للوهلة الأولي يعطيك خيري شلبي انطباعا بأنه حكّاء من طراز خاص ، فلديه القدرة علي نسج الحكاية وجعلها دوماً مفتوحة علي تخوم البدايات والنهايات، كأنها تحدث للتو. لكن ما إن تقترب منه أكثر حتي تدرك أنه شيخ طريقة "سردية" تخصه وحده، وتدل عليه، ومن باب المحبة يسمح أحياناً لمريديه بالاقتراب والجلوس تحت مظلتها، محبة تذكرك بمناخات القرية وعشرة أهلها الطيبين، تلك الطيبة التي شكلت وجدان خيري شلبي، ولا تزال تربة خصبة لشجرة إبداعه الوارفة. أكثر من مرة أعدت ترتيب أفكاري ، وأنا في الطريق إلي بيته لكن ما إن فتحت لي الباب زوجته بابتسامة حنون، وجاء هو مرحباً، حتي شعرت بدفء يسري في جسدي.. بيت دافئ، به ملامح طيبة، وهدوء أصحابه لازمني طوال اللقاء. لوحات هنا وهناك، بعضها "بورتريه" لفنانين أصدقاء، في قنص ملامح خيري شلبي وتقاطعاته مع الزمن والحياة، وبعضها ينتظر ضربة الفرشاة الأخيرة، في قصة أو رواية، يفاجئنا بها خيري شلبي قريباً. ما أدهشني بالفعل أنني أجريت هذا الحوار قبل أيام من الأحداث البغيضة التي وقعت بكنيسة إمبابة.. سألته عن أحوال الوطن، ومخاطر اللعب بورقة الأقباط، وفي ذهني أجواء رواية كاملة اسمها "إسطاسية"عن امرأة قبطية، فكأنه نظر في بلورة سحرية وتنبأ بما جري من أحداث الفتنة الدامية. سألته في البداية: * ما الذي تركته ثورة يناير في مخيلتك الإبداعية؟ وهل ثمة أدب خاص ممكن أن يتم إنتاجه بعد الثورة؟ لم تترك.. بل كانت في مخيلتي في الأصل، وهذا اليوم أنا توقعته في كثير من المقالات ربما منذ عشر سنوات، وقلت إن هذا اليوم قادم بالتأكيد، هذا علي المستوي النظري أما القصص والروايات فكان بها ما يشبه الرصد لتنامي حالات الغضب عند الشعب المصري مثل: "السنيورة"، "الأوباش"، "اللعب خارج الحلبة"، "الشطار"، "وكالة عطية"، وهي عرض لما يعانيه المصريون من قهر في ظل ديكتاتورية دولة المخابرات بعد ثورة يوليو، ثم تجددت الرؤية فيما تلي ذلك من روايات مثل" صهاريج اللؤلؤ"، "لحس العتب"، "موت عباءة"، "أحلام عم أحمد السماك"، "الثلاثية" الي آخره. كانت بعض أعمالي بها تنديداً بما حدث من بيع لنصر أكتوبر بثمن بخس وإجهاض الحلم المصري الذي كان قاب قوسين أو أدني من أن يحقق دولة مدنية ديمقراطية تسترد وضعها الحقيقي كقوة إقليمية وزعيمة من زعماء الحضارة علي طول التاريخ. وبعد ذلك كتبت" زهرة الخشخاش"، "صحراء المماليك"، "نعناع الجناين"، "إسطاسية". ومجموعات قصصية أخري كأن بها نبوءة بهذا اليوم يوم 25 يناير وصلت إلي حد التحريض. أنا أعرف أن هناك كثيراً من الكتاب والأدباء يزعمون الآن أنهم حرضوا علي الثورة، وقد يكون هذا صحيحا، فنحن لا يمكن أن ننكر حركة نجم والشيخ إمام وأشعار الأبنودي وأمل دنقل وغيرهم من الشعراء وبعض زملائنا من كتاب القصة والرواية كان عندهم رؤي نافذة تنبأت بالثورة وحرضت عليها بدرجة أو بأخري، جيل الستينيات والسبعينيات وما تلاه كان يحلم بهذا اليوم. في ميدان التحرير كان هناك يومياً شباب يكتب الشعر والأغاني، وكان واضحاً تأثير جيلنا فيهم إلي جانب تأثير صلاح جاهين وفؤاد حداد ويوسف إدريس فيهم أيضاً. وأتصور أننا نحن أيضا تأثرنا بهم، فالمسألة متعاشقة، ومن غير معقول أن تقوم ثورة شعبية بهذا الشكل ويصمد الناس في الميدان 18 يوماً، يتعرضون للقتل، وتندس بينهم العصابات، لا يمكن أن يتم هذا إلا من خلال شعب عامر.. ممتلئ بمضمون جاء تأثيره من الفن والأدب طوال سنوات ماضية، علي الأقل المجزوم به أن تأثير صلاح جاهين وفؤاد حداد وأحمد فؤاد نجم كان قوياً، فالنشاط الفني والأدبي" الشريف "، كان واضحاً من تحرك الجماهير ومن كلامهم الفني الجديد. ولماذا أكدت علي كلمة "الشريف"؟ لأن هناك أنواعا من الكتاب والإعلاميين والصحفيين كانوا موالين للحزب الوطني. هل ستستمر مثل هذه الأمور؟ أنت كتبت ذلك في رواية "زهرة الخشخاش" عن فساد الشمشرجية أو الطبقة الحاكمة و"أنهم طبقة كامنة كالجراثيم لكنها ستظهر ولو بأسماء جديدة، مستعدة للتحالف مع الشيطان للوصول لأهدافها". هل سيظهر آخرون يوماً أم أن الأمر تم حسمه نهائياً؟ الفساد سيظل في الأرض ما بقي الإنسان علي قيد الحياة لأنه صفة إنسانية مع الأسف الشديد، فعلا "قُتل الإنسان ما أكفره" كما قال القرآن الكريم، فالإنسان إن لم يكن هناك قامع قوي مثل الله ربنا يخافه الأتقياء، وقوانين رادعة، ما لم يكن هذا فالإنسان لابد وأن يفسد بقدر ما تواتيه الظروف، الفساد قائم ويجب أن نقاومه بتطبيق القانون بصرامة، وأن تعمل الأجهزة الرقابية بإخلاص للوطن وأن يتم احترام تقاريرها. وفي إعتقادي أن ما يحدث للرئيس السابق وأهله غير الكرام هو في حد ذاته حين تكتمل المحاكمة العادلة أمام القضاء المدني، سيكون ذلك حدثا تاريخيا بكل المقاييس وردعاً لأي رئيس قادم. هل توقعت كل هذا الكم من الفساد؟ أنا كنت أراه، وما خفي أكثر مما تم كشفه،" أنتم لسه شفتم حاجة"، ما تكشّف "فكة".. مجرد قشور، وهذه مسائل تافهة بالنسبة إليهم، فلا تزال هناك أشياء خطيرة جداً، فما ذكره حسب الله الكفراوي كمثال أمور تقشعر لها الأبدان، فهذا الشاب الذي كان يتأهب لحكم مصر في يوم من الأيام، ذهب لإحياء ديون ميتة علي مصر كان ميئوساً من تحصيلها، ذهب ليقنع أصحابها أنه علي استعداد لأن يحييها مقابل عمولة، هل يمكن أن نتخيل أن شاباً كهذا كان يمكن أن يحكم مصر؟!. لا أعلم إن كان تصوري هذا صحيحاً أم لا، لكن عندي إحساس قوي بأن جمال مبارك شخصية سيكوباتية، ما رأيك أنت في ظل خبرتك الإنسانية الكبيرة ؟ الصحفي رضا هلال كان جالساً في ديسك الأهرام وقال إن لديه وثائق تؤكد أن جمال مبارك كان يعالج من أمراض نفسية في أمريكا، وفي اليوم التالي اختفي رضا هلال، لقد سمعت هذه الشائعة وأرجح صدقها، فاختفاؤه لا يمكن أن يحدث إلا من خلال أمن الدولة نفسه، يد فاجرة قادرة لا تتقي الله، وعندما تنظرين لعيون جمال مبارك لا تجدين معني لأي شئ علي الإطلاق، عينان مقفولتان لا تستطيعين أن تنفذي إليهما أو تعرفي منهما إن كان سعيداً أم حزيناً، يحب الحياة أم يكرهها ، وجه مثل جلد الطبلة المشدود لا يعبرعن أي مشاعر علي الإطلاق. ولما كان يظهر وسط الجماهير ويخطب وكأنه متفضل عليهم بالظهور بطلته البهية، لا يتمتع بأي جاذبية من أي نوع لا في هيكله ولا شخصه ولا كلامه، هو يفتقد كل هذه المواهب ويفتقد قبلها.. الإنسانية، فما رواه حسب الله الكفراوي وغيره يؤكد أنه هكذا فعلاً، ومن يقوم بهذه الأفعال ليس لديه ذرة من إحساس بالوطنية. في رواية "زهرة الخشخاش" هل قصدت الترميز لأحد بعينه من خلال شخصية حمادة ابن اليهودية؟ لم يكن جمال مبارك ظهر بعد بالصورة الكاملة، لا أنا كنت أقصد ترميز بما فعله بعض اليهود في مصر، بعض الشخصيات التي عندها ميول صهيونية وكان لهم باع في الاقتصاد المصري وكان لهم يد في مجري الأمور فيها، أصل اليهود أنواع وكل نوع له طقوسه، حمادة ابن اليهودية هو مفتاح لفهم طبقة الشمشرجية، هذه الطبقة التي تظهر في كل عصر ولا مانع عندها أن تستخدم كل الطرق لتصل لأهدافها. ولكن.. من هم شمشرجية العصر القادم؟ أولاد هؤلاء، مثلما كان شمشرجية رواية "زهرة الخشخاش"، هناك عائلات تجدينها موجودة في حقل السياسة في عصور متعاقبة، لابد وأن نجد عضوا أو أكثر في مجلس الشعب أو وزير إلي آخره، هناك عائلات محتكرة السياسة من وقت طويل، ثورة يوليو أتاحت لطبقة أخري ينتمي إليها هؤلاء الذين لم يكونوا شمشرجية لكي يصبحوا كذلك، مثل أحمد عز. بشر من أصول اجتماعية متواضعة جدا احتلوا مواقع كانت في يوم من الأيام للأرستقراطية المصرية، فهؤلاء هم شمشرجية العصر، وأبناؤهم ممن لهم مدخرات لا تنفد في بنوك سويسرا وأوروبا، حينما يكبرون حيث يقيمون في الداخل أو الخارج سينفقون من هذه الثروات التي لا تنفد، وسيأتوننا مع حكم جديد قادم في أي وقت ليتواءموا معه من جديد وسيعودون مثلما عادوا أيام الانفتاح مدعين أنهم أبناء مصر جاءوا لإنقاذ الاقتصاد المصري وما إلي ذلك من أكاذيب كان يرددها أصحاب رأس المال الطفيلي، والشركات متعددة الجنسيات ومن هجموا علي مصر أيام الانفتاح وأُتيح لهم شراء هضبة الأهرام كاملة بملاليم، وباعوا منها أراضي للمواطنين المصريين بأكثر مما دفعوا وما كانوا سيدفعون عشرة آلاف مرة والمكاسب التي نهبوها كبيرة جداً، ثم جاءت البطلة المصرية نعمات أحمد فؤاد التي اسميها "ذات الهمة" وظلت تكتب في الصحف وفي الأهرام وتستقطب الصحفيين الشرفاء وقامت برفع دعاوي أمام المحاكم في لندن وكسبتها في النهاية. أبناء وأحفاد العادلي وعز وصفوت الشريف ونظيف وغيرهم كثيرون، هم شمشرجية العهود القادمة هذا إن لم ننتبه إليهم، من يجلس علي الكرسي أي كرسي يجد نفسه ميالاً إلي استقطاب مثل هؤلاء الذين يبادرون بتقديم الخدمات ويساعدون الجالس علي الكرسي لكي "يلصق عليه" ويقدمون له الأموال والخدمات وما إلي ذلك فهم يدخلون الي الجالس علي الكرسي سواء بالأموال أو إدعاء الوطنية!. وشيئا فشيئا يتملكون، نحن في الواقع ينقصنا الثقافة الوطنية، يجب تعليم الأولاد منذ الصغر أهمية حب الوطن وما هي الخيانة العظمي. لكننا اكتشفنا في ميدان التحرير الوطنية الجميلة وحب مصر؟. من قاموا بالثورة هم نخب، سواء أكانوا من الطبقة الوسطي أم من نخب الفقراء أو الأغنياء، نحن 85 مليوناً، من قاموا بالثورة حوالي عشرة ألاف ثم انضم إليهم الملايين بعد ذلك، ومثلهم لم يشتركوا فيها وكانوا في بيوتهم لسبب أو لآخر وعندهم أيضا وعي وضمير ووطنية صادقة، لكن أين الباقي؟! التعليم عندنا منهار منذ أيام ثورة يوليو ومع كل يوم يزداد انهياراً، اختفت مادة التربية الوطنية التي تخلق في الطالب الحس الوطني الحقيقي، كما لم تعد هناك أنشطة رياضية، أو جماعة تمثيل، أو خطابة أو جماعة رحلات إلي آخر تلك الجماعات التي تنمي في الطالب روح الانتماء منذ الصغر. أيضا الجامعة أصبحت سجناً بعدما كانت هي المزرعة التي تستنبت فيها البيئة التي تخرج الوزراء والرؤساء للعهود القادمة، فالنشاط الطلابي السياسي يتمخض في النهاية عن مواهب