»فؤاد حداد« معزوفة مصرية خالصة، نبتة برية استقت رحيق الحياة من خلاصة عصارة الشخصية المصرية، فجاءت شخصيته متفردة ورائدة وحاملة لقيم إنسانية رفيعة تجلت عبر إبداع جسّد كل ما هو إنساني. »حداد« هو الرائد الحقيقي لشعر العامية المصرية، وصاحب الخطوة الأولي في نقل فن الزجل من شكله التقليدي الذي بلغ ذروة تألقه علي يد »بيرم التونسي« إلي الفضاء الأرحب لثورة الشعر الجديد بما عرف بالشعر الحر في المجال »العامي« وتبعه بعد ذلك صلاح جاهين ثم عبدالرحمن الأبنودي وسيد حجاب ومجدي نجيب وعبدالرحيم منصور. ولم تكن شعرية »فؤاد حداد« منفصلة عن قضايا الواقع بل غاص بكيانه الإنساني والروحي في القضية الوطنية ودفع الثمن غالياً من حريته، سواء في العهد الملكي، أو ما بعد ثورة يوليو 2591. وقد أرّخ »فؤاد حداد« لتجربته مع سجون العهد الملكي في ديوان »أحرار وراء القضبان« والذي نشره عام 2591، والذي يقدم فيه نقداً اجتماعياً حاداً للأوضاع المتردية في مصر في نهاية عهد الملك فاروق، والذي عم فيه الفساد السياسي والاجتماعي والأخلاقي، وهذا ما يصفه »حداد« في قصيدته »أهدي قصايدي« وهي أولي قصائد الديوان حيث يقول: في مصر سوق الذمم العمر موسمها في مصر رب الشرف والنخوة مجرمها أفواهنا لو نطقت بالحق كممها وازاء هذا الوضع القاسي الذي تنمحي فيه شروط المواطنة وتغيب قيمة الإنسان، ويسيطر المحتل الغاصب بمساعدة الملك وأعوانة، في ظل ذلك كله لا يصبه أمام الشاعر إلا صرخة الحرية يطلقها في الفضاء، ومع ذلك فإنه يدفع ثمن هذه الصرخة مثله مثل باقي أبناء الشعب الذين أصبحت الحياة بالنسبة لهم سجناً كبيراً: يا معذب الجماهير يا ظالم اظلمها ومن حياة الكفاف الضيقة احرمها جموع تجدد شبابك وانت تعدمها يا معذب الجماهير يا باغي كوّمها في السجن بالجملة عمال فلاحين طلبة مجاهدين مجهدين ع البرش نيمها وسطوتك شهوتك في الخلق حكمها راكن علي جيوش غريبة بكرة نهزمها اللي ما حيلتوش مداس حيدوس علي رقبتك واللي بني صروحك هو اللي يهدمها وقد كتبت هذه القصيدة في ديسمبر 0591، وهي بالتالي- وفقاً لهذا التاريخ- تنتمي إلي ما يمكن أن يسمي بقصيدة »النبوءة« حيث حدث ما توقعه الشاعر بعد ذلك بعامين مع ثورة يوليو 2591. وفي قصيدة »السجن أوّله القنال« يتجلي صوت المقاومة من خلال صورها المختلفة في مدن القناة السويس وبورسعيد والإسماعيلية، وهي المناطق الأكثر سخونة دائماً قبل وأثناء الثورات المصرية الحديثة، وهي مدن المقاومة الرئيسية في التاريخ الحديث. مسجون وأخوك بيموت في الاسماعيلية والدم بيطارد سكك بورسعيد وفي السويس دم الصبي والصبية لعنة تلات أجيال لفظها الحفيد وفي القرين بالدم مصر الفتية قامت تكافح في الوباء الجديد أرض الوطن أرض الجهاد هيّ هيّ عاد للشباب الشيخ وغنّي للوليد وفي القصيدة نفسها يصف »حداد« أحوال السجون المصرية- آنذاك- خاصة المعتقلات السياسية التي عاني منها أصحاب التنظيمات العلنية والسرية.. قضبان ما ترحمش الضلوع قضبان كإن الفجر مشروع انتحار قضبان كإن الصبح شمسه من الدموع قضبان علي جبين النهار والنيل بعيد بعد التاميز في منظر القضبان عساكر الاحتلال في نعل سجانك أوامر الانجليز السجن أوله في القنال
وفي ديوانه »موال البرج« يكتب »فؤاد حداد« عن تجربة قاسية عاشها الشاعر في معتقلات الغرب بالفيوم وأبوزعبل والواحات في الفترة ما بين 59 91 وحتي 4691 وهي فترة اضطهاد الشيوعيين في عصر جمال عبدالناصر. والديوان مزيج من السرد والشعر، مما أعطي للكتابة حيوية وتدفقاً، كما في قصيدة »أول مايو« وفيها يؤكد الشاعر أن »المجتمع في يد الرأسماليين مجتمع يتقيأ أبناؤه يبلعهم السجن« ثم يترجم عبارته هذه شعراً: المطرقة ناحت علي السندان اتقسِّمت كتل الحديد قضبان الرأسمالي بيملك الآلة الرأسمالي بيسجن الإنسان وقد أنشد »حداد« قصيدته هذه علي جموع المساجين السياسيين في سجن الواحات الخارجة في أول مايو 3691. وفي مشهد مختلف تماماً، يصف »حداد« سجن »القرب« في قصيدة »آخر المأساة« حيث الظلمة التي تسيطر علي المكان، وشراسة الأسلاك الشائكة والقضبان: يا خارحج السجن وتقول الزمان ما أقساه أنا قلبي مجروح وقضبان الحديد مسّاه مسروق من المنظر اللي صبّحه ومسّاه
أما قصيدة »موال البرج« فهي أكثر قصائد الديوان درامية ومأساوية حيث اعتمد فيها »حداد« علي فكرة »المونولوج الداخلي« للتعبير عما يعتري نفسه من شجن عميق بعد أن قضي في معتقل البرج سنوات طويلة: أنا ساكن البرج لكن برج مش من عاج ولا يشبه الأبراج ولا فيه حمام درّاج ولا فيه من الزغاليل ولا فيه من الأزواج