صدق حدسي.. قلت لكم في مقال الأسبوع الماضي إن الحدثين اللذين بدأ بهما يوم السبت في الثامنة صباحاً وانتهي بهما يوم السبت في الثامنة مساء نقيضان لا يجتمعان في ظروف طبيعية.. الحدث الأول حدث بنّاء يعمل لمستقبل مصر، أما الحدث الثاني فخسيس حقير يعمل لهدم مصر. وشتان ما بين البناء والهدم.. والنور والظلام. كان رائعاً ومتوقعاً أن يستنكر المصريون جميعاً حدث المساء الخسيس، ويخرجوا إلي الشوارع ليعلنوا رفضهم الانجراف الأعمي لدسيسة دنيئة. أتكلم عن سبب المشكلة وصانعتها، فهي أدني من أن تكون موضوعاً لافتتاحية "أخبار الأدب" لولا أنها، بالفعل، كانت السبب في وقوع الكارثة. وليس قولي إنها أدني من أن تكون موضوعاً لحديث من باب الانتقاص أو التحقير من شخصها، بل قصدي أنها ليست ظاهرة تستحق الوقوف عندها، وخاصة بعدما نشرته الصحف من قصتها التي أظن أنها غير كاملة، ففيها الكثير من الثقوب، عن قصد أو جهالة أو..، ولن أخوض فيما ذكرته علي صفحات الجرائد، ولكن سأتوقف عند حقيقة واحدة، وهي أنها كذبت يوم أشهرت إسلامها وادعت أنها فتاة غير متزوجة وعذراء، بينما هي امرأة متزوجة.. ومنجبة. فكيف تكذب علي الله؟!. نعلم أن متاعب الحياة قد تؤدي بالبعض إلي التحايل للخروج من المآزق، ولعبة الأديان، عند من يرونها كذلك، وسيلة للخروج من المآزق مثلما فعلت هذه المرأة التي كرهت زوجها فخرجت من دينها ليحرّم عليها وتتزوج من آخر قد تكون أحبته، وقد تكون اتخذت منه مطية للوصول إلي غرضها. وأذكر أنني قرأت في مذكرات الدكتور لويس عوض الثانية "أوراق العمر" قصة مثل هذه، وللويس عوض كتابان روي فيهما ذكرياته: الأول "مذكرات طالب بعثة" الذي رسم فيه طموح وأحلام شاب صعيدي تسلح بالعلم، وارتحل إلي أقصي الأرض لينهل من نوره، والثاني "أوراق العمر" الذي وضعه في أخريات أيامه، وروي فيه قصة إحدي قريباته التي كانت تعاني من مشكلات زوجية تعجزها عن الاستمرارمع زوجها، ولم تجد مهرباً إلا بالخروج من ملتها والدخول في ملة أخري، وهكذا خرجت من المسيحية إلي الإسلام. وذات يوم زارته في مكتبه تعرض عليه فكرة العودة إلي المسيحية مرة أخري بعد أن حققت مرادها، فزجرها قائلاً: "الأديان ليست لعبة نلهو بها علي هوانا". إذن فالتحايل علي الدين للخروج من مشكلة ما أمر معروف تاريخياً، والحقيقة لا يعلمها إلا الله. وهذه المرأة، التي تؤكد أنها احتجزت في الكنيسة بين أيدي راهبات كريمات عاملنها برفق فتظاهرت أمامهن بأنها قبلت العودة إلي دينها، نجحت في الحصول علي هاتف محمول لتخبر زوجها الجديد بمكانها، كي يتحرك لإنقاذها. وهكذا تسارعت أحداث الفتنة من تحت رأس امرأة كادت أن تشعل الوطن وتبعث مشاعر الكراهية والغضب التي لا مكان لها منذ ثرنا في ميدان التحرير كياناً واحداً لا فرق بين أحمد وهدي.. أو بطرس وماريانا. فكلنا أبناء وطن واحد، جسد واحد.. ليس فينا ضعيف وقوي، فكل منا يقوي بأخيه وصاحبه. ولن نستسلم للسقوط.. لن نستسلم للفتنة.. لن نستسلم لمن يريد ذبح وطننا لصالح حفنة من المرضي والمفسدين. وأرجو أن تنتبهوا أيها السادة لما يتم التخطيط له، فكلما شملت قائمة الاتهام رمزا مهما وكبيرا، زاد الضغط لضرب الشعب.. وزاد التآمر لقهر الثورة وإشعال الفتنة وليس أسهل من ضرب الوطن بالفتنة الدينية بين أبناء المسجد وأبناء الكنيسة. لذا أرجو أن تنتبهوا، وتفهموا فلا يستدرجكم إلي السقوط أحد. الوقت نفسه أهمس للإخوة