صاحب الفضيلة الشيخ سعد الفقى يكتب عن : الرئيس ينصف المصريين؟؟؟    تحليل سياسي شامل لبيان الرئيس عبد الفتاح السيسي كما ورد في نصه، مع تفكيك المعاني والرسائل الضمنية، وقراءة سياق البيان وتأثيراته المحتملة.    قلق إسرائيلي بعد إعلان جاهزية الجيش المصري لأي حرب    تراجع أسعار الذهب اليوم الثلاثاء 18 نوفمبر في بداية تعاملات البورصة العالمية    2.4 تريليون جنيه قيمة 1.1 مليار معاملة نفذت عبر تطبيق «إنستاباي»    وزير التموين يتوجه إلى لبنان للمشاركة في المؤتمر الاستثماري «بيروت وان»    ترامب لا يستبعد عملا عسكريا ضد فنزويلا رغم بوادر انفتاح دبلوماسي    اليوم.. بعثة المنتخب تصل القاهرة بعد المشاركة في كأس العين الدولية    أميركا تمنح حاملي تذاكر المونديال أولوية في مواعيد التأشيرات    مواعيد أهم مباريات اليوم الثلاثاء في جميع البطولات والقنوات الناقلة    رئيس منطقة بني سويف عن أزمة ناشئي بيراميدز: قيد اللاعبين مسؤولية الأندية وليس لي علاقة    ترامب: احتمال استبعاد كاليفورنيا من استضافة مباريات المونديال وارد    الطقس اليوم.. ارتفاع تدريجي بالحرارة وشبورة صباحية والصغرى في القاهرة 17 درجة    اليوم.. نظر محاكمة 70 متهما بخلية اللجان الإدارية    اليوم.. الحكم على إبراهيم سعيد في قضية سداد متجمد نفقة طليقته    حالة الطرق في القاهرة الكبرى، زحام مروري متقطع على الطرق والمحاور الرئيسية    رانيا فريد شوقي: «دولة التلاوة» يعيد الروح للمدرسة المصرية    في لحظة واحدة، أشهر فنانتين توأمتين في ألمانيا تتخلصان من حياتهما بعد كتابة وصيتهما    المستشار حامد شعبان سليم يكتب عن : استقيموا يرحمكم الله !?    عندما يتحدث في أمر الأمة من لم يجفّ الحليب عن شفتيه ..بقلم/ حمزة الشوابكة    دراسة: أمراض الكلى المزمنة تاسع أبرز سبب للوفاة على مستوى العالم    دراسة: زيادة معدلات الإصابة بارتفاع ضغط الدم لدى الأطفال والمراهقين بواقع الضعف خلال العقدين الماضيين    ترامب: العالم كان يسخر من أمريكا في عهد بايدن لكن الاحترام عاد الآن    مواقيت الصلاه اليوم الثلاثاء 18 نوفمبر 2025 فى المنيا    ترامب لا يستبعد إرسال قوات إلى فنزويلا.. ومادورو: مستعد للحوار وجها لوجه    مصرع وإصابة 3 أشخاص فى حادث تصادم بالمنوفية    وزير الزراعة: خفضنا أسعار البنجر لإنقاذ الفلاحين من كارثة.. وأي تلاعب بالأسمدة سيحول للنيابة    موضوع بيراوده منذ 3 أيام، كامل الوزير يكشف كواليس ما قبل بيان السيسي بشأن الانتخابات (فيديو)    حبس المتهم بالتعدي على مسنة بالعجوزة    دون مساعدات مالية، صندوق النقد الدولي يطلق "برنامج تعاون مكثفا" مع سوريا    ورشة عمل لخبراء "سيشيلد" تكشف عن نماذج متقدمة للهجمات السيبرانية    حازم الشناوي: بدأت من الإذاعة المدرسية ووالدي أول من اكتشف صوتي    فاروق جعفر: أتمنى أن يستعين حلمي طولان باللاعبين صغار السن في كأس العرب    تعرف على المنتخبات المتوّجة بلقب كأس العالم منذ انطلاقه عام 1930    السيطرة على حريق داخل مستودع بوتاجاز في أبيس بالإسكندرية دون إصابات    وزارة الداخلية: فيديو شخص مع فرد الشرطة مفبرك وسبق تداوله في 2022    روسيا تنتقد قرار مجلس الأمن بشأن غزة    