السيدات والسادة أبناء مصر الأوفياء لقد قدمتم أنبل أبنائكم فداء للوطن. وضحيتم بأغلي ما لديكم طلبا للحرية والكرامة.. وها أنتم قد تحررتم من الطغاة وأسقطتم الفاسدين. لقد عاشت مصر حقبة من أسوأ ما عرفت في تاريخها. حقبة كان تجريف الوطن خلالها منهجا ومنوالا. لم يقتصر علي الثروات ولكن استهدف الروح والعقول. لقد تعمدت العصابة التي حكمت هذا البلد علي مدي ثلاثين عاما تهميش الشعب المصري وإفساده. عانيتم طويلا من إقصاء سياسي، وقمع أمني، وإهمال صحي، وعبث تعليمي، وأغرقت البلاد بفكر ديني رجعي ومتطرف، وأنتم أكثر الناس تدينا واعتدالا. لقد تراجعت مصر في محيطها السياسي كما تآكل بريق ثقافتها وتحضرها، بعدما بيعت بخسا: مرة لدولة قوية لا تعرف إلا مصالحها، ومرات لدول رجعية استهدفت طمس وتخريب كل منجزات التنوير المصري وكل رموز نهضتنا. وهأنتم تنتصرون لميلاد جديد. ميلاد يتواصل مع ماض عريق. تتبلور فيه شخصية مصر المستمدة من فجر ضميرها. لقد عانت مصر من طمس متعمد لهويتها علي مدي أربعين عاما مضت، وحار أبناء الوطن طويلا حول من يكونون وإلي من ينتمون، تشتتهم طغمة حاكمة انتمت إلي مصالحها، وتشوش عليهم جماعات رجعية مأجورة. والآن جاء الوقت الذي يعرف فيه كل مصري أنه مصري، بكل ما تحمله الكلمة من نكونات فريدة في خلطتها. دون إقصاء لأحد مكوناتها أو مزايدة. هذه الخلطة السحرية التي تشكل روحه وهويته، والمستمدة من تراث عريق امتد لآلاف السنين. فيه الفرعوني الذي أشرق بشمس التحضر لتعم العالم من هنا من وادي النيل ودلتاه، حيث صاغ الفلاح المصري إبداعاته وتأملاته وأفكاره لتظل آلاف السنين قادرة علي إبهار العالم. من هنا نشأ الإبداع الفني إلي جانب التدين والتأمل والبحث عن مغزي للعالم. وهي الأفكار التي ما زالت حاضرة في فكر ديني ومنحي أخلاقي حتي الآن. وتتوالي إبداعات المصري القبطي بروحانيته وأصالته وفنونه وهي الفترة التي نحتاج بشدة إلي إعادة الاعتبار لها، لنمسك بواحد من أهم مكونات ومكنونات الشخصية المصرية. ثم المكون الإسلامي باعتداله وحكمته، والذي مثل أحد الأوجه المشرقة للحضارة الإسلامية، علي عكس نماذج أساءت واسعملت الدين الحنيف لأغراض، وحادت به عن وسطيته ونبل مقاصده. ثم ليضيف المصري عصرا من التنوير والتقدم أكد خلاله قدراته التي تكالب عليها المتكالبون. ومع ذلك ظل التنوير والنهضة المصرييان يملآن الشرق فكرا وإبداعا لأكثر من مائتي عام. لكننا قوم لا نعيش فقط علي ماضينا رغم عراقته. ولا نجتر أمجادنا رغم عظمتها، وإنما نؤمن بأن هويتنا المصرية هي فعل متجدد في الحاضر يمد خطاه بكل جرأة ودون قيد نحو المستقبل. لقد أبدع أسلافنا وخطو وتخطو عصورهم وسبقوا أزمنتهم، فإذا بأعمالهم تصبح أمجادا وماضيا لنا نعتز به، وسوف نبدع ونصنع الطفرات ونسبق عصرنا لنترك لأبنائنا وأحفادنا ما يعتزون به ويبنون عليه. لعلكم تدركون فرادة شعبنا بين شعوب العالم وأن هذه الفرادة جاءت في المقام الأول لاعتبارات ثقافية. فمصر في وجدان العالم هي الإبداع، هي العمارة، والنحت، والرسم، هي الحكمة والدين والفكر، هي الاخلاق والقيم والإنسانية. وإنه الوقت المناسب لنتواصل مع هذه الحقيقة. وأن تمثل صورتنا وخصوصيتنا ونحن نعيد بناء الوطن. لا نريد وطنا ذا ملامح غربية رغم احترامنا لمنجزات الغرب المادية وقيمه التحررية، ولا نريد وطنا ذا ملامح إسلامية من تلك التي تصدر إلي العالم خلال العقود الأخيرة رغم إيماننا العميق بعظمة الإسلام. لكننا