يأتي الديوان الثالث »الحفر بيد واحدة« للشاعر المتميز »سامح محجوب« إثر »ديوان شعر مشترك« لجماعة اليقظة الأدبية (9991) وديوان »لاشيء يساوي حزن النهر« (6002) ليقدم لنا شاعراً يتمتع بحساسية فنية عالية، بما تقتضيه من بحث جمالي، وتكثيف دلالي، وتأويل رؤيوي مغاير للوجود. يتألف الديوان من ست عشرة قصيدة، يستهلها بعبارة دالة مفادها: »كن أنت فليس أعظيم منك سواك«.. متوخياً إبداعاً شعرياً يطبعه الانفصال والقطيعة التطويريان، فيحول بينه وبين التقليد والإجترار.. مقتفياً خطي السيد »جمال الدين الأفغاني« القائل: »إني لم أعرف في أئمة المذاهب شخصاً أعظم مني حتي أسلك طريقه.. مؤكداً علي حيوية الاجتهاد الفردي الحر، دون التقيد بفتوي مرجع أو اتباعي.. وهو ما يتصادي مع عنوان ديوانه »الحفر بيد واحدة« الذي يُحيل إلي قصيدة بعينها تحمل الاسم ذاته.. منطلقاً من التجربة الداخلية للأنا القادرة علي اكتشاف معني العالم، والتقاط فرادة الصورة المسكونة بالأسئلة، لترحل مع وشوشات مرتعشة تبثها تموجات الخيال.. او بتعبير »سامح محجوب« نفسه: »يارب الأفعال الناقصة المنسية /علمني لغة العينين الناعستين/ هب لي فعلاً لايقسمني اثنين/ سجاناً وضحية../ لاتأبه للمنطوق المنطوق/ لاتأبه للواقف خلفي/ الواقف خلفك في الظل/ الواقف خلفك في الظن/ أنت وهو/ كمشيمة ريح/ أن تجنح للعابر تصح/ إن تجنح للخائف تصف/ إن تجنح لل »مابين« تغن«.. وهو مسعي جمالي رامه من قبل »فلوبير« و»مالارميه« و»هنري ميشونيك« في تطلعهم إلي ذلك النبع البكر التائق الي الحياة كنداء مشتهي، متخفف من كل تعيين وتحديد.. ولعل قلق الروح الذي لايستبين ولايحتجب، هو ما يقيم وشائج غامضة او واضحة بين المرئي واللامرئي.. بين الجسد واللغة.. لذلك عد الناقد البنوي »جيرارجينيت« الفنان إذا ما تطلع إلي الفن، فإنه ينتج عملاً ليس له، وإنما هو عمل الفن.. ولعل هذا ما دفع »سامح محجوب« إلي القول: »يارب الأفعال الناقصة المنسية/ هل يغفو الظل قليلاً؟/ كيف ينام؟ وأين؟/ تعب السائل والمسئول/ أراك.. أراني/ تراك.. تراني) وبذلك يعمد الشاعر الي تقديم مالايقدم.. إلي تقديم الغياب ذاته، من أجل خلق تناغم الأضداد المنتج للجمال.. فينفتح نصه انفتاحاً يتجلي فيضاً في المعني، عبر روح غنائية تحمل طاقات وإيقاعات مدهشة، تبحثان دوماً عن شرارة وانفجار يهيئان لها سبل الولوج إلي مدائن الحلم وإشراقات المعني.. يقول في قصيدته السابقة: »يسبقني ظلي في الطرقات/ آه ياظلي، أحتاج إليك، كي يعبر بينك بيني/ أحتاج لضحكة طفل، كي أعبر شارع/ احتاج لدمعة عاشق،/ كي أمشي دون رفيق./ ما أضيعني بين فصول البرد/ بين الأرقام السرية للأسماء،/ بين الأشياء وكنه الأشياء!/ ما أضيعني لو دخل الظلُ الظل/ وأكملني! وعلي هذا النحو ، يمسي »الحفر بيد واحدة« تقصيا جينا لوجيا عن ماهية الأشياء، وتعبيراً عن الواحد المتعدد، أو الواحد الذي يؤكد التعدد، منتصلا لروحه الديونيزية في مواجهة الأبولونية التي ترمي إلي النظام، ولحواسه التي تسعي إلي تحرير الحياة من عقالها، وتجاوز الإنسان لذاته باستمرار، ليحيا بطريقة مختلفة، وبحساسية مغايرة.. (هل تسمعني..؟