثانية أيام الحملة الفرنسية، ثم لا أدري لماذا قفزت أمامي صورة عمر مكرم وعلماء الأزهر وهم يبايعون محمد عليّ علي ولاية مصر بأمر الشعب. وفجأة اختطفني من هذه الخواطر هذا الكابوس الذي نعيشه بعد اندلاع ثورة 25 يناير، ونقصد به علاقة الدين بالدولة، إذ أُحبطَّت فرحتي بعد نجاح الثورة مع هذا الاحتفاء المُبالغ فيه بخروج "عبود الزمر" علي شاشات الإعلام المصري وكأنه سعد زغلول جديد يعود من المنفي بعد الثورة. كيف يكون نتاج ثورة 25 يناير المجيدة الاحتفال بقاتل رئيس الجمهورية "أنور السادات"؟! كنت في شبابي أُعارض السادات، وبصفة خاصة بعد توقيعه لمعاهدة كامب ديفيد، لكني لا أقبل علي الاطلاق لغة الرصاص والاحتفاء بالقتلة، ولو عرف التاريخ ذلك النوع من الاحتفال لصبغنا مستقبلنا القادم باللون الأحمر القاني. وتداعت أمامي أيضًا اللقطات المثيرة لصعود التيار السلفي بعد ثورة 25 يناير؛ هل قامت الثورة ليصعد علي أكتافها التيار السلفي الذي كان يدعو في صلاة الجمعة لمبارك ولعهده السعيد؟! هل قامت الثورة ليتم قطع أذن مواطن مصري قبطي في أقصي صعيد مصر؟! وأتذكر حديثي مع طلابي في الجامعة قبيل عيد شم النسيم الماضي عندما أعتذرت لهم عن المحاضرة المقبلة نظرًا للاحتفال بهذا العيد، وداعبتهم قائلاً: "طبعًا هتحتفلوا بشم النسيم وتنسوا تذاكروا التاريخ". وكانت صدمتي عندما رفعت حد الطالبات يدها قائلة "لا، لن أحتفل بشم النسيم". وكعادتي في استخدام الأسلوب الساخر قلت لها: "ليه؟ عندك حساسية من الفسيخ؟ كُلي رنجة". لكن المفاجأة الحقة كانت في قولها "لا، لن أحتفل بشم النسيم لأنه عيد خاص باليهود"!! وكم كانت صدمتي في هذه الإجابة السريعة والغريبة، ورددت عليها بسؤالٍ أخر: "من أين أتيتي بذلك؟" فقالت ليّ: شيخ الجامع قال لنا لا تحتفلوا بعيد شم النسيم لإنه عيد يهودي. ودارت مناقشة طويلة، ساخرة حينًا وحادة أحيانًا أخري، إلي أن جاءت تلميذتي بعد أسبوعين لتعتذر قائلة أنها قرأت بالفعل في كتب التاريخ وأدركت أنه ليست هناك علاقة بين شم النسيم "العيد القومي لكل المصريين" وبين اليهود. وتذكرت أيضًا حوار تلفزيوني حول الدولة الدينية والدولة المدنية جمعني بأحد دعاة التيار السلفي، وكانت صدمتي شديدة عندما سأل المذيع هذا الشيخ عن الدولة المدنية والنموذج المعاصر لها الآن، فكان رده: أقرب نموذج للدولة المدنية هي دولة القذافي، لإن لو عنده دين لرحم شعبه!! وبالطبع كان ردي علي هذا الهراء من خلال التاريخ والفقه. تذكرت كذلك الفتن الطائفية التي ازداد لهيبها بعد ثورة 25 يناير، ووجوه بعض من يدعون المشيخة والتأسلم علي صفحات اليوتيوب تتحدث عن النصاري وحرق الكنائس؛ وتتداعي لذهني أيضًا مظاهرات الأقباط عند ماسبيرو ورفعهم للصليب دلالة علي الاضطهاد، ورفض أصدقائي الأقباط المعتدلين لهذا الموقف رفع الصليب لأنه ضد فكرة المواطنة ولأنه يُفرِق ولا يُجمِع. تداعت كل هذه الصور والأفكار أمامي وأنا في الطريق إلي مشيخة الأزهر في أول لقاء دعا إليه الشيخ "أحمد الطيب" شيخ الأزهر لإجراء حوار بين المثقفين وعلماء الأزهر، هذا الحوار الذي امتد لخمس جلسات حادة ومثيرة ومثمرة، كان تعقيبي عليها في النهاية أنها لحظة تاريخية تمر بها مصر الآن، لحظة تصالح وتوافق بين التيارات والاتجاهات المختلفة من أجل مصر