وكفاءات تصلح لإدارة البلاد. لكن عندما يتم منع السياسة تماماً ونضع أمنا في الجامعة ليقمع أي نشاط طلابي حقيقي إذن نحن هكذا نخرب ضمير مصر وبالتالي تموت روح الوطنية ولا يتعلم الطلاب ممارسة السياسة، وبالتالي يحتل المناصب الوزارية الشطار والمتحركون ممن ليست لديهم أي سياسة يطبقونها بل أحياناً كان المنصب يأتي علي سبيل المكافأة لشخص وليس لإصلاح حال المؤسسة، بل فقط ليتربح الشخص منها، وتكملة لروح"الأبهة" ينزل هذا الشخص ويمارس عمله وتملأ صوره الجرائد، وهو أصلاً لا يتحرك إلا لمصالحه الشخصية. نحن نحتاج لإعادة التربية الوطنية الحقيقية، نحتاج لجامعة حرة مستقلة، لتكون عندنا خميرة أو أجيال جديدة إذا وضعت في أي منصب تحميه وتحمي مصلحة الوطن، وأن يكون شاغل المنصب لديه كرامة واعتزاز بالنفس ولا يكون دنيئاً يقبل رشوة من أي "صايع" أو منحرف. أنت لست مع مجانية التعليم؟ بل معها بالتأكيد لكن بشرط أن تكون مصحوبة بتربية حقيقية للطالب فتعليم بدون تربية هو الكارثة، فالتربية هي التي تهذب ما بالشخص من نقص وسوء، وإلا سيكون علمه أداة ليزداد انحرافاً، فلابد من أن تحرص وزارة التعليم علي التربية أيضا حرصها علي التعليم. ما معني كلمة "إسطاسية"؟ هو اسم امرأة في المجتمع المصري، وصديقي عم أحمد السماك كانت في قريتهم امرأة اسمها إسطاسية، وهناك أخري في الفيوم، هو اسم مصري موجود في المجتمع، لكن أنا عندما كتبت هذه لرواية استلهمتها من اسم امرأة قبطية في بلدنا، كانت أرملة وقتل ابنها والقاتل طلع براءة، فكانت تلجأ لله لينتقم لها من الظالمين، وعندما كتبت الرواية لم أهتم بمعرفة الاسم علي أساس أن ما جذبني هو غرابته وجرسه الموسيقي، الرواية قرأها أحد القراء وأرسل إلي صحيفة أظنها الشروق وقال إن معناها بالقبطية القديمة صديقة الرب فكأنني كنت علي علم بالمعني لأن أسطاسية في الرواية تبدو صديقة للرب. قلت: "لأني واحد من المهمشين أحمل صليبهم أعلي صدري، من نسميهم بالمهمشين هم الشعب المصري". أنت تقترب من إنسانية البشر مسلمين ومسيحيين والذي يجمعهم هذا الوطن، فكيف تري العلاقة الحقيقية بينهم وأؤكد علي الحقيقية؟ أنا اعتقد اعتقادا جازما بأن هناك فتنة طائفية في مصر وهي بدأت مع الاحتلال الإنجليزي وهذا مسجل ومثبت في "رباعية الإسكندرية" للورانس داريل، صور فيها هذا، وهي طريقة فرق تسد، وهذه طريقة عمل الاحتلال من خلالها إلي التفرقة بين المسلمين والأقباط ليستفيد من هذا التناقض بينهم فيدعي أنه مع أحدهم أو يحمي هؤلاء، فكان يذهب إلي الأقباط ويقول: إن المسلمين يحتقرونكم وسيبيدونكم، ويذهب إلي المسلمين ويقول: إن الأقباط يخزنون الأسلحة وهم ضد الإسلام إلي آخره، فخلقوا هذه الفتنة علي مستوي أصبح شعبيا لتحدث تطورات كل بضعة أعوام، لكن التطور الخطير للفتنة الطائفية حدث بعد قيام الجماعات الإسلامية المتطرفة وخصوصا الوهابية الذين ينحصر الإسلام في أنظارهم في مجموعة من العبادات، هؤلاء هم أصلا ضد الدنيا وهم غير مرحبين بالحياة الدنيا ويعتقدون أن عملهم ينبغي للحياة الآخرة فقط، وبالتالي الحياة بالنسبة لهم مغلقة وهذا أخطر ما فيهم، هؤلاء فعلا ضد المسيحيين وضد المسلمين. وأنا أضع يدي علي قلبي فلن تنجح الثورة إذا بقيت هذه الفتنة تطل برأسها وهي تحتاج حكمة فائقة، فلو استخدمنا قوة السلاح ستحدث