/ نفد الضوء، ونفق المعني/ واحتربت خطوات الجوعي/ هل تسمعني...؟/ أتحسس وجعي/ كي أتبين وجعي/ كان يطل عليَّ ويمضي/ يربت فوق جذوعي اليابسة الخرساء/ حاول حملي عني/ حاول، لكني. يا أنت../ يا أني/ ليس لدي دليل/ أني.. أني). وبذلك يؤكد »سامح محجوب« أن ذواتنا تتكاثر لاتعرف الثبات.. والذات لاتعيش وحدها، بل سرعان ماتكشف البنية الحوارية الثنائية للعيش.. غير قادرة علي الاستناد إلي يقينية مطلقة.. ألم يصرخ »فرناندو بيسوا« في كتاب اللاطمأنينة« قائلاً: »يا إلهي.. يا إلهي.. من أكون؟ كم من ذوات أنا؟ من هو أنا ؟ ما هذا الفاصل الموجود بيني وبين؟«. غير ان الديوان تشيع فيه روح روما نطيقية.. فاضت بها شاعريته البهية، تتبدي لنا في قوة الإحساس في التعبير، والموقف العام من الحياة، والرفض والسخط والمجابهة، والإيقاع الشعري. ألم ترتبط بثورة الطبقة الوسطي في فرنسا، ووصولها إلي الحكم في انجلترا في إطاحتها بالنظام الإقطاعي الغشوم حتي أن الناقد الانجليزي »ت.أ. هيوم« قال: »لو أنك سألت رجلاً من مجموعة معينة ما إذا كان يفضل الكلاسيكيين أو الرومانسيين، لاستطعت أن تستدل من ذلك علي اتجاهاته السياسية«؟ لهذا انثالت قصائد الديوان لتشكل لحظة استثنائية في البوح والإفضاء، وفي رسم هوية مفتقدة لما يمكن ان يشي به تعب شاعر، محاولاً فتح كوي جديدة للإنسان تتوسل اقتناص لحظات فرح حقيقية، تروم إعادة صياغة واقعنا بكل تدفقه وتعدده اللانهائي.. يقول في قصيدة »غواية«: »ليس حباً../ بل غواية/ ألبستني/ ظل يوم/ وتمادت في الذهول./ كان عندي/ بعض أفق/ في الزوايا/ كان عندي/ بعض صبر في الدواة./ قر نجم/ ثم نجم/ قرت بين النور/ نور/ علقتني من كلامي/ وتمادت في/ الحكاية/ ليس حباً/ بل/ غواية). وبذلك يمضي الشاعر مسلحاً بلوجوس الصمت الذي ييسر له الإنصات إلي ما لايقال عادة، وماتتقاطع فيه الدلالات والرغبات.. مستحضراً الصور الموحية، باحثاً عن الحرية المطلقة للروح، محتفظاً بطفولته الدائمة في استدعاء ثراء اليومي.. يقول في قصيدته »وردة في عروة الوقت«: »ضع وردة/ في عروة القلب/ المكابر/ وتأبط اللحظات/ وارجل المشاعر. ولموعد سرقته/. من عينيك طره/ قبلاً تطير إلي مخادعها المقادير«. بيد أن »سامح محجوب« يتمتع بلغة شعرية متماسكة.. بعيدة عن المجانية.. يستمد اشتقاقها الأصيل، من تراثناً العربي العريض، ومجازها المتجدد، مضيفاً الجديد الصحيح، إلي معجمها النضر الفريد.. علي نحو مانراه مثلاً في قصيدة »أم بسيف يبدأ النص« مهداة إلي الشاعر الكبير »محمد الشهاوي« شاعراً متفرداً إنساناً فرداً«: إلي نفسي أعود/ كما بدأت: /بدلا »إسم«« بلاختم/ بلاشارة/ نبياً كاذباً/ يبتاعكم خبزاً وناراً/ يؤجج/ ماطمرتم من سكون/ ويفصح../ حتي تنكفئ العبارة/ إلي نفسي أعود/ كما بدأت" /أراقب ظلي المصلوب/. بين مناكب الوقت/ أباغت../ من إلي وهنا نلحظ كيف تتضافر الفكرة مع الإضمار وبلاغة التقابلات والحبكة المتقاطعة، نحتاً وتركيباً وبناء دلالياً، عبر تشكيل يؤالف بين بنية التفاعيل وإنسيابها الحركي الشفيف: »وجدت القوس مددت القوس فاهرب ياصديقي/ هنا مالت علي صدري التخوم/ وخبأت السماء فتي شقيا/ سيخرج من مظاهرة/ علي