الجديدة. وقلت أيضًا إنني سعيد كواحد من أبناء جامعة القاهرة "الجامعة الحديثة"، وكواحد من المنتمين للتيار الليبرالي باللقاء مع الأزهر والنقاش حول مستقبل مصر لأن الداعي لهذه اللحظة هو أن "مصر في خطر"، فلننسي كل الاختلافات والخلافات ولنصل لنقطة لقاء من أجل إنقاذ مصر الثورة. من هنا تأتي أهمية وثيقة الأزهر إنها بيان إلي الأمة لمصرية عن نقاط التفاهم المشتركة بين علماء الأزهر ونخبة المثقفين حول مستقبل مصر؛ بيان يُطرح علي الشعب المصري للنقاش والإضافة والحذف، حتي تمر مصر من عنق الزجاجة ومن الفترة الانتقالية ويصبح في الإمكان أن نختلف، لأننا الآن في الحقيقة لا نملك ترف الاختلاف والوطن في خطر. لهذا كله صدرت وثيقة الأزهر لا تحمل وجهة نظر اتجاه معين أو محدد وإنما تبحث عن المشترك من أجل مصر. وكم فرحت بهذه الوثيقة التي اعتبرتها وليدًا جديدًا لثورة 25 يناير، وورقة حوار للسعي نحو المجتمع الجديد، مجتمع كل المصريين. لكن آلمني أشد الإيلام العنوان الصادم لمقالة الصديق العزيز والأستاذ الجليل د.حازم حسني الذي لم ير في وثيقة الأزهر سوي أن المثقفين قد دخلو حظيرة الدولة الدينية. لن أستطيع التحدث بالنيابة عن زملائي المثقفين من مختلف الاتجاهات الفكرية أو حتي الدينية، حيث كان من ضمن الحضور بعض الأصدقاء الأقباط الذين حضروا حوارات الأزهر ليس بصفتهم أقباط فحسب ولكن لأنهم يعبرون عن اتجاهات فكرية متعددة. لن أقبل أن يُدخلني أحد حظيرة الدولة الدينية، لأنه لم ولن تعرف مصر مثل هذه الدولة، وسنكون جميعًا من أوائل المدافعين عن ذلك. ولهذا أرجو من الصديق العزيز والعالم الجليل أن يعتذر عن هذه العبارة الغريبة عن طبائعه الديمقراطية وحواراته ونقاشاته الرائعة التي استمتع بها علي صفحاتنا المتبادلة علي موقع الفيس بوك. سنقف جميعًا يا د.حازم كتفًا بكتف ضد أي محاولة خارج التاريخ تحاول تطبيق الدولة الدينية في مصر، ولن نبيع الديمقراطية ولا أفكار التقدم، ولكن اللحظة الراهنة تحتم علينا جميعًا الوصول إلي تفاهمات للوقوف أمام مد التيار السلفي الوهابي الذي يقدم صورة ماضاوية للإسلام؛ كما سنقف أنا وأنت والشرفاء من أبناء الأمة المصرية في وجه الأصولية المسيحية أيضًا التي لا تحترم تاريخ الكنيسة القبطية واستقلالها عن الخارج، هذا التاريخ الذي ضحت في سبيله بدماء الشهداء قديمًا. لقد سعت وثيقة الأزهر منذ البداية إلي تجاوز الأمة المصرية للعقبات والعثرات الحالية بالبحث عن نقطة اللقاء والمشترك، فهي ليست وثيقة أزهرية، كما أنها ليست وثيقة ليبرالية، ولا يسارية، إنها بيان تفاهم للأمة للعبور إلي نقطة الأمان، ثم بعد ذلك يصبح في الإمكان أن نجلس علي موائد عالية وكراسي وثيرة في غرفٍ مكيفة لنتحدث عن ترف الاختلاف. الأمة في خطر، إن عبد الناصر الذي وصف أحيانًا بأنه كمال أتاتورك وأنه علماني أو أنه اشتراكي أو حتي أنه براجماتي، عندما وقعت الواقعة وحدث العدوان الثلاثي في حرب 1956 لم يجد إلا منبر الأزهر ليخاطب منه الأمة مستصرخًا مناشدًا أن مصر في خطر. أقول هذا وأنا لا أنتمي إلي التيار الناصري بل إلي التيار الليبرالي، كما كتبت العديد من الكتابات في نقد عبد الناصر، لكنه التاريخ أيها الصديق العزيز د.حازم. إن ثقافة د.