يروي حازم زكي نسيبة سيرته الذاتية بتركيز شديد، ورغم تأكيده علي قلة استخدام المراجع إلا أن السيرة جاءت موثقة تاريخياً. سيرة تبدأ بالقدس، مسقط رأس المؤلف الذي صار وزيراً لخارجية الأردن فيما بعد.. هذا الجانب هو العنصر الأكثر جاذبية في كتابه الضخم (555 صفحة من القطع المتوسط، صادر عن دار رياض الريس). صورة القدس القديمة، القدس الموحدة حينما كانت مساحة المدينة المسورة لا تتعدي الكيلومتر الواحد.. هكذا تتوافر ل"ذكريات مقدسية" عناصر الجذب. يرسم المؤلف لوحة القدس وفيها البيوت الكبيرة، العمال المهرة، وهم يروضون الحجارة، ويجعلونها رخاماً ناعماً بشكل يدوي. يتم ترميم التاريخ، بشكل يدوي أيضاً.. الآثار هنا عمرها يقاس بالقرون. صورة جمالية ترسم واقعاً جميلاً، يغذيه "نسيبة" بما عاشه بنفسه، حينما كانت الأسرة المقدسية تتكون من سبعة أولاد في المتوسط، والناس تستقيط علي صوت مؤذن خاشع يؤذن الفجر.. تجاوره أصوات الأجراس من الكنائس والأديرة القديمة، المُنسابة من البلدة القديمة، وتأتي من الحيين اليهوديين الوحيدين آنذاك، أصوات الأبواق إيذاناً بسبت "الكيبور"..صورة جميلة للقدس، لا تخلو من هدوء، وتعايش حيث العائلات مستقرة.. والقرويات ترتلن أغنيات وهن حاملات السلال الممتلئة بالتين، والتفاح السُكري والأجاص القادم من رام الله.. تستحيل الصورة إلي ذكري، يصعب تخيلها الآن، ولا تعود حالة القدس للحالة التي يصفها المؤلف.
تحضر النكبة هنا بطعم شخصي أكثر من كونه سياسيا، فهي سبب تفريق العائلة واستحالة زيارة مسقط الرأس!.. هكذا تتغير المدينة العتيقة، وتفقد استقرارها، يرصد نسيبة المولود عام 1922 هذا التغيير. اختفاء أحياء عربية، تم هدم خمسة أحياء مرة واحدة بعد 1976.. لتوسيع باحة حائط المبكي، الذي كان مجرد ممر عرضه عدة أمتار فقط! كذلك يرصد التغيير ديموجرافيا، أهالي المدينة الوادعة، كانوا مستقرين متعايشين سويا، لكن التغيرات السياسة والمكانية مست البشر، هكذا بدأت أحداث العنف، التي يرصد الكاتب أحدها حينما حاولت مجموعة من اليهود المتدينين إدخال طاولة وكراسي عبر المسجد الأقصي إلي حائط المبكي، هنا تولد العنف داخل القدس.. يتناول الحادثة بحياد، يصف ما جري من كل جانب، المصابين من أصحاب المدينة ومن اليهود! في هذا الزمن البعيد كانت القدس ملتقي ثقافياً يتباري فيه الشباب في مسابقات شعرية تعرف ب"المَحبوكة"، يلقي المتباري منهم بيتاً من الشعر يبدأ بآخر حرف في البيت الذي ألقاه المتباري السابق. عبر سرد نسيبة لتاريخه مع المدينة تظهر القدس كميدان للثقافة، أعمال الكتاب المصريين كانت حاضرة كتاب "الإسلام وأصول الحكم" لعلي عبد الرازق أثار الجدل نفسه الذي حققه في مصر هناك. والكلام عن كتاب معاصرين، ومتابعة منتظمة لمجلة "الرسالة"، التي أسسها الزيات.