الهيئة الوطنية للانتخابات تُعلن اليوم نتائج الجولة الأولى لانتخابات مجلس النواب 2025    إثيوبيا تؤكد تسجيل 3 وفيات بفيروس ماربورج النزفي    عادل عقل ل حسام حسن: ركز في أمم افريقيا 2025 ولا تنظر للمنتقدين    عاجل – حماس: تكليف القوة الدولية بنزع سلاح المقاومة يفقدها الحياد ويحوّلها لطرف في الصراع    "هواوي كلاود" و"نايس دير" توقعان عقد شراكة استراتيجية لدعم التحول الرقمي في قطاعي التكنولوجيا الصحية والتأمين في مصر    اتجاه لإعادة مسرحية الانتخابات لمضاعفة الغلة .. السيسي يُكذّب الداخلية ويؤكد على التزوير والرشاوى ؟!    شبيبة القبائل: الأهلي وبيراميدز وصن داونز الأوفر حظا للتتويج بدوري أفريقيا    قتلوه في ذكرى ميلاده ال20: تصفية الطالب مصطفى النجار و"الداخلية"تزعم " أنه عنصر شديد الخطورة"    شاهين يصنع الحلم.. والنبوي يخلده.. قراءة جديدة في "المهاجر"    شاهد.. برومو جديد ل ميد تيرم قبل عرضه على ON    صدور ديوان "طيور الغياب" للشاعر رجب الصاوي ضمن أحدث إصدارات المجلس الأعلى للثقافة    عاجل – مجلس الأمن الدولي يقر مشروع القرار الأمريكي حول غزة ويسمح بنشر قوة دولية لمرحلة ما بعد الحرب    التأهل والثأر.. ألمانيا إلى كأس العالم بسداسية في مرمى سلوفاكيا    فلسطين.. مستعمرون يطلقون الرصاص على أطراف بلدة سنجل    الكنيسة الإنجيلية اللوثرية بالأردن تستقبل وفدًا من قادة كنائس أمريكا اللاتينية والولايات المتحدة    رئيس حي شرق شبرا الخيمة بعد نقل مكتبه بالشارع: أفضل التواجد الميداني    الصحة ل ستوديو إكسترا: تنظيم المسئولية الطبية يخلق بيئة آمنة للفريق الصحي    مستشفى الشروق المركزي ينجح في عمليتين دقيقتين لإنقاذ مريض وفتاة من الإصابة والعجز    أفضل أطعمة لمحاربة الأنيميا والوقاية منها وبدون مكملات    دار الإفتاء: فوائد البنوك "حلال" ولا علاقة بها بالربا    لكل من يحرص على المواظبة على أداء صلاة الفجر.. إليك بعض النصائح    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



عن حجر لا اسم له:
استنطاق بؤر الجنون والخراب
نشر في أخبار الأدب يوم 06 - 11 - 2010

"حجر السرائر"، عنوان حكَّاك، يستنفر الذهن، فيما ينطوي عليه من جاذبية السِّر الكامن في العبارة. حيث ليس للمعني المعجمي أن يفكّ اللغز ويفي بالغاية. فلا الحجر كنية الرَّمل، ولا هو الصخرة، علي ما يفسر لسان العرب، ولا السرائر (جمع سريرة) مكان الأسرار المنكشفة علي أصحابها، المكتومة عن الغير، بالمعني الذي يحصرها بعمل السرّ من خير أو شرّ، بحسب المعجم أيضاً. فللسرائر في ارتباطها بالحجر أن تقوم مقام القمقم المختوم، المحتبس علي تجاذب مقلق بين الرغبة والخوف، أو الإقدام والإحجام، يوقع الكائن المتوجِّس في التيه، ويُبقيه علي مسافة مما يدرك من سريرته. ما يُحفّز علي الغوص في دلالة الارتباط، لا في معناه وحسب. لذا، يمسك العنوان الذي اختاره نبيل سليمان لروايته الجديدة، بأنفاسنا منذ البداية، يحرِّضنا علي القراءة إلي أن نوغل في السرد ونعرف، أنَّ الحجر النادر الذي لا اسم له، واحد من الأحجار الكريمة، فلا هو حجر الدَّم ولا حجر القمر، أو العقاب، أو البهت، أو الحيَّة، أو سوي ذلك من أسماء الأحجار الكريمة الأخري.