المسلمين الغيورين علي دينهم فأقول.. أنتم تعلمون أكثر مما أعلم إن المسلم من سلم الناس من لسانه ويده.. وأنتم تعلمون أكثر مما أعلم أن الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة تفتح القلوب، وأن الدعوة بالفظاظة والكزازة تنغلق أمامها القلوب، ولهذا قال تعالي: "ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك" صدق الله العظيم. وأقول لشيوخنا الأجلاء: أنتم أهل الحكمة فكونوا رسلها "والمؤمن كيّس فطن"، ولا تنساقوا وراء كلمة لا تعرفون مدي صدقها.. ومدي الصدق فيها، وأُذكّركم بقوله تعالي: "يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوماً بجهالة فتصبحوا علي ما فعلتم نادمين" صدق الله العظيم. وأقول إن حسن الكلام يصل إلي حسن القبول. نحن والله علي مفترق طرق.. ومتمسكون هذه المرة بالفرصة.. فرصة استعادة الوطن.. فرصة إعادة بنائه عالياً عظيماً حديثاً ناجحاً غنياً ثرياً منتجاً محبوباً من أبنائه، ومن القادمين لزيارته أو للحياة بين أبنائه.. متمسكون ببناء الوطن.. مصر.. قوية عزيزة عظيمة قادرة معطاءة، تنشر قيم هذا الوطن في عصوره الذهبية، التي تعلي من قدر العلم والإيمان، وتحتمي بقوة أبناء هذا الوطن، كل أبنائه علي ضاف النيل وعلي شواطئ بحاره، وفي بداوة صحرائه.. كل مصر لكل أبناء مصر.. ليذهب إلي غير رجعة زمن البغض والكراهية والخوف.. لتحرقه نيران الحجيم.. لنعيش عصراً جديداً نصنعه بأيدينا من الحب المحبة والصدق الصداقة والجهد الجبار والعمل الجاد. وفي هذا المقام أذكر الموقف الرائع الذي قام به في الجاهلية رجلان حكيمان لإيقاف حرب ضروس من حروب العرب، خلدها شاعر عظيم من فحول شعراء الجاهلية هو "زهير بن أبي سلمي" الذي شكر سعي دعاة السلام، وشكر الثمن الذي بذلاه لدرء الديّات، وكان غالياً، فإذا بأحد كارهي السلام يفكر في إشعال الحرب من جديد بقتل واحد من القبيلة الأخري، لينتهي كل شئ ويحل الجنون محل العقل وتشتعل الحرب من جديد. نعم في كل العصور هناك طيبون وهناك أشرار. ولكن الطيبين لا يستسلمون فقال زهير فيما قال في معلقته: لعمرك ما جرت عليهم رماحهم بما لا يؤاتيهم حُصَين بن ضمضم وكان ظوي كَشَحاًعلي مُستكَّنة فلا هو أبداها ولم يَتَجَمجَم وقال: سأقضي حاجتي ثم أَتّقي عَدوِّي بألف من ورائي مُلجِمَ فَشَدَّ ولم تَفزَع بيوت كثيرة لدي حيث ألقت رَحلَها أم قَشعَم أيها السادة هي قارب النجاة من فوضي مُروِّجي الشائعات العاملين علي إشعال الوطن لحماية أنفسهم، أو الثأر من آسريهم بعد أن فقدوا حسهم بالوطن وبالإنسان في سبيل ما حصدوا من غير زرعهم، ونهبوا حقوق الذين أفقروهم بجشعهم وطمعهم وتعاليهم وخيلائهم وكبرهم. الحكمة هي منجاتنا جميعاً من شرور المتربصين بهذا الوطن تحت مسميات كثيرة. وهي الأداة التي تُخزي وتُفشل محاولات الانقضاض علي ثورة الشعب. ولا تنسوا أنه في التاريخ الحديث والقديم لم تعرف مصر فساداً كالذي اكتشفناه بعد الثورة.. لم نر النظام كله بدءا من رأس الدولة وأسرته إلي وزرائه قابعين في السجون في أحقر تهمة يوصم بها إنسان.. خيانة الأمانة، أو بالبلدي كده "السرقة"، فتوقعوا منهم ومن أذنابهم الكثير وكونوا يقظين يعني بالبلدي "فتحوا عيونكم". أما نحن.. الأدباء والمثقفون.. فإن علينا أن نكون-كما كان زهير بن أبي سلمي في زمانه، وغيره من الشعراء- قادة التنوير وطليعة الثورة أمام الشعب.. فتلك رسالتنا في كل العصور.