مرّت كنوع من صمت نهائي طازج، وكان الشارع كله مروراً. ولم يكن شهوانياً ساعتها. مر كثيرون. عجوز محدّبة مرت. استمال جزعها لجاذبية الأرض. انطوي ونسي أن يعتدل، والحدبة التي استقرّت تدعو للسماء بدت كما لو كانت رحم العجوز، وقد صعد إلي الظهر حاملاً طفلاً تحجّر واستقر. مرّت أردية حمراء وصفراء وخضراء، وألوان طيف تكسو أجساداً تتحرّك. مرّ شحاذ، وكان يؤلمه دوماً أن يضع شخص ما روحه علي كفه، يمدّها ويستهين. ظلّت يده ممدودة في الفراغ والزحام ولا يري جسداً تتكيء عليه. مرّ فرس فقد كبرياءه علي الاسفلت، واغتربت روح عدوه عن الحوافر. حطّ عصفور أحمق وراح ينطّ علي الرصيف، ثم طار. مرّ حمار، توقّف دون سبب تاركاً لعضوه حرية مداعبة الفراغ ما بين القوائم، وراح ينهق كأنه يضحك. رغم الزحام والضوضاء والضوء المتقاطع من أثر المرور الكثيف، إلا أنّ سلاماً مع النفس كان كاسياً، لفّه واحتواه. والعتمة في الكبد السماوي بلا نجوم. ولم يكن شهوانياً ساعتها. جميلة، لم تكن. لكنه وهو ينسحب إلي الضوء الخبيء منه، رآها بريقاً. كأحد منحوتات مختار تنبثق من الزّحام فجأة وتموج. وماء يترقرق في حناياها يصل إليه نغمات من فالس مليء بالسحب. ملامح جارحة تصارع كبرياء إغواء ينطوي علي زهو مقيم. دون دلال تمشي وبحزن أنثي تغرب، وتترك نفسها لغامض هلامي ينفلت ولا يبوح إلا لنفسه. ترك صديقه الجالس علي المقهي معه واستباح الزحام. والهلامي يتماس فيما بين أنوثة تضج بحزن مازالت، ورجل يكسوه رضا ضوء خبيء يهيم فقاعات من نور يحتويه. لم تدعه. لكنها بالهلامي أحست الرجل فيه بلشون لا يكف عن حس روعة بخر الماء في البطن، وما تحت جناحيه. وبالهلامي أحس بيتم الأنوثة في الزحام وإغواء الكبرياء المقيم. والهلامي كان لحظة ارتعشت في الزحام تدعو ما لا يدعي، ودون سابق موعد. خيط من خيوط غير مرئية ارتعش، والتفت خيوط وتلاقت عيون. حين قبلها في المواضع التي لم تخطر في بال رجل أو طافت بخيال أنثي. وهف حر أنفاسه دبيب المنابت، وارتعشا، وانتفضا، واكتملا، واحتضنا شظاياهما، واستكانا، سمعا نغمات الفالس تنزل أرضاً وترطب جسديهما. نظر في عينيها أحس أنه منحها النعيم المفتقد. نظرت. أحست أنها منحته نعمة وجوده. كان الكون من حولهما قد تلألأ حبوراً. وانطلقت آه لا تعرف لنفسها سبباً. وكان الشارع يشغي والزحام قد ابتسم في غير حزن. لكنه لم يكن شهوانياً، ولا كان فيها ما يدعو.