يُقال إنَّ لكلِّ مولودٍ حجراً مرصوداً له منها "إذا اقتناه فسيجلب له الحظّ والثروة" كذلك نعرف أن لعائلة الكهرمان (من حجر الكهرمان استمدَّت العائلة اسمها) كنزاً ثميناً من مجموع تلك الجواهر الكريمة، يوزِّعه كبير العائلة المحامي الدكتور عبد الواسع الكهرمان مناصفةً بين ابنتيّ شقيقه الشهيد المغدور رمزي الكهرمان): ابتهال، ونديدا التي يخصّها العمّ بالحجر النادر تتقلَّدهُ مذّاك عقداً لا يفارق عنقها، يراودها، بين حين وآخر، علي اختيار اسم له، فتتحفَّز وتتفكَّر وتستمهل ثم تنسي. وفيما يستمر اللغز محجوراً في استغلاق الدلالة علي القاريء اللاهث خلف السرد الممتع، الممعن في لعبة الاستدراج والمراوغة، تتوالي الأحداث وتتنامي مشحونة بالمفاجآت والمستجدَّات علي ايقاع انقلابات عسكرية ثلاثة (يقودها حسني الزعيم وسامي الحناوي وأديب الشيشكلي). تنقلب معها الأحوال، فيما يمسّ بالمصائر والمآلات علي المستوي الخاص والعام في آن، بحيث يتكشّف من مسري الأسرار ما يُمهِّد لاكتمال الخيوط مع اكتمال النص في الصفحة الأخيرة حين تمسك نديداً بعقدها، تناشده أن يُنجيها من العثرة ويُنجدها من الغرق، فيجعل الحجر لها من الأمواج محملاً ويتمتم: بسم الله مجراها ومسراها، ثم يناشدها أن تسميه فتقرّبه من شفتيها وتتمتم: أنت حجر السرائر. علي ذلك ينفك الختم وينعتق السرُّ وتمضي نديدا إلي رغبتها بنفس راضية ومطمئنة. وفي ذلك، تجعل الرواية من الحبِّ قطباً مضيئاً، وخلاصاً فردياً، يستنقذ الكائن من بلاء العيش في جحيم عموميِّ تؤجِّجه الخصومات القاتلة والصراعات العمياء المحيقة بالوطن.
جحيم الواقع ضرورة ملهمة
وفي انشغال الرواية باستنباش الدواخل للإمساك بعمق النفس البشرية، ليس لحجر السرائر أن يكون منتهي الغاية، بمعزل عن كونه ذريعة للنفاذ إلي عالم الأشياء الواقعية، يصعب علي الكتابة الروائية تجاهله، بما هو واقع إنساني حقيقي وملهم، حتي في بشاعاته ومفاسده وشروره وتناقضاته، يدخل السرد في آتونها مستنطقاً بؤر الجنون والخراب والأعطاب، مفككاً خلفية الصراعات المعلنة والخفيّة، علي المستويات السياسية والحزبيَّة والعقائدية والفقهيَّة والدينيَّة والاجتماعية، مستطلعاً في الآن عينه الساحة الثقافية والحقوقية والقانونية الدستورية والصحفية. مستعيناً علي ذلك بذاكرة تسجيليَّة مؤرشفة تحيط بمرحلة صعبة شهدها التاريخ السوري المعاصر منذ الاستقلال وجلاء المستعمر الفرنسي، مروراً بموجة الانقلابات العسكرية وما رافقها من سلسلة الاغتيالات
السياسية المقنَّعة بأكثر من وجه، جميعها مفتوح علي المزيد من التنازع السلطوي، ما ينذر باستفحال الوباء الانقلابي والإمعان في هيمنة الحكم العسكري، وفي نهج تحويل الهزائم إلي انتصارات موهومة كما حدث في نكبة فلسطين، ما يُهدِّد ببقاء الوطن مهزوماً ورهينة في قبضة جنرالات تتحكم بهم شهوة السلطة، ويجتمع لهم لقب واحد سييءٌ السمعة. ف"شلِّيطا" لفظ مذموم يشير في اللغة السريانية إلي صفة الحمق والظلم المشتركة بين الرئيس الأول والثاني والثالث والرابع ربما.. اللَّهم إلا إذا تغيَّرت النفوس، وليس لنا أن ننسي شخصية شلّيطا في رواية نبيل سليمان السابقة (دلعون)