حازم من ناحية الاقتصاد والإحصاء ولغة الحاسوب قد أثرت عليه تأثيرًا شديدًا أثناء معالجته لوثيقة الأزهر؛ لذلك كثُر استخدامه لتعبيرات: "لم تُحدِّد الوثيقة" أو "لم تُعرِّف الوثيقة" أو "إن الوثيقة سادها الغموض" أو "أكدت الوثيقة الالتزام باحترام حقوق الإنسان والمرأة ولكن دون تعريف هذه الحقوق". إن البيان الذي يصدر إلي الأمة أو حتي إعلان حقوق الإنسان وغيره لا يركز في التفاصيل، إن الدستور نفسه يطرح مجموعة من المعاني والأفكار ويترك للقوانين المُكمِلة تفسيرها. إننا هنا نطرح أفكار عامة للتوافق في أقل حيز ممكن من الكتابة ليحدث توافق عليها، لأن الهدف من الوثيقة هو طرحها للنقاش وبالتالي اللغة الإحصائية ولغة الحاسوب التي يتمناها د.حازم هي في الحقيقة أبعد ما تكون عن طبائع مثل هذه الوثائق والبيانات والأوراق التاريخية. إن الأمة هي التي تُكيِّف مسارها مسترشدةً بمثل هذه البيانات، لا أن تصبح هذه البيانات طوق في رقبة الأمة، لذلك يقول د.حازم عن وثيقة الأزهر "أنه مشروع وثاق لا وثيقة من شأنه تكبيل مشروع الدولة الحديثة في مصر، وإخضاعه لرؤي ملتبسة". وهذا في الحقيقة نقد خارج التاريخ لأن كل البيانات والإعلانات التاريخية هي تعطي هوامش المشترك للأمة لكي تنطلق إلي الأمام. ويذكرني ذلك بموقف في أول اجتماع لنا في مجلسٍ أخر، هو اللجنة الشعبية من أجل الدستور، حيث طرحت منذ أول لقاء ضرورة تمثيل كافة الاتجاهات والتيارات السياسية في هذه اللجنة حتي تكتسب مصداقية، واعترض البعض علي ذلك لأنني طالبت بحضور بعض ممثلي التيارات الدينية وقالوا: لا نريد هؤلاء بيننا، نريد دستور تقدمي. فكان ردي بأن هذه اللغة الإقصائية ضد فكرة الدستور أصلاً، إن الدستور يعبر في الحقيقة عن كافة الاتجاهات والتيارات وإلا أصبحنا نتكلم مع أنفسنا. من هنا ربما نقطة الخلاف حول وثيقة الأزهر، البعض يريدها ليبرالية والبعض يريدها يسارية والبعض الأخر يريدها دينية وهي في الحقيقة وثيقة استرشادية لعبور مصر هذه المرحلة الحرجة. من هنا كانت قراءة د.حازم حسني للوثيقة، في الحقيقة هي قراءة ليبرالية أحترمها كل الاحترام، لكنها ليست قراءة توافقية، هي قراءة اقصائية. يمكننا أنا ود.حازم أن نتناقش في ذلك بيننا كتيار ليبرالي علماني، لكن لا يمكن فرض ذلك علي الأخرين. من هنا ومن خلال هذه القراءة الإقصائية يري د.حازم أن الوثيقة لم تعترف أصلاً بوجود أمة مصرية تعبر عن طموحاتها القومية، مع أن الوثيقة في نصها تُصر علي ذلك. ولست في حل أن أُذيع النقاشات الحادة التي دارت أثناء هذه الحوارات الجادة والتي انتهت إلي ذكر أن الوثيقة تسعي إلي "الحرص التام علي صيانة كرامة الأمة المصرية والحفاظ علي عزتها الوطنية... واستقلال الإرادة المصرية". كما حرصت الوثيقة علي ذكر مصطلحات الوطن والمواطنين. كما يأخذ علي الوثيقة أنها لم تحدد ماهية الدولة الدستورية، وهذه عودة مرة أخري إلي لغة الحاسوب التي يتقنها د.حازم والتي لا تتفق بأي حال من الأحوال مع البيانات والوثائق التاريخية، ويتخوف من تفسير البعض أن الدولة الدستورية تعني دولة القرآن علي اعتبار أن القرآن الكريم دستورًا بالمعني السياسي، فالإخوان من وجهة نظره يرون في القرآن دستورًا. والحق أقول أنه لم يكن هناك أي خلاف بين أعضاء اللجنة حول مفهوم وشكل الدولة الدستورية، إذ تم النص علي أنها الدولة العصرية الحديثة الت تعتمد التحول الديمقراطي دستورًا لها؛ وهي أيضًا الدولة الوطنية الدستورية التي تعتمد دستورًا يفصل بين سلطات الدولة ومؤسساتها القانونية الحاكمة، هذا الدستور الذي يعطي سلطة التشريع لنواب الأمة والذي يصر علي أن إدارة شئون الدولة بالقانون والقانون وحده. ويرفض د.