ربما من أهم تأثيرات الثورة المصرية ظهور ذلك النوع من الآراء الوسطية والمعتدلة والتي كانت متوارية قبل الثورة خلف مجموعة من الاستقطابات الفكرية الحادة التي كانت تشغل وتهد كيان المجتمع المصري. أهمية هذه الآراء أن وجودها تأكد مع الثورة، كتمثيل رمزي لها. ربما أي ثورة تطرح تمثيلا جذريا لها يتجسد في مجموعة من الآراء ذات الاتجاه الأحادي، وربما كذلك تعيد تشكيل الأفكار لتعيد الحياة لنوع من الآراء المركبة ذات الاتجاهات المتعددة، والتي كانت ممثلة من قبل علي استحياء في جسم المجتمع المصري. ربما الثورة المصرية من النوع الثاني من الثورات التي لاتقطع ولكنها تصل. أغلب الآراء قبل الثورة كانت مشغولة بالتمترس،بالدفاع، بالمواجهة، بالقضاء علي رأي آخر؛ وليس ببناء رأي جديد. لذا غاب التركيب عن هذه الآراء وأصبحت سطحية بالرغم من لغتها وطرحها المعقد. أي أن بلاغتها كانت في الشكل فقط. أهمية هذا الآراء التي صاحبت الثورة أنها ليست موجهة من حزب أو جماعة، وإنما تعبر عن طموح شخصي وجماعي بالحفاظ علي توازن فعال مرتبط بجوهر الجماعة والفرد في آن. أتصور أن مناخ الحرية النسبي الذي ستوفره الثورة سيغني هذا النوع من الآراء المعتدلة لأنه سيفك أحادية أي فكرة وسيكتشف مستويات بينية بداخلها. في حوار سريع مع سائق تاكسي، قال لي ردا علي سؤال هل يؤيد جماعة الإخوان قال " أنا لا مع الإخوان ولا البرادعي، أنا بصلي وكمان بتفرج علي أفلام". هذا التمثيل البسيط، وليس المخل، كان لايجد الطريق ليظهر علي السطح، أو ليثق في نفسه، إلا بعد أن حفرت له الثورة مجري جديدا داخل جسم المجتمع. مجري كان مسدودا من قبل.هذا الرأي علي بساطته إلا أنه أولي الخطوات لحضور نوع من الآراء المركبة، والتي ستكون مزيجا ليس توفيقيا بين قطبين أو مركزين أو رأيين. لأن نقطة التوازن في المعادلة جاءت عبر حركة و ثورة شعب، وليس عبر سكون، لذا فهي نقطة توازن قلقة. إنه طريق جديد للأفكار أضافته الثورة. فالرغبة الكامنة وراء الثورة، بجانب العيش الكريم، هو التعدد بجميع صوره، لأنه المكان المفقود لثقافتنا. لم يكن هناك حصار مفروض علي " أيقونة " ميدان التحرير، ولا علي المسيرات التي جابت شوارع مصر، بل هي التي حاصرت نفسها، لتقف وتتمترس ضد النظام، وعبر هذا الاحتشاد صنعت التعدد فيما بينها، ورضت به وبشروطه الصعبة. إنه طريق جديد للفكر مهما تم "الشوشرة" عليه.