وإذ تتوكَّأ الرواية سجلات الذاكرة الموثّقة بالوقائع والأحداث المثبتة، فليس لتتورَّط في خطاب إيديولوجي مباشر، ولا في استعادة مجانية للواقع السياسي العسكري الانقلابي السائد آنذاك. ولا انزلاقاً منها إلي محاكمة طرف دون آخر. أو محاصرة جهة والعفو عن أخري. فالجميع في سياق السرد الذكيّ معنيون، وفي موقع المساءلة والمسئولية عما آلت أو ستئول إليه الأمور في وطن مُهدَّد علي خلفية صراع عربي اسرائيلي، يستهين به المتنازعون، المتخاصمون سياسياً، ويدير له الظهر أصحاب الشهوات القاتلة. ثم إنَّ في التورط الذي يفرضه حضور الوقائع الحقيقية ما يتيح للرواية استثمار حيثياتها للدخول الكامل في مستنقع الجنون المتحكّم بمطامع النفس البشرية والكشف عن جوهرها الحقيقي، من منطلق أن للفن الروائي تحديداً، في التزامه بالكشف والتعرية، أن يتورَّط واقعياً، ولو استدعي ذلك استرجاع أرشيف التاريخ الملوَّث بالفظاعات. إلي ذلك تستحضر الرواية التاريخ المعاصر لا لتعيد كتابته أو تصوِّب وجهته، فالتاريخ علي ما يقول نبيل سليمان، قد يشكّل مادة روائية، لكنه يحتاج في إعادة كتابته أو تصويب مساره ما يفوق مستطاع فنّ الرواية بكثير. وفي المقابل، يطمح نبيل سليمان، في ما تغترفه الرواية من الوقائع والأحداث إلي الكشف عمَّا يخفيه الواقع الإنساني أحياناً من غني مدهش يجاوز في غرابته حدود الخيال المجنح وقدرته
علي الإدهاش، بالمعني الذي يصيِّر السجّل التاريخي، أو الأرشيف الواقعي أو الذاكرة التسجيليَّة وسيلة لا غاية بذاتها.
وفي هذا المنحني، تستلهم رواية "حجر السرائر" من الواقع، قصة امرأة سورية قتلت زوجها الشاب، فحُكمت بالاعدام وأمضت في السجن زهاء عقدين من الزمن قبل أن تستصدر الرئاسة حكماً بالعفو عنها، وفي خطوطها العامة لا تختلف كثيراً قصة امرأة الواقع عن قصة درَّة حفظي في الرواية، تُشعل حيثياتها الأولي فتيل السرد، مذ توسوس درة لابن عمها وعشيقها خطيب حفظي بالتخلص من زوجها الأفوكاتو، رمزي الكهرمان الشهير بأبو الدستور، الذي يلفظ أنفاسه الأخيرة مسموماً بالستركينين، في مزرعة أخيه الأكبر والوحيد الدكتور عبد الواسع الكهرمان الذي يتعهّد وزوجته (الست افتخار) تربية طفلتي شقيقه الشهيد المغدور، نديدا الذكيّة، المتمردة، العنيدة والجريئة التي تختار مهنة المحاماة إسوة بأبيها، وبتوجيه من عمها، ثم تتزوج من رباح أبو شلة، الصحافي البارع، وتُرزق منه بطفل يحمل اسم أبيها قبل أن ينتهي زواجهما بالطلاق، الذي يتقبَّله رباح العاشق الأبدي الغيور علي مضض، ويُبقي علي رهان العودة عنه قائماً، فيما لا تخطر العودة لنديدا إلا في ساعة إشفاق أو يأس وغضب يغالبها فتغلبه وتنتصر، وترحب بها الأوساط الحقوقية، فتُقبل علي عملها وتنشط ضمن لجنة متخصّصة تعني بنقاش قانوني ودستوري. وفي غمرة ذلك تتأرجح عاطفياً فيشدُّها شغف جارف إلي الكومندان بدر الدين أتماز، سرعان ما تنطفيء جذوته وتخبو من جانبها، لتنصرف إلي علاقة حب حقيقي توقعها في صراع بين الرغبة والخوف من اتخاذ قرار حاسم بالزواج من غزال حاج تميم التاجر الخمسيني العاشق، والقريب الصديق للمقدَّم سنان عبد المنعم، زوج أختها ابتهال التي انقطعت قسراً بعد زواجها عن زيارة أمها في السجن، لكنها ظلت تناقش في ضرورة الرحمة والمغفرة والنسيان شقيقتها نديدا الحاقدة المتنصّلة من أي صلة قربي بالأم القاتلة القابعة في السجن منذ انكشاف الجريمة، وهذه الجريمة يُصر العمُّ المحامي عبد الواسع علي تصنيفها ضمن جرائم الاغتيال السياسي التي أودت بحياة عدد من قادة الكفاح السياسي ضدَّ الاستعمار الفرنسي، ما يوفِّر للرواية أحد مسوغات الخوض في موضوع التعديلات القانونية والدستورية، من منطلق ارتباط الجريمة بخطيب حفظي الذي يحمل الجنسية الفرنسيَّة، استقوي بها ليبعث من حيث يمضي في السجن سنوات ضاع عددها، برسالة إلي السفارة الفرنسية، هي أقرب إلي بيان سياسي تحريضي يعترف فيها بالجريمة دفاعاً عن فرنسا، وفي وجه كلّ من يعاديها من أمثال رمزي الكهرمان أو سواه.