المؤلف انتقي ما هو شخصي فيما يخص المدينة، وتاريخ القضية، بمعني أنه يكتب ما شاهده بنفسه.. لهذا نحاول أن نستبعد ما هو معروف بالضرورة عن القضية تاريخياً، لنبرز الزاوية الجديدة التي يبرزها "ذكريات مقدسية " حيث يروي واقعة تعود إلي ما بعد قرار الأممالمتحدة بالتقسيم(الصادر لعام 1947).. هناك حل بديل، لم يرد ذكره مسبقاً، تمثل في ما اقترحه الكونت برنادوت الحل البديل تم اغتياله، وهذا ما حدث بالفعل، حيث قامت القوات الإسرائيلية - بتوجيه من إسحاق شامير- بإغتيال الكونت"برنادوت"، ابن عم ملك السويد، والذي كان المبعوث الرسمي للأمم المتحدة لدراسة الوضع. الرجل الذي كان يتنقل بين الجانبين، الفلسطيني والإسرائيلي، مرتدياً زي البحارة الأبيض، كان يري أن التقسيم لم يكن حلاً منصفاً. كان يري أن منطقة القدس وصحراء النقب لا بد أن تخصص للفلسطينين، حتي يظلوا متصلين بالعالم العربي، بينما تخصص منطقة الجليل الغربي لإسرائيل. كان "برنادوت" يري أيضاً أن قرار الاممالمتحدة الذي يقتضي عودة اللاجئين يمكن تنفيذه بسهولة، بدلاً من تخصيص وكالة مخصصة لهذا الغرض"الانرويل"، لأن المسافة التي علي اللاجئين قطعها للعودة مسافة قصيرة تقطعها السيارة بسهولة.. حضر الرجل حفل غداء أقيم علي شرفه، نظمه قائد الفرقة الأولي بمعسكر للجيش في حقل زيتون بيتونيا، ويصف المؤلف، الذي كان مدعواً للحفل، الكونت لحظة انتهاء الحفل :" ودّعنا بعد الغذاء وقال أنه ذاهب إلي القدسالغربية لمقابلة المسئوليين الإسرائيليين". كان المؤلف وقتها مدير وكالة الإذاعة الفلسطينية ويشغل مكتباً برام الله، في المكتب تلقي بعد ساعتين من الغذاء الذي جمعه مع الكونت اتصالاً (من مراسل الإذاعة بالقدس) جاءه فيه خبر إغتيال الكونت في شوارع القدسالغربية، وقتل معه مرافقه العسكري الفرنسي كذلك..كانت الصدمة أكبر من غواية السبق الصحفي، لم يُذع الخبر إلا في نشرة الثامنة مساءً أي بعد مدة من الحدث!
من ناحية أخري يكتب نسيبة عن الهيكل المزعوم أن الاعتقاد بأن جوانب السور الجنوبية الغربية والشمالية الغربية "هي بقايا الهيكل الثاني الذي هدمه تاتيس عام 70 بعد الميلاد هو بكل بساطة اعتقاد خاطئ، الحقيقة هو أنه البقعة التي يعتقد المسلمون بأن النبي محمد قد حط فيها علي راحلته من مكة إلي القدس، وتجدر الإشارة هنا إلي أن اليبوسيين العرب بناة مدينة القدس كانوا قد بنوا هيكلهم في هذه البقعة الطاهرة قبل ستة آلاف عام، وكان زعيمهم الروحي ملكي صادق علي صلات دينية وثيقة مع إبراهيم جد الأنبياء"! لهذا يستنتج أن عمليات الهدم التي قام بها البابليون والرومان من بعدهم للهياكل اليهودية كانت "عمليات بالغة الإتقان والشمول والتدمير وإلا كيف يمكن أن نفسر أن عمليات الحفر المتواصلة، علي امتداد أربعة عقود وتحت كل شبر من المباني والمنازل والأسوار وإلي أعماق وصلت إلي خمس وأربعين قدماً حتي تحت المسجد الأقصي لم تظهر أثرا يهوديا واحداً"، بل ينتهي من تناول هذه النقطة بقوله أن عمليات الحفر أكدت أن المسجد الأقصي يقوم علي الأساسات الصخرية التي شيد عليها قبل أربعة عشر قرناً.
تاريخ المدينة الشخصي، كما يرويه المؤلف، يحفل بأكثر من مدينة ..هناك المدينة التي يترأس مجلس بلديته المكون من أثني عشر عضواً رئيس عربي، والمدينة التي نال الأجانب امتبازات فيها من الحكم العثماني فصارت مقسمة إلي مناطق ألمانية، إيطالية، بريطانية، وغيرها. كذلك هناك المدينة التي حفلت بأحياء عدة لليهود، (بعد أن كانت القدس لا تحتوي إلا علي مجرد حيبن فقط عند ولادة المؤلف)، في هذه الصورة من المدينة تتواجد أحياء اليهود ومنها: "كميكور حاييم"، "رحافيا"، "موتزا"، "مياشيرم"، والحي الذي أسسه الثري اليهودي البريطاني "موشي مونتفيوري"، وحمل اسمه.. كل هذه الصور للمدينة كان تتحقق وتضاف إلي مساحة البلدة القديمة، التي لم تكن تزيد عن كيلومتر واحد.. تاريخ مدينة القدس مربك، حسبما يبدو من الكتاب، المدينة تتعاظم وتتغير، و"تتهود"، وفي النهاية انتهت لوحة القدس التي يرسمها نسيبة إلي حي عربي واحد، سمي علي سبيل المجاز ب"الحي الباقي"، ولكنه ضاع في عام 1976.