كتف النجوم/ ليلثم شال من/ قتلت فتاها/ وتحت السور يغفو كالمساء«. لهذا تظل غنائية »سامح محجوب« باحثة دوماً عن كيونتها المسكونة يقلقها الوجودي، وصمتها المتكلم.. مقيماً في الأحلام قريباً من أذنه وغينيه، وبين مرايا تتقابل وتترادف لتشكل سردية تبدأ باللحظات المثيرة، وحدوسه المرتجلة إلي أعماق الذات والفضاءات لتخلق جماليتها الخاصة (أبايعكم/ أبايعني وأبدأ غربتي وحدي/ إلي نفسي أعود ولا أعود/ مسائي الطباع/ نثار وقت/ أفتش في الوجوه/ عن الحقيقة والبلاد). وبذلك يصنع الشاعر كيمائية تصهر لمحاته الفنية، وقدرته التعبيرية، وشطحاته البنائيةج، لينفتح علي مجمل الظواهر في انتقاله من الخاص إلي العام. لذلك عمد »سامح محجوب« إلي مواجهة العالم بصفاء النشيد، وبحب للحياة يلوذ بالروح وبحريتها الغافية فيها، مسكوناً بوعي متحرر، وبذاكخرة حية تسهم في تفجير اللحظة الحاضرة.. الأمر الذي قاده إلي اكتشاف علاقة الشاعر العربي الكبير »محمد درويش« بمغامرة الوجود، وسجال العلاقة بين الخطوة والطريق.. فكتب »سامح محجوب« قصيدته البديعة »علي إيقاع ضحكته يمشي« إلي »محمود درويش«.. باحثاً عن لعته التي دافعت عن ثقافتها وذاكرتها الجماعية وعناد هويته وأمله المحاصر بالقنوط والتشكيك، مدركاً ماهية الإيقاع لدي »درويش«، وتمسكه بلحظته الموسيقية.. يقول »سامح«»: »أتعبت موتك/ في الحضور وفي الغياب/ ياموغلاً في وقته/ ياخارجاً من سربه. الريح عات/ والغيوم علي المشارف/ والقصيدة/ لاتحب العابرين/ لاوقت في الأوراق / حين تغافل الساعات مشكاة الحنين/ من جرب الأسفا/ فوق مصيره/ لمتحن قامته الوعود/ ولاغيبه التراب. ثم يمضي الشاعر في اكتشاف ذوات »درويش«، وكيف تنهض قصيدته بوضع ا لزمان الصحيح في المكان الصحيح، فاضحاً تزوير عدونا الصهيوني للتاريخ ، محاولاً تشظية هويتنا الوطنية إلي هويات مبعثرة ومتنافرة.. (هل جاءكم نبأ الفتي المنسي/ في رحل النبوءة والقصيد/ يمشي علي إيقاع ضجكته/ ويسبق ظل طالعه العنيد./ لفضاء جبهته أنفساح مجرة/ ولطلة العينين ينفتح الوجود/ هو حامل المفتاح والأبواب تعرف/ دقة الأيدي القريبة. وبذلك استطاع الشاعر أن يقدم سؤال الهوية لدي »درويش«، وحرصه علي الإقامة في المستقبل، وهو يبصر مافي الزمن من تاريخ، مع احتفاظه بحريته في الحلم. لذلك أدرك »سامح محجوب« ما بين الدراما والشعر من علاقة وثيقة، عرف كيف يوظفها في دال طليق، يشكل مثيراً مركباً، وسيرة للتحرر، علي نحو ما نلمسه في قصيدته أوراد المنبطحين«، فقد لنا بذلك سردية، ومرويات تعيد تملك حاضرها تملكاً مستنيراً، وفهم طبيعة القوي المهيمنة عليه، وتلك التي تموج وتهدر تحت سطحه.. يقول في »ورد العامة«: »قل بربك: أي الصفات تريد؟/ وأي العروس يروقك/ أي العبيد تحب؟.. وأي الحسان تسرك؟/ تريد نجوع وتشبع وحدك؟/ وهبنا فعلنا.. أيقنع بطنك؟. تريد خبط اللسان؟. وهبنا فعلنا.. أينعم قهرك؟!«. وبذلك حرر سامح محجوب« صوته الخاص من أحاديته، منتقلاً إلي بوليفونية صارت تماهياً مع التعدد، ملتمساً طريقة إلي كل مايعينه علي تفتح إنسانيته..مازجاً غائبة التاريخ العام وحقيقته الفردية، عائداً إلي مصدر التساؤل ومسري الروح..