لعبة المصائر
درة حفظي التي أمضت في السجن خمسة عشر عاماً، قبل أن تُدبَّر لها الصدفة الروائية لقاءً قدرياً بسجين كبير الشان - حسني الزعيم). في مكتب مدير السجن (مرقص العميا) الذي يحمل إليها لاحقاً بشارة العفو الخاص المستصدر علي قياسها، تماماً كما وعدها حسني الزعيم (شليطا الأول) قبل ذلك بخمسة أعوام: "اسمعي يا درَّة حفظي، عندما أحكم سوريا. سأعفو عنكِ. أقسم بشرفي العسكري"، وذلك عرفاناً منه بجميل خصَّته به درةّ المرأة الحلوة، اللطيفة، والضعيفة التي اهتمت طوال إقامته في السجن بغسل ثيابه وتعطيرها، وتمادت، فدسَّت في يده ذات يوم، حجر الكهرمان الثمين، انتزعت حبَّته من بين حبَّات عقدها ليكون حرزاً يجلب له الحظَّ ويبلغه ما يشتهي. وعلي ذلك، يؤوب أبطال الرواية إلي مصائرهم. بعضها يبقي مشرعاً علي المجهول، وبعضها يؤول إلي خواتمه. فتختار نديدا زواج الحب العاقل من غزال. ما يضع رباح أبو شلة في مهبّ الزواج المحتمل من شقيقة غزال أو من غيرها. وتفرُّ درَّة حفظي، بعد مقتل حسني الزعيم إلي مرسيليا، لتقيم في منزل عشيقها خطيب حفظي بانتظار عودته من سوريا ليتابعا معاً علاقة ربما تنتهي بالزواج، فيما يبقي مصير الضابط بدر الدين أثماز الذي لم يكفَّ عن ملاحقة نديدا، رهن تقلُّبات تزجُّ به في
سجن المزة متهماً مرة، وحيناً تبرئه من كل التهم ليستردَّ نفوذاً يطمح أن يوصله يوماً ما إلي سدَّة الرئاسة. أما سنان عبد المنعم العسكري الملتزم بعقيدة الحزب السوري القومي الاجتماعي، فمصيره مرتبط بمآل الأمور في وطن تتصارع فيه كل القوي، ولا يستقرّ فيه الحال.
استبداد الراوي
لئن عني السرد في الرواية بحياة المهمَّشين، فلأنَّ حياة هؤلاء المبتهلين بالعناء فيما يكابدون من عيشهم، أو فيما تنذر به أو تئول إليه مصائرهم، تغري بسرد حكاياتهم، يتولاها بضمير الغائب السارد العليم، يتسلَّل إلي حميمياتهم وأحاسيسهم، وينصتُ إلي أفكارهم، راصداً تناقضاتهم ومونولوجاتهم وحواراتهم. ومسري خطواتهم الثابتة والمتعثرة علي دروب الحياة. واللافت أن السارد المحيط من ظاهر وباطن بأحوال سكان الرواية، لا يجد حرجاً في التقليل من أهمية ما ينقل علي ذمة شخصية إلي شخصية أخري. بل ويرمي المنقول بالشبهة: "فما يرويه الأستاذ رمزي لشقيقه عبد الواسع ليس مهماً، وليس مؤكَّداً... أمَّا ما هو أهمُّ وأكبرُ توكيداً. فليس غير حضور خطيب حفظي _ ابن عم درَّة _ في غياب الأزعر: يحضن ابنة عمه،..." ما يُلمح منذ البداية الي استبداد الراوي العليم المهيمن حتي علي أصغر التفاصيل، بما هو صاحب المرجعية المطلقة، تناظراً مع ما تسوقه الرواية حول إطلاقية الحكم الفرداني القابض علي رقاب العباد، المستبد بكلِّ شيء، حيث للسياسي أن ينتهك حرمة الشخصي والخاص، ويتحكَّم فيه بالقوة. وليس من فرقُ يذكر بين عهد شليطا الأول او الثاني أو الثالث... فعلي سبيل الذكر، لا يعاقب شليطا الأول من تسمِّيه درَّة حفظي زوجاً لابنتها ابتهال (المقدَّم سنان عبد المنعم والذي يري في حسني الزعيم عدواً لدوداً ومسؤولاً عن إعدام زعيم حزبه أنطون سعادة، في لبنان) بل يكرمه بالترقية، إرضاءً لدرة وكذلك يفعل، إذ يعدها بإكرام زوج ابنتها نديدا (الصحافي الشمام الذي كان أوَّل من اطلق عليه وعلي من تلاه من الانقلابيين اللقب السيّء السمعة: شلّيطاً.
