من الحقوق المتبادلة بين المسلمين إحسان الظن بالآخرين وهو خلق إسلامي أصيل، مبني على قاعدة شرعية هي أن الأصل في الناس براءة الذمة، وقاعدة قانونية هي أن المتهم بريء حتى تثبت إدانته بالبراهين القاطعة والأدلة المثبتة لليقين والنافية للظن. وإحسان الظن بالناس خُلق مؤداه أن الإنسان لا يحكم إلا بما بلغه يقينا ولا يشهد إلا بما علم لا بما ظن أو ساء الظن، والشهادة مشتقة من المشاهدة، لأن الشاهد يخبر عما شاهده، وهي الإخبار بما علمه بلفظ أشهد أو شهدت، ولا يحل أن يشهد إلا بما يعلمه لقول ابن عباس: سئل النبي عن الشهادة فقال: ترى الشمس؟ قال نعم، فقال: على مثلها فاشهد، أو دع. (رواه الخلال في جامعه). وقد نهانا النبي صلى الله عليه وسلم عن الظن في وصيته الخالدة: إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث (رواه مسلم) وجرت الآيات محكمات: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ) (الحجرات: 12) وقال الرسول صلوات ربي وتسليماته عليه: بئس مطية الرجل زعموا. وهذه نملة تنصف في الحكم مع نبي الله سليمان وجنوده فقالت بعد أن أمرت قومها أن يدخلوا مساكنهم: لا يحطمنكم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون فكانت مثال لحسن الأدب ورجاحة العقل وإحسان الظن قالت: (وهم لا يشعرون) فالتمست العذر لبني الإنسان في تحطيمه لها لدقة حجمها واستحالة رؤيتها في حال انشغاله عنها بما هو أعظم. إن حفظ أعراض المسلمين والذبّ عنهم من أهم مقاصد الشريعة وآكدها. ويكفي للدلالة على ذلك حرص الإسلام حفظ سمعة الناس وأعراضهم فشرع حد القذف، وقال صلى الله عليه وسلم: (كفى بالمرء كذبًا أن يُحدِّث بكل ما سمع). فعلى المسلم أن يحفظ لسانه، وألا يطلقه دون إبانة، حتى لا تهوي بت حصائد لسانه في قعر جهنم كما ورد في حديث معاذ رضي الله عنه (وهل يُكَبُّ الناس على وجوههم في النار إلا حصائد ألسنتهم). وأن يعلم أن حسن الظن بالناس أصل من أصول الأخلاق الإسلامية وقد قال صلى الله عليه وسلم: "من قال هلك الناس فهو أهلَكَهم، أو أهلكُهُم (بفتح الكاف وضمها بالنصب والرفع). ونبهنا صلى الله عليه وسلم: "أن أمته كالغيث لا يدري أوله خير أم آخره". وقال أيضا: "لا تزال طائفة من أمتي هل الحق ظاهرين لا يضرهم من خالفهم ولا خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك". ومما يعين على إحسان الظن بالآخرين حمل كلام الناس على أحسن المحامل وهكذا كان الصحابة والتابعين فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "لا تظن بكلمة خرجت من أخيك المؤمن شرًّا، وأنت تجد لها في الخير محملاً".. وهكذا كان حال الصالحين يحسنون الظن ويلتمسون الأعذار ويحملون الكلام على أحسن محامله وتأويله بما لا يؤدي إلى معنى سيء أو قصد غير كريم. حتى قالوا:- التمس لأخيك سبعين عذرًا .. وقال ابن سيرين رحمه الله: إذا بلغك عن أخيك شيء فالتمس له عذرًا، فإن لم تجد فقل: لعل له عذرًا لا أعرفه. ومما يعين على إحسان الظن بالآخرين عدم الحكم على نواياهم وعدم الحرص على شق الصدور والتفتيش عن مكنون النفوس، فما أمر المسلمين بذلك، وإذا كان الإخلاص سر من الأسرار بين العبد وربه لا يطلع عليه ملك فيكتبه أو شيطان فيفسده، فكذلك كافة أحوال القلوب، فدع سرائر الناس لرب الناس ولم نؤمر بشق الصدور والكشف عن مكنون القلوب. إن التفتيش في مكنونات الصدور والتشكيك في الضمائر والبحث عن خلفيات ما يريد المتكلم من شيم ذوي النفوس المريضة الذي يتلمسون للبرءاء العيب وينصبون لهم الشرك ويتمنون لو أن خلق الله كلهم أخطأوا حتى يشبعون نهمتهم في التشفي من عباده وكل ذلك من خصال الشر الكامن في بعض النفوس. أنظر إلى قول الإمام العظيم أبو حنيفة فيما ينقله عنه العلاّمة ملاّ علي القاري في (شرح الفقه الأكبر): (ذكروا أن المسألة المتعلقة بالكفر إذا كان لها تسعة وتسعون احتمالاً للكفر واحتمالٌ واحد في نفيه، فالأَوْلى للمفتي والقاضي أن يعمل بالاحتمال النافي لأن الخطأ في إبقاء ألف كافر أهون من الخطأ في إفناء مسلم واحد)، وذكر أيضًا في الصفحة نفسها: (إذا كان اللفظ محتملاً، فلا يُحكم بكونه كفرًا إلا إذا صرح بأنه نوى المعنى الكفري). نِعْمِ الإمام أبو حنيفة. ومن درر الشيخ محمد الغزالي رحمة الله عليه يقول: "فالدين المعاملة والأصل إحسان الظن بالمسلمين لا العكس!" ومن جميل قول عمر بن عبد العزيز: "أعقل الناس أعذرهم لهم!". ومن درر شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "أهل السنّة أعرف الناس بالحق وأرحمهم بالخلق". إن إحسان الظن بالخلق يؤدي إلى سلامة الصدر.. وتدعيم أواصر الأخوة وروابط الألفة بين الناس، وما أجمل ما نظمه الإمام الشافعي في ذلك: إقبل معاذيرَ منْ يأتيكَ معتذرًا *** إن برَّ عندكَ فيما قالَ أوْ فجرا لقدْ أطاعكَ منْ يرضيكَ ظاهرهُ *** وقدْ أجلكَ منْ يعصيكَ مستترا