تعرض د. رضوي أسامة علي الغلاف الداخلي لكتابها حيرتها في الاستقرار علي طريق ما بين الطب والصحافة والفن للتعبير عن العالم ، لكنها تحسم اختيارها بقولها : " لكني في الحقيقة تلك البنت الصغيرة التي تجلس مستندة بركبتها علي المكتب وتكتب قصصا قصيرة " . هكذا ، من أجل الأدب ، تهجر رضوي أسامة كل الطرق بما في ذلك الطب النفسي مهنتها . الكتاب صادر عن دار ملامح ، ويضم سبع وعشرين قصة قصيرة، بعضها قصيرة جدا، اختارت له رضوي اسم " جردل وصابون سايل" علي طريقة الأسماء التي شاعت مؤخرا بسبب أو بفضل المزج بين الصحافة والأدب . ورضوي أسامة معالجة نفسية ، تهجر الطب إلي الأدب كما فعل من قبل أدباء أطباء معروفون مثل الشاعر العظيم د. إبراهيم ناجي الذي امتاز بروح النكتة حتي تناقل الناس نوادره ومنها أنه كان في حفل عقد قران أحد أصدقائه وبينما هو جالس مع المأذون في انتظار العريس دخل أحد الأصدقاء يقول لهم : العريس واقف بره سكران . فقال له ناجي علي الفور : هاتوه قبل ما يفوق ! هناك أيضا العظيم يوسف إدريس ، ومصطفي محمود ، ومحمد المخزنجي ، ومحمد إبراهيم طه ، وحنان الديناصوري ، وعلاء الأسناني . ولعل أشهر الأطباء الأدباء في الخارج هو أنطون تشيخوف أحد مؤسسي القصة القصيرة العظام ، وسومرست موم الذي قال في كتابه " حياتي بإيجاز" : " لست أعرف دربة للكاتب أفضل من قضاء بضع سنوات في مهنة الطب " . من الطب النفسي أخذت رضوي أسامة إلي الأدب حساسية الانصات للتفاصيل ، والسعي إلي فهم " الحالة " والتعاطف معها ، والرغبة في مداوة الجراح . بهذه الروح المحبة للعالم تكتب رضوي أسامة قصصها ، ومثل الكثيرين من أبناء جيلها فإن أعمالها تصب طاقتها في الأحداث الصغيرة جدا ، وفتافيت الوقائع ، وشذرات المشاعر ، لكن تلك الأحداث المتناهية الصغر عند رضوي تظل تنبض بحس اجتماعي واضح يرفعها إلي ما هو أعلي من التهاويم الذاتية الشخصية التي تسبح في دائرة مغلقة . وفي قصتها الجميلة " كوبري قصر النيل " التي تفتتح بها المجموعة نقرأ عدة مشاهد قصيرة كلوحات مرسومة بضربات ريشة سريعة ، مشاهد تتفاعل فيما بينها لتخلق فضاء مشتركا للحظة محددة علي كوبري قصر النيل ، لحظة تضم مرة طفلين ووالدهما المهموم بنفقات البيت ، وتضم مرة أخري عاشقين علي الكوبري ذاته ، وثالثة رجلا وحده قد يكون الوالد وقد يكون شخصا آخر ، ثم الراوية التي تظهر لأول مرة لتقول " وأسير مخلفة ورائي الكوبري ، والنيل ، والمشهد ، واللحظة " . وتترك رضوي أسامة للقارئ تركيب تلك المشاهد التي جرت فوق الكوبري منفصلة ليصنع منها بنفسه المشهد العام ، وليستخلص منها بنفسه المغزي : في المكان ذاته ، في اللحظة ذاتها ، تدور الحياة بأشكال ومصائر مختلفة ، لا يجمعها سوي أنها تجري في نهر الحياة ، لا يجمعها سوي مصادفة الخلق في ذلك المكان وذلك الزمان . هذا الشعور المأساوي بتفكك الأواصر والروابط إلي حد غياب المنطق يشيع في كل القصص الأخري ، لكنه يظل عند رضوي يتلمس صوت الواقع الاجتماعي حتي لو فقده بعد ذلك . ويتسع عالم رضوي للوسائل الجديدة في العلاقات والحب ، بدءا من الانترنت ومقاهيه ، إلي المحمول والرسائل القصيرة ، إلي كاميرا الكمبيوتر . العالم الذي لم يعرفه جيلنا الذي كان يقدس الخطابات المرسلة بالبريد مضمخة بالعطر. وفي قصتها " كاميرا " عاشقان ، اقترنا ، ثم فرقت بينهما ضرورة سفر الزوج إلي الخارج ، يتحدثان عبر كاميرا الكمبيوتر ، هي تحاول لكن لا تجرؤ أن تقول له إن عليه أن يبقي عاما آخر في الخارج لإدخار ثمن الشقة ، وهو يحاول لكن لا يجرؤ علي أن يقول لها إنه ملزم بالبقاء عاما آخر لإدخار ثمن الشقة . لا يخلو عالم اللحظات الهشة عند رضوي من ذلك الحس الاجتماعي ، والإنساني الذي يربط أعمالها بتاريخ القصة القصيرة العريق . لكن علي رضوي أسامة أن تحدد بحزم الخطوط الفاصلة بين الصحافة الأدبية ، وبين الأدب ، لتهب نفسها بالكامل لفن القصة الصعب بعد أن أظهرت في مجموعتها الأولي قدرتها وحساسيتها وموهبتها الجديرة بالاهتمام .