وللسياسي أن يتمادي في التدخُّل أكثر، حين تُستدعي نديدا، رغماً عن إرادتها إلي مكتب الكومندان بدرالدين أتماز لتقابل أمها لأول مرة بعد قطيعة دامت عشرين عاماً، بناءً علي تدخُّل مباشر من الرئيس. وثمة قرائن أخري تشير إلي التمادي السياسي وتحكّمه في الشخصي والخاص، ما دام هذا الخاص عاجزاً عن تمثيل حضور رادع وفاعل وقادر علي كسر شوكة التّنين، لذا يجوز لنا الاعتقاد بأن الرواية تتعمَّد الإفساح لصوتٍ آخر في الرواية، إذ يخرج الصحافي الشمَّام (رباح) عن طوع الراوي المستبدّ، ليمسك وحده بالكلام، بلسان المتكلّم، ضمير الأنا، علي امتداد الفصل الثاني، مسلِّطاً عدسة مصوَّرته لتلتقط ما احتجب عن عين الراوي أو حُجب عنها، ما يُغني السرد بتفاصيل مضيئة تكشف عن زاوية للنظر، يُطل منها رباح علي صورة نفسه، يكاشفها بما يكشف عن سريرته في بعض ما يتَّصل بحياته الخاصة والمهنيَّة. وليس لتلك الإطلالة أن تكتمل بمنأي عن اكتمال صور أخري تُظهر العمق الشخصي النفسي، التكويني والاجتماعي لكل من بدر الدين أثماز علي خلفية علاقته بأخيه عطاء الدين أتماز، أحد أبرز الوجوه في تنظيم الإخوان المسلمين، وسنان عبد المنعم في ضوء علاقته العكرة سياسياً بأبيه، الشريك التجاري لابن الخال غزال حاج تميم. ولمصوّرة رباح أن تنجز وظيفتها، في ما تضيفه إلي شخصية عبد الواسع الكهرمان، من خلال حوار الاثنين (المحامي والصحافي) حول مواقف الأول من الموجة الأصولية، والكفاح من أجل ضمان الوحدة السورية، والنفور من الصراع الداخلي، وجرائم الاغتيال السياسي، ثم المسودة غير المكتملة لشقيقه شهيد الدستور رمزي الكهرمان.
أمتع الروايات أنظرُها في الواقع
في ثلاثة فصول محبوكة بمهارة سرديّة عالية، منحوتة بلغة مُرهفة تُحسن الإنصات، تنشغل رواية حجر السرائر في البحث عن سر الحجر الذي لا اسم له، يصير هاجساً يسابق هاجس المصائر في الخاص والعام. فمن تجهيل الاسم تتناسل الخيوط وتتداخل مسربلة بصراع الداخل بين القوي السياسية والحزبية والعقائدية والاجتماعية، تقاربه الرواية في سرد رشيق وممتع، يواصل فيها نبيل سليمان مسيرته الروائية الطويلة النابضة بسواقي الذاكرة، الموشومة بإشارات المكان والزمان، المهجوسة بمراودة الفن الروائي علي الانتهاك الجسور والتلفيق الجميل، يُستحضر فيها الواقع الحقيقي حيّاً، مُثقلاً بأزمة الفرد والجماعة والوطن. فكيف لا نقول إنَّ امتع الروايات أنظرها في الواقع، وأبعدها عن مطاوعة الواقع تقع فيه "حجر السرائر"، لا لتكون نقيضاً يلغيه، بل عيناً رائية، تمكر به لتُطلع اللامتوقع الخلاّق المتواري خلف الأشياء، وتبتكر منه نسيجاً سردياً يُقلق الوقع بمقدار ما يثير الاشتباه فيه.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.