حسني ذلك كله قائلاً: "أن الوثيقة تعرف الديمقراطية بأنها النظام القائم علي الانتخاب الحر المباشر"، ويسخر من ذلك متذكرًا قصة غزوة الصناديق، ويتساءل هل يقبل الأزهر حكم الشعب "الحاكمية للشعب"؟ ليس الأزهر فقط بل كلنا جميعًا سنموت من أجل هذا المبدأ الحكم للشعب والحاكمية للشعب. والديمقراطية هي بالفعل كما يقول د.حازم وسيلة ربما يستغلها البعض للقفز علي الحكم، وكمؤرخ أعترف بأن الأنظمة الفاشية والنازية وصلت إلي الحكم من خلال الديمقراطية، ولكن البقاء في النهاية للشعب وللديمقراطية. ويأخذ الصديق العزيز علي الوثيقة أنها ليست وثيقة ثقافية ولكن سياسية، وبطبيعة الحال هو يعلم جيدًا أنه ليست هناك حدود فاصلة بين الثقافي والسياسي، وأن المجتمع الحديث لا يُفرِق بين الثقافة والسياسة. ولذلك فهو محق الوثيقة ليست ثقافية فقط، ولكنها سياسية أيضًا تحاول رسم استراتيجية توافقية لشكل الدولة العصرية الحديثة ونظام الحكم فيها وعملية التحول الديمقراطي، وتستفيد من تاريخ الأزهر وجانب الاستنارة فيه في مساعدة مصر علي عبور هذه اللحظة الحرجة. لذلك كان من الطبيعي الحديث عن الحريات الدينية والنص علي مواجهة التيارات المنحرفة التي قد ترفع شعارات دينية طائفية أو أيديولوجية تناقض جوهر الإسلام الذي هو، وكما تنص الوثيقة، الحرية والعدل والمساواة. وهي أفكار لا تختلف كثيرًا عن أفكار الثورة الفرنسية. كما نصت الوثيقة علي صيانة حرية التعبير والإبداع الفني والأدبي واعتبار الحث علي الفتنة الطائفية والدعوات العنصرية جريمة في حق الوطن، وضمان إتباع أصحاب الديانات السماوية الأخري الاحتكام لشرائعهم في قضايا الأحوال الشخصية. عودٌ علي بدء، لن ندخل إلي حظيرة الدولة الدينية أبدًا، لقد حسمنا موقفنا في وثيقة الأزهر أنه لم يعرف الإسلام الدولة الدينية الكهنوتية أبدًا، وأن المستقبل للدولة الوطنية الدستورية الديمقراطية الحديثة، وأننا إذ نضع أيدينا في يد الأزهر فإننا نستلهم روح علماءه الأجلاء من حسن العطار إلي الطهطاوي إلي محمد عبده إلي مصطفي عبد الرازق. إننا في لحظةٍ فارقة في تاريخنا لا بد أن نعبر جميعًا علي اختلاف اتجاهاتنا وتياراتنا عنق الزجاجة لكي نصل إلي مصر الجديدة وعندها ربما نمتلك رفاهية الاختلاف، ولكن الآن التاريخ يدفعنا دفعًا إلي المشترك. لقد كنا جميعًا في ميدان التحرير نستمع لشعار "إيد واحدة" يرج أرجاء الميدان يردده الإخواني والليبرالي واليساري، المنتقبة والسافرة، الفلاح والعامل، الشباب والشيوخ. من هنا تأتي روح وثيقة الأزهر فهي عودة بالثورة إلي مجراها الصحيح؛ هي وثيقة تفاهم مرحلية لعبور النفق المظلم الذي دخلنا فيه للأسف. ولكننا سنخرج لأن هذه هي حتمية التاريخ، وستعود مصر مرة أخري، وكما أعترف أوباما وبرلسكوني، تُعلم العالم التاريخ. أستلهم روح التاريخ وأتذكر رائعة توفيق الحكيم "عودة الروح" التي هي في الحقيقة عودة الروح إلي مصر بعد ثورة 1919، فهل نعيد جميعًا الروح إلي مصر الآن؟