نريد مصر مصرية تمتزج فيها دون إقحام كل عناصر ثرائها، نريد أن نستعيد هوية قائمة علي الحرية دون قهر أو إقصاء أو كتالوجات جاهزة. نريد أن نترك الفسحة للوطن كي يستعيد ملامحه. اتركوا لأنفسكم العنان كي تبدعوا حضارتكم، واثقين بأن بداخلكم جينات حضارتكم، ستصبغ ملامح إنجازاتكم مهما حلقتم أو تفاعلتم مع غيركم. وقد كنتم دائما أرضا للتعددية والسماحة وبوتقة تستوعب الجميع وتأخذ أجمل ما لديهم لتضيفه إلي خلطتها السحرية. ولست هنا أتكلم في أمور ثقافية مجردة، فعندما نتحدث عن هويتنا فنحن نتحدث عن شكل بيوتنا ومظهر شوارعنا، عن ملابسنا وصناعاتنا. عن مأكولاتنا وأنماط علاقاتنا، عن الطريقة التي ندير بها شئوننا والقيم التي لا نحيد عنها ونحن نسعي لحل مشاكلنا. أتحدث عن فلسفة تعليمنا التي يجب أن تستهدف تشكيل إنسان مصري يعي تاريخه وثقافته وينفتح علي العالم. إنسان يصعب اختطاف عقله من الرجعيين ويصعب إغراءه ببريق تقدم شكلي أجوف. لقد صنعنا التاريخ والحضارة وسار العالم خلفنا وآن الأوان أن نستعيد زمام المبادرة. نريد أن نبدع حياتنا ممتلئين بالثقة، لا أن نقلد هذا أو ذاك. من حق كل مصري أن يأخذ الفرصة للمشاركة في بناء الوطن. لقد همشنا طويلا. لقد شاهدنا جميعا ثورة الحب لمصرنا الغالية، وشاهدنا شبابنا وهم ينظفون الشوارع ويطلون الأرصفة. من حق هؤلاء الشباب الذين يمدون ايديهم لبناء الوطن ان نسمح لهم بأن يبنون أحلامهم. هنا علي أرض الحلم القديم. الحلم بإنسانية مبدعة خيرة. من حق هؤلاء الشباب أن يكون الوطن فضاء يرسمون فيه حياتهم بالطريقة التي يريدونها. من حقهم أن يعيشوا الحياة دون شروط أو قيود. فقد دفعوا ثمن حريتهم مقدما. دفعوه حبا وتضحية وعملا. هؤلاء الشباب الذين حققوا ما لم نكن نحلم به، من حقهم أن نصدقهم وأن نسير خلفهم ليأخذوا بأيدينا إلي حلمهم. إلي وطن عادل مبدع متجدد، إلي وطن آمن ومتسامح ومتكافل ومبهج. لقد افتقدنا البهجة كثيرا وآن الأوان لنردد أغاني البهجة ونحن نعيد بناء الوطن. المهمة ليست سهلة لكنكم قادرون علي إنجازها. سنبني علي مدنا جديدة علي أسس صحيحة وسنكون مطالبين بإصلاح ما خلفته العشوائية. نعم سنكون قادرين علي ذلك. الوطن بحاجة إلي جهد كل ابن من أبنائه. إلي فكر كل إنسان يعيش علي هذه الأرض. ولا أظن من ضحوا وتحملوا ليهدموا دولة الظلم والفساد سيتوانوا عن تقديم كل غال لبناء وطن العدل والنماء. أبناء مصر الأوفياء.. لقد كنا دائما مصدر إلهام للعالم، ننشر قيم الحق والخير والجمال، وهانحن نمد أيدينا للعالم كله بالمحبة والسلام والرغبة الصادقة في التعاون. نمد أيدينا بندية لا نتنازل عنها. ونقدم المبادرات التي يتوقعها منا محيطنا العربي والإسلامي والأفريقي والمجتمع الدولي ككل. لقد جعلت أقدار الجغرافيا والتاريخ لمصر أدوارا لا يمكن أن تحيد عنها. وسوف لن نقصر في واجباتنا أو نتراجع عن مواقعنا. التزمنا وسنلتزم دائما بكل معاهداتنا واتفاقياتنا مع دول العالم. لكننا في الوقت نفسه لن نقبل لهذه التعهدات أن تكون قيدا علي دورنا. سنظل إلي جانب الحق الفلسطيني في إقامة دولته من خلال حل عادل يرضاه الفلسطينيون غير مضطرين. وسنضغط بكل قوة حتي يحرر كل شبر من الأرض العربية. وستظل في الوقت ذاته يدنا ممدودة بالسلام، فلا تعارض بين استعادة الحقوق وبين السلام. وإنما التعارض يكمن بين اغتصاب الحقوق والسلام. أيها الشعب العظيم. يحتاج اقتصادنا إلي دفعة قوية. وإنني لمتفائل بما لدي هذا الشعب من