مذابح بين الحكومة والشعب، ولو تركناها ستحدث مذابح بين المتطرفين وبين الأخوة الأقباط وهذا يحدث فعلا، وأنا متشائم جداً والثورة قد تصبح مشكوكاً في نجاحها، فالثورة أزاحت عصراً من اللصوص والسفاحين لتضعنا في عصر القتلة،فالتصريحات التي يصدرها الإخوان والسلفيون خطيرة "توجع البطن" إذا كان أنا يا مسلم وأمثالي كثيرون يركبهم القلق من هذه التصريحات فما بالك بالأقباط، نحن مقبلون علي "مدعكة" ربنا يستر علي مصر منها. ويضيف قائلاً: ما معني الثورة المضادة؟ يعني أن أثورعليك بنفس الأسلوب الذي حققت به أنت النجاح مظاهرات أتظاهر أنا كمان ضدك، لو ستقول كلاماً أقول أنا كلاماً، وأردد نفس الشعارات، بل أنام في الشارع أيضاً، ويحدث هذا كل يوم وبالتالي الاقتصاد المصري ينهار. والحل برأيك؟ أجاب بقلق بدا علي قسمات وجه كلها: أنا أعجز عن رؤية أي حل، نحن فعلا في أخطر مراحل التاريخ المصري مرحلة خطيرة جدا، وأنا لا أري أي بارقة أمل، فالخلط بين الاحتجاج والبلطجة، أنت مسموح لك بالاحتجاج، لكن عندما تذهب وتقطع السكة الحديد علي المسافرين وتعرض الناس لمخاطر وتمنع الموظفين من الذهاب لأعمالهم! فهذا لا ينفع.. هذه بلطجة، أو طلبة يتظاهرون ويعطلون الدراسة لأنهم يريدون تغيير العميد والآن وفوراً، ضاربين عرض الحائط بالقوانين والمصلحة العامة إذا فهذه بلطجة، أو بعض العمال يدخلون علي مدير الشركة ويضربونه إلي أن يموت، فهذه بلطجة بدون شك. أصبح الأمر كأنه لعبة مريرة، ولن تنتهي إلا إذا كانت الحكومة قوية ولا أقصد هنا قوة العنف، فالعنف يولد العنف أيضاً لكن قوة قادرة علي الحسم، عندما تبعث الشيخ محمد حسان يذهب إلي قنا ليحل الموضوع ومن قبلها اطفيح، لنأتي به أحسن لتولي الوزارة أو ليحكم!، هذه شواهد تجعل الشخص يشعر ليس فقط بالقهر بل بالذل أيضاً. إذا كان كل شئ سنصدر فيه المشايخ أين السياسة إذن؟ أين قوة القانون؟ وأين هيبة الدولة. المسألة ليست التفاؤل الأبله، عندما نحاكم الرئيس هذا جميل وانجاز ولم يحدث في تاريخ مصر، لكن إحنا عملنا ثورة ونحاكم بعض الرموز، لكن الثورة لم تفرز أشخاصاً يتقلدون الأمور في البلد، الثورة ليس لها فلاسفة ينظّرون لها، حتي المثقفين المؤيدين لها نشاطهم نشاط إعلامي لا يسمن ولا يغني من جوع. الثورة تحتاج لمثقفين ينزلون للشارع ويرشدون الناس ويعلمونهم ما هو معني الثورة، ويكون لهم علاقة بجميع الطوائف فهي ثورة بدون فلاسفة ولا مثقفين ولا مبدعين حقيقيين ينزلون إلي الشارع لإرشاد الناس عن معني الثورة والمطلوب منهم، وليزرعوا الروح الوطنية في كل مكان، لكن الغوغائية الآن هي التي تسود مصر وهذا أكبر خطر والغوغائية لن يستفيد منها إلا التيار السلفي وهو مدعوم باللصوص وبنشاط دول أجنبية مجاورة لا يعنيها الأمان لمصر. نحن في مأزق بين شقي رحي، انهيار الجبهة الداخلية بهذا الشكل سيؤدي إلي انهيارات مروعة في القريب العاجل، لابد وأن نري حلاً حتي لا يتحول نجاح الثورة إلي كارثة ويتحقق قول اللصوص الذين كانوا يحكموننا من أنهم هم أو الفوضي، هم صنعوا الفوضي وحكموها بشتي الطرق وخلقوا عداوات بين الحكومة والشعب، وعداوات بين الناس وبعضها وجعلوا الناس تتسول الطعام وتشرب من ماء المجاري وزراعات مسرطنة تأتي من إسرائيل، وردموا نهر النيل وتركوا منابعه تتحكم فيها إسرائيل وتحاصرنا، كل هذا جعلهم واثقين حين قالوا نحن أو الفوضي، يجب أن يكون شعارنا لا أنتم ولا الفوضي، لكن للأسف الشخص أصبح غير آمن؟ أين مصريتي؟ أين الزمن الذي كنت أمشي فيه في الشارع آمنا علي نفسي وزوجتي وابنتي في أي وقت من الليل أو النهار، أمشي في الشارع الآن كالغريب، أخاف أن يظهر لي واحد من الملتحين ويمسك بالمقرعة ويسألني هل صليت الظهر؟ وكلاء الله الذين أطلوا برؤوسهم لنري ماذا سيفعلون بنا سيكونون أبشع مما فعل مبارك ورجاله، أبشع بما لا يقاس، مصر لو استمرت هكذا لن يجد الموظفون مرتباتهم.. هل لابد أن ندفع أغلي الأثمان في سبيل الثورة؟، الثورة أغلي من ذلك ونحن فعلا نفخر بهذا الإنجاز الذي لم نحلم به، لكن وماذا بعد؟ نريد حكومة قوية، صوتا قويا "يشخط" في الناس فترتعب، نريد شرطيا محترما، احترامه نابع من سلوكه وحرصه علي تحقيق الأمن، نريد طبيبا ليس دنيئا، نريد مهندسا يعمل بالهندسة وليس بالمقاولات، نريد وزيرا إذا عجز عن فهم شئ استقال، نريد حكومة قوية وإلا ستعم الحرائق في كل مكان. هل غيرت الثورة في الشخصية المصرية أم أصبح السؤال بلا معني؟ الثورة لم تغير شيئا في الشخصية المصرية بل مازالت هي المؤثرة، وليس العكس، نريد التخلص من البصمات السيئة للشخصية المصرية. بالتوعية؟ بالثقافة والتوعية لذا الثورة تريد مثقفين حقيقيين، فالثورة تحتاج مثقفين واعين بحقيقتها وعندهم إخلاص حقيقي لتطوير مصر وتخليص الشخصية المصرية من ظلال السلبيات القديمة ومن المعتقدات الخاطئة. وما المنوط بوزارة الثقافة في المحنة الراهنة؟ وزارة الثقافة ليست مسئولة عن الثقافة ومن يفكر في عكس ذلك يكون مخطئا، فوزارة الثقافة في أي دولة ليست من مهامها الثقافة بل هي مسئولة عن التنسيق البرامجي بين المثقفين، وعمل برامج وأنشطة ثقافية، إنما الثقافة يصنعها المثقفون، وهؤلاء عجزوا عن تقديم ثقافة لأنهم كانوا مقموعين بالحديد والنار، حكومة مبارك والحزب الوطني ضربت الثقافة المصرية في مقتل، وزارة الثقافة لا نضع عليها كل تخلفنا عن الفهم والمعتقدات غير الصحيحة، دور الوزارة الحقيقي التنسيق وفتح مجالات وتسهيل النشر علي الكتاب والمفكرين والأدباء وهي تفعل هذا بالفعل. لك موقف معروف من النقاد. ما الذي ينقص النقد في مصر؟ النقد ينقصه النقاد، فهؤلاء ليسوا نقادا بل مدرس الأدب في الجامعات هؤلاء الموجودون حاليا، وكان الله في عونهم فهم يقومون بدورين في آن واحد. أما الناقد الحقيقي الذي يتفاعل مع العمل الإبداعي ويشارك المبدع، أي الناقد الذي يقوم بعمل إبداعي مواز، فهو غير موجود ، ممكن يكون هناك شاب أو مبدع هنا أو هناك لكن هؤلاء قلة شديدة الندرة، الناقد الحقيقي غير موجود يوجد فقط الدارس. رواية "وكالة عطية" بها نفس ملحمي، لماذا لم تجعل لها جزءاً ثانيا؟ لم ارغب في ذلك فموضوعها هكذا انتهي. مسلسل الوتد تلقاه الجمهور بشكل حميمي.. وعلي العكس تماما جاء مسلسل وكالة عطية، لماذا برأيك؟ وكالة عطية سقطت لأن المخرج نفسه هو كاتب السيناريو، تحدي الرواية وتحدي مؤلفها فمسخها مع إنني حذرته من أن هذه رواية شديدة الواقعية. وأسلوب الفنتازيا الذي جاء عليه المسلسل لن يصلح معها لكنه لم ينصت للنصيحة، وعاث في الرواية فسادا، أنا شخصيا لم أشاهد سوي حلقة أو حلقتين وحزنت جدا، وأحزن ممن يذكرني بها. أتعجب منك كثيرا عندما تجلس علي شاهد قبر وتكتب! من قال إن هذا يحدث. أنا رأيت صورة لك في إحدي المجلات الثقافية وأنت تفترش أوراقك علي شاهد أحد القبور وتكتب! هذه صورة "مفبركة"، أنا كنت أجلس في مكان أشبه بالقصر به مكتب فخم وكراسي وصالونات، لكن ليست دار الهلال من فبرك الصورة، أنا كنت في مكان متاخم للمقابر في حي قايتباي وهو حي سكني تماماً، والمقابر بجواره وأنا كنت أفوت عليها فقط، وينتفي وجودها بسبب طريق "السكة البيضا" المضاء ليل نهار مما يفقدك الإحساس بالمقابر. لكن هناك حكايات لك مع سكان المقابر؟ حكايات مؤلفة.. أكتبها في الروايات فقط، وإن كان هناك مقهي بالقرب من هناك أجلس عليه وأصدقائي. اللغة عندك لها ملامح خاصة ورائحة مميزة وهي لغة رصينة تجمع في إهابها زخم التراث الشعبي والرصانة. إلي أي مدي في سياق هذا التوازن تكون اللغة عندك بها قدر من المغامرة، لغة أكثر حداثية؟ هي نفسها لغة حداثية، اللغة أنا متأثر فيها بثلاث مدارس أسلوبية: إبراهيم عبد القادر المازني ، يحيي حقي، وعبد الرحمن الشرقاوي، فالثلاثة عملوا تصالحا مع العامية المصرية خاصة يحيي حقي والشرقاوي. بالإضافة لأن عندي إحساسا موروثا باللغة، لأن أسرتي كان بها أكثر من أزهري وأبي كان شاعرا يقرض الشعر، وبيتنا كان به ثلاث مكتبات، مكتبة لعمي وأخري لابن عمي والثالثة لأبي، و"المندرة" عندنا كانت مرصعة بكتب السير الشعبية: "ألف ليلة وليلة"، "تفسير الأحلام"، "مقدمة ابن خلدون"، إلي آخره. وكانت تتم مناقشات طويلة في "مندرتنا" وأنا صورت ذلك في مجموعة مقالات نشرتها في الأهرام، ومجلة الهلال، فأنا كنت أتفرج واستمع لهذه المناقشات، فتولد لدي إحساس مبكر باللغة. أتذكر أني في سن الصبا كنت جريئا في قراءة ابن خلدون والجاحظ وما إلي ذلك. وبما أني دارس للفلكلور المصري بشكل جيد، أيضا اقترابي من السير، وألف ليلة وليلة لفت نظري إلي الفلكلور والتراث الغناني والمواويل، ثم بدأت حياتي بكتابة الشعر بالفصحي والعامية وكنت شاهدا علي ميلاد حركة شعر العامية من بواكيرها الأولي مع فؤاد حداد وصلاح جاهين، وكنت أحفظ دواوين كاملة لهؤلاء بالإضافة لبيرم التونسي، والملاحم والأغاني، لذا عندي إحساس بالمفردة العامية، وأردها إلي أصلها الفصيح، فالعامية هي نفسها الفصحي لكن فاقدة للإعراب، اللغة العربية بها تفخيم في النطق وبما أن اللغة العربية واردة علينا، فالمصريون البسطاء في الأسواق وهنا وهناك ليس عندهم روح لتفخيم الحروف العربية، فأصبحت مهمتي هي وضع هذه المفردات في سياق يسمح لها بالإعراب فمن يقرأ يتصور أنني أكتب بالعامية رغم أنها فصحي، وكل كلمة عندي لها موقع من الإعراب. هناك أخرون كانوا يسيرون في هذا الدرب وإن بشكل مختلف أذكر منهم الآن توفيق الحكيم وعبد الحميد جودة السحار. لم يفعل السحار ذلك مطلقاً، ولم يكن في حياته فنانا أبدا، وإنما كان كاتبا، هناك نوعان من الكتاب، الكاتب الذي عنده أسلوب ولغة يكتب بها ما يشاء من قصص وروايات، وهناك الكاتب الفنان الحقيقي الذي يكتب بلغة فنية، لغة مجاز ولم يكن السحار من هؤلاء أمثال يوسف إدريس، يحيي حقي، عبد الرحمن الشرقاوي، والمازني. لكن هو كان يكتب باللغة الفصحي التي تبدو عامية! لغة صحفية أصلا لكن ليست لغة فنية. مناخ القرية يسيطر علي أغلب أعمالك. فقاطعني قائلا: "يا ريت"، بل أنا أعتبر نفسي مقصراً، القرية المصرية تنتظر الكثير من الكتابة، وأنا عندما أكتب عن تجربتي في المدينة كأني مغترب، لكن القرية مازال بها الكثير والكثير مما أتعشم أن يعطيني الله الصحة لأكمله. وهل هذا إحساس بالتقصير نتيجة نشأتك التي لم تعطها حقها، أم لأن فضاء القرية الإنساني لم يكتشف بعد، وهو بحاجة للنهل المستمر؟ مازالت القرية مخزناً للثقافة القومية تحتاج لقصص عديدة وروايات، القرية خميرة الثقافة المصرية القديمة، نأخذ منها قطعة صغيرة ونضعها في أي قصة جديدة فتجعلها قابلة للخبيز، القرية مازال بها الكثير جداً مما لم يكتب بعد وشخصيات مذهلة لم تكتب بعد. البعض يقول إن خيري شلبي لديه القدرة علي الإضافة وبغزارة وليس لديه الجرأة علي الحذف. ما رأيك؟ فيستمر علي انفعاله الهادئ ويقول: ليس صحيحا.. يكفي أن تعرفي أن "وكالة عطية" كانت ثلاثة آلاف صفحة، وأن "الأوباش" كتبت 40 مرة و"الشطار" 45 مرة، بمعني أن لدي 45 مسودة غير النسخة التي ذهبت للمطبعة.. في كل مرة كان يحدث اختصار لشخصيات، وهناك شخصيات ثانوية تصبح في صف البطولة، وأبطال يتحولون إلي ثانويين، من يقول مثل هذا الكلام لا دراية عنده. إلي أي مدي تتعاطف مع شخصياتك وهل تشعر أن بعضهم جزء منك؟ أتعاطف مع كل شخصياتي، ولابد من وجود معابر بيني وبينها، وأنا دوري الدخول إلي عالم الشخصية وإظهار أعماقها بقدر ما استطيع. بدأت مسرحيا.. ولكن المسرح في وضعه المتردي الراهن، ما أكبر تحد يواجهه الآن؟ وما هي السبل لينهض من جديد؟ المسرح الجيد هو الحل، فلو أن هناك نصا جيدا وإخراجا جيدا وتمثيلا جيدا.. بالتأكيد سيذهب الناس إلي المسرح، مثلما حدث مع مسرحية "قهوة سادة"، فبرغم أنهم شباب جديد إلا أن هناك ملايين ذهبت لمشاهدة العرض، فالمسرح يستطيع أن يكون البرلمان الأول. حتي في هذا العصر المختلف؟ - أشار بسبابته مؤكدا: بل في كل عصر، الذي عطل المسرح عندنا هو هجرة النجوم الكبار إلي التليفزيون، فالممثل النجم الذي يأخذ ألف جنيه في المسرح القومي، يأخذ في المسلسل الواحد مليون جنيه، فهو إذن لا يكترث للمسرح، نتيجة لقلة الأجور وضعفها وانصراف النجوم، والمسئولون الذين حلوا محل الرقابة علي النصوص، وخوفهم من النص الذي قد يعرضهم للمساءلة، فلا يكون أمامهم إلا النصوص التافهة فيقدمونها. وفي الوقت نفسه مسرح لينين الرملي له جمهور كبير، كذلك محمد صبحي رغم أنه يقدم المسرح الملتزم، كذلك عادل أمام له جمهور كبير برغم الانطباع السائد بأنه يقدم كوميديا فقط، إلا أنه كان يعرض لمشكلات الحياة اليومية، ويقدم آراءه في السياسة، فالمسرح سيظل أبد الدهر البرلمان الثقافي الحقيقي، يناقش مشكلات الشعب علي خشبة المسرح، ومن مميزاته أنه يعلم الناس الديمقراطية ومعني الحوار، فنحن نعاني من نقص في ثقافة الحوار سواء بين العامة أو المثقفين، حتي الجدل الثقافي نسميه معارك، فعندما يزدهر المسرح يعلم الناس أساليب الحوار، فالشخصيات تتحاور علي المسرح، عناصر الخير مع الشر فنتعلم كيف أن المحاورة مفيدة.. تكلم حتي أراك.. وحين أراك استطيع الرد عليك، فأنا عندما أتجادل معك أتبادل معك التأثير والتأثر فأعطيك إشارات وهذا يلهمك فتعطيني بدورك أفكارا وإشارات، فالحوار كطرفي الحبل نصنع منه عقدة جميلة لذا سمي بالجدل.. طرفان يلتقيان ويختلفان فيصنعان شيئا موضوعيا متينا.