كل ما يشغل عبير عبد العزيز الرقة والعذوبة. هي المنشغلة بالجمال تبدأ مما انتهي منه الشعراء الآخرون هؤلاء الذين يرون ريشة الطائر أرق شيء في الحياة وشعر الماعز أنعم ما خلق الله. " كل ما يشغلني الماعز والعصافير عذوبة تحتضن كأنهما جاءا من بطن واحدة لأب وأم شفافين فمن أين الشعر والريش " من هذا المنطلق تأتي رؤية عبير الأعلي من رؤية شاعر عادي ..تلتقط مالا نراه وتصفه بدقة تجعلنا نخجل من أنفسنا مرتين الأولي عندما نتعجب ونسأل: كيف لم نر ما تراه عين هذه الراصدة؟ والمرة الثانية عندما تصدق إنها مجرد راصدة للصورة ثم تفاجأ في نهاية القصيدة بأنها تقدم لك صورة ملتقطة لما وراء الصورة. فتقف مندهشا وأنفاسك متلاحقة، تتساءل في حيرة: هل ألهث بسبب عذوبة الصورة أم صدمة الفلسفة التي تتحدث بها؟ تكتب القصيدة وكأنها تلقي درسا في الفلسفة، تفعل كل ذلك بجمل قصيرة ومفردات سهلة . " عندما دخلت الصفر وجدته فوهة مدفع حفرة ندفن بها أحيانا" من أين أتت هذه القدرة إلا من خبرة شاعرة محنكة تعلمت كيف تصفي أعمالها لتختار الأقوي والأقوي؟ من حنكة شاعر يخزن شعره حتي يختمر ليرضي عنه فيقدم الخلاصة التي تجعلنا نوقن بأنها من النوع التي لو كتبت عشرين قصيدة تنشر منها واحدة فقط. ربما هي تقوم بغلي القصائد حتي تصبح مركزة ومشبعة، بعيدة عن تعجل النشر والاستخفاف بالعمل. هكذا هي نصوصها صغيرة ومكثفة مثل ومضات برق تضيء في ليل حالك، والليل الذي أعنيه هنا هو سماء الشعر وما بها من نجوم غير كافية للإضاءة. انظر كيف تري القبيح الذي نهرب منه بأنه ربما يكون أجمل، ذلك القبيح الذي يستقبلنا بحفاوة لا يكذب، ويدخلنا في تفاصيله الدقيقة، هو بذلك يجعلنا بلهاء عندما لم نترك له الفرصة ليقدم نفسه. لا ماض لدي عبير عبد العزيز، صيغ الماضي قليلة ونادرة. الحاضر فقط والمستقبل. ربما لانشغالها برصد العالم الخفي الغيبي، والميتافيزيقي، تبحث فيما وراء الماديات، تنشغل برؤية ما وراء الرؤية، فلا وقت لديها للغوص في ذاتية الأحداث والذكريات. تلك الشاعرة الفيلسوفة تحمل بين جنباتها روح طفلة لا تخشي التجريب. تتحرك في دائرة تسجنك بها، هي دائرة المنطق الذي يأخذك للخيال ثم يعيدك للمنطق مرة أخري. بنفس الدوائر التي تكتمل في كل مرة وهي تلتحم بدائرة أخري تصنع سلسلة من القصائد الممتعة، دائرة من العقل ثم الإحساس الذي يقودك للعقل مرة أخري .. تمارس عبير اللعب وهي تكتب القصيدة لتقنعك بأنها طفلة بريئة، ثم ما تلبث أن تقتنع بنضجها عندما تراها وهي تخطط لألعابها، وتعود لتصدق بأنها طفلة مرة أخري وهي تدعوك أنت أيضا للعب فتصنع لك دائرة أخري تسقطك بها . تمارس عبير عبد العزيز لعبة الخديعة، وهي لا تستهين باللعب، فاللعب لديها يرادف الإحساس، والعمل يرادف العقل تتعمد خداعك كي تدهشك في النهاية. تفعل ذلك وهي تعلم جيدا بأنها تعطي للقارئ وجبة مشبعة، لكي يقرأ الديوان وهو يثق في قالب ومحتوي يحترم مشاعره ويحترم عقله في نفس الوقت. فلا تقدم له سهلاً خالصاً ولا معقداً يعمل العقل ويلغي الإحساس. وجبه يسير فيها العقل والإحساس في خطين متوازيين. في زهر النرد الذي لا يعود .. في القطار الذي يسير للأمام وعجلاته التي تسير للخلف. تراقب عبير بعين الطفل التي لا تترك صورة تفوتها دون أن تسجلها في خيالها، تتابع الفيلم لكي تعيد سرده من جديد.. فأين الإبداع هنا؟ إنها منطقة تفرد تلعب فيها وحدها.. تقول لنفسها سأعيد رسم الصورة وأعيد السرد ولكن بطريقة مختلفة، هي تعيد سرد الفلم بصورة عكسية فبدلا من أن نقول نحن نشبه الدبارة التي تتعري عندما ينتهي منها الخيط تقول بأن الدوبارة وهي علي وشك الإنتهاء تجعلنا نكتشف بأننا في طريقنا لعري ما، وبدلا من أن تقول لنا أن القطار يسير للأمام تخبرنا بأن عجلاته تسير للخلف. إن شغفها بالصورة شأنها شأن جميع الأطفال قد يوضح لنا سبب اختيارها لصور الفلم ويوضح لنا لماذا كان الفلم كرتونيا بالذات. لمن يمتلك روح طفل ... لمن يدرك أهمية التكامل في الرؤية لنصنع دوائر مكتملة من الأحلام والحقيقة، من العقل والإحساس، لهؤلاء فقط تكتب عبير عبد العزيز. لهؤلاء وضعت صور الديوان كخلفية للقصائد مثل الموسيقي التصويرية للأفلام التي لا ينقص الفلم بنقصانها ولكنه يزيد بها ... هي صور تعكس ما تمارسه عبير داخل القصائد من لعب، وتعلق، وسقوط، وقفز، من تمازج لدوائر تبدو وكأنها غير منطقية لنوعين من الوجود: الوجود الإنساني الذي يمثل الحقيقة والفلسفة في القصائد، والوجود الأشيائي (الكرتون) الذي يمثل الصور في القصيدة. بقي أن أجد مكانا للمشنقة التي نصبتها عبير في العنوان وهذا ما فشلت به. فالديوان بأكمله بما فيه من صور وقصائد خالية تماما من الشنق. وهذا ما جعلني أتساءل لماذا شنقت عبير عبد العزيز قصائدها التي تركتها بلا قيد حتي أنها لم تعنون لها داخل الديوان؟ ربما لا يستطيع العنوان أن يستوعب ما تريد قوله في القصيدة، وربما لا يمكنه أن يحتويها، وربما سيسجنها في قفص لا تحبه حتي لو كان من ذهب. ينبغي للقصيدة أن تكون حرة ومحلقة، أن تقدم نفسها بحياد دون رشوة عناوين قد تكون زائفة أو مغلوطة، وهذا ما حدث لعبير عبد العزيز عندما اختارت عنوانا للديوان تقدم به قصائدها " مشنقة الفيلم كرتون". الكتاب: مشنقة لفيلم كرتون المؤلف: عبير عبد العزيز الناشر: شرقيات