لن تنسي أبدا أول لقاء العينين.. نفذت نظراته الي أعمق أعماقها.. لم تخفق عينيها.. بل بعثت بدورها بنظرات لم تعهدها طوال سنواتها العشرين.. أرادت ايصال رسالة.. أحبك.. أحبك بجنون رغم أنه أول لقاء.. هل بادرت هي باعلان الحب أم انها كانت ترد علي رسالته؟.. لاتدري.. ولايهم.. الأهم ان عيونهما قالت ما احتوته آلاف القصائد وقصص الحب منذ عرف الانسان ان دقة القلب لغة خاصة بين رجل وامرأة.. لم تشعر ابدا قبل هذا اللقاء بأنها امرأة- خافت ان ينتهي هكذا اللقاء- فقط نظرات- لا كلمة.. ولا حتي ابتسامة.. وكأنه قرأ الخوف.. سألها.. ما اسمك.. سارعت بالنطق وكأنها تتشبث بالقشة التي انقذتها من الغرق في بحر اليأس.. أو الخوف من ألا يكون للقاء العيون ما بعده.. همست: ليلي.. وانت ما اسمك.. خفق قلبها علي رنين جرس صوته: عمر.. ابتسم.. ابتسمت.. مد يده يصافحها.. خطت ذات الخطوة.. تطلع اليها بشوق.. »تجي نقعد نشرب شاي في الكافيتريا؟ رحبت بايماءة من رأسها وقلبها يخفق بجنون واللون الأحمر يكسو قسماتها- لاتدري كم ساعة بقيا معا، اتفقا علي ان يزور والدها.. انتقلت الي عش الزوجية بعد اسابيع من زيارة الوالد- كان زواجها حديث المدينة الصغيرة- كأنه برق خاطف.. لم يسمع احد بخطبة- فوجئوا بالعرس- ضرب البعض اخماسا في اسداس- انتظر اخرون »انجلاء« سبب السرعة.. خاب أمل استنتاجات النميمة.. عاشت معه في جنة من الأحلام التي تتحقق تباعا.. طلب منها استكمال دراستها الجامعية التي تركتها.. رحبت ولكنها غيرت الكلية.. فهي تحب الفلسفة لكنها لاتهوي التعمق فيها. وهي تحب الأدب ولكن ليس كدراسة.. فالأدب قمة المتعة والاستمتاع.لاتدري لماذا اختارت كلية الحقوق. اشتهرت كواحدة من ابرز محامي القضايا الجنائية. كان يداعبها بانها ضلت طريقها كمؤلفة روايات بوليسية.. اكتملت السعادة ببنت وولد. وهي تتابع صعوده في سماء صاحبة الجلالة. اصبح قلمه علامة مسجلة. كثيرا ما تقول له: مقالك النهاردة هايل. اتعلمت منه حاجات كتير.. يضمها بحنان الي صدره.. تتعلق به وكأنها تستمد من دفئه طاقة بحجم الدنيا.. خنقت ازيز الغيرة الذي كان يكاد يطيح بقلبها ويقلع به من بين ضلوعها.. تري ان اية امرأة لابد واقعة في غرامة.. تعايشت مع الغيرة »المخنوقة« وذابت فيه وكأنهما باتا كيانا واحدا.. اصاب حبهما النظريات كلها في مقتل.. لم تخفت جذوته بمرور السنين.. لم يدخل في غياهب الروتين. تستقبله كل يوم بلهفة اكبر وشوق اكثر حرارة.. تنسي في حفنة ارهاق العمل وتعب الأبناء.. وغدر الأصدقاء.. احيانا.. سارت بهما سفينة الحياة متحدية كل الأمواج والأعاصير.. وفجأة.. رحل.. تناثرت اشلاء روحها- انهكت خلايا مخها وهي تسألها.. يعني ايه مات؟.. عاشت لحظات أقرب الي الجنون وهي ترفض واقع العدم.. مات.. لم يعد بجوارها.. خلا مقعده المفضل للقراءة.. لاتستطيع التعود علي عدم اعداد فنجان قهوته.. اصم اذانها غياب ضحكاته المجلجلة.. الطفولية.. كم تحبها.. يا الهي.. عليها ان تقول الان كم »كانت« تحبها.. اصبح فعل »كان« ملازما لاي حديث عنه.. اعياها غيابه وتشققت مسامها شوقا الي لمسة حنان من يده او ضغطة ذراع تضمها اليه.. قبلة خاطفة تغتسل بها من قسوة الحياة.. مات.. تطن الكلمة مطارق في اذنيها: يعني ايه.. مات؟!.. وكأن غلالة سميكة نزلت علي عينيها.. بدا الكون بأسي ضبابيا.. لايقين.. اليقين الوحيد.. كان.. قالوا بعد قصة الحب المدوية.. الحب يبدأ كبيرا.. ثم يهدأ.. وقد يصغر.. او حتي يبرد.. افشل حبهما »النظرية«.. قالوا بعد رحيله.. الحزن يبدأ كبيرا ثم يضمر.. كذب.. فحزنها يكبر كل يوم.. بل.. كل ساعة.. افتقدت حوارهما معا.. حول كل صغيرة وكبيرة.. فشلت في التعود علي غياب المناقشات.. الحادة احيانا.. وانتهت كلها بقبلة عميقة تروي قلبها بالشهد.. لكن اليوم داخلها يقين بان حزنها عاد الي »فتوة«.. يوم الرحيل.. نزل عليها الخبر كالصاعقة من تصفيات بالجملة لأكبر المصانع التي اعتبرتها معه فخرا وطنيا.. وكأن هذه القلاع تنهار فوق رأسها.. تهد كيانها كله.. وهو ليس هنا ليخفف عنها.. ولو بمشاركتها اللوعة والشعور بالقهر.. سالت دموعها غزيرة.. غاصت الفرحة التي صاحبت.. خطوة خطوة.. اقامة هذه المصانع.. داهمها كابوس مصير عمالها.. اظلمت الدنيا في عينيها. تقافزت في خلايا المخ متاجر الوجبات السريعة التي انتشرت مثل سرطان لا قبل لاحد به. هرعت نحو صورته تستنجد به. هالتها دموعه تتساقط نزيفا متواصلا. قرأت في عينيه فزعا مخيفا. السد العالي معروض في المزاد رصدت ذبول جسدها الذي اشتد هزاله.. كان وحده يرويه بلمسة حنان. ادركت انها لن تقوي علي النوم هذه الليلة ازداد الضباب عتمة ووحشة ووحشية.. طنين العدم يمزق احشاءها.. تطلعت الي زجاجة دواء فوق منضدة صغيرة.. ابتسمت في إعياء.. لمجرد فكرة لقائه!!