لأول مرة - بعد سنوات طويلة- أراك عن قرب هكذا.. ياه!!!! تغيرت كثيرا. مازلت وسيما إلي حد ما.. لكن... أصبحت عاديا كباقي الرجال!.. كرش - وان كان صغيرا - كالآف الرجال. شعرك عادي.. نظارتك عادية.. صرت رجلا عاديا. تشاغلت عنك بزميلي وأنت تتظاهر بمراقبة القمري واليمام بنظرات رومانسية علي الشجرة القريبة بينما تسترق السمع لحديثنا وتختلس النظر. القمري واليمام!! هل تظنها تلك الكائنات الوديعة التي حين كانت تهدل فوق منازلنا تراودنا أفكارنا أن في الطريق إلينا ضيفا عزيزا آتيا ننتظره بشوق. القمري واليمام لم تعد كذلك. إنها تختار لسكناها لوحات الكهرباء وتقيم أعشاشا من قش تحكم لفها بخيوط السلك.. تتماس الأسلاك فتنبعث شرارات مشعلة حرائق صغيرة كل حين. تنقطع الكهرباء ونسبح في بحور العرق طويلا حتي ندرك فعلتها. لابأس فلتنظر إليها بنظراتك الحالمة كما تشاء. ربما مازال القمري يهدل فوق منازلكم.. ربما مازلت تحلم.. ربما مازلت تنتظر من يأتي بشوق. هل تذكر ما أْعجبني فيك؟ لمعة عينيك لم أرها.. اختفت خلف النظارة السميكة. كنت حين تضع يديك علي شعرك تصهل خيول العالم ويرفرف قلبي.. كنت رشيقا ووسيما. كنت أوسم فتيان البلدة وكنت.... وكانت البنات يرسمنك في أحلامهن. وكنت شابا استثنائيا. رأيتك بعدها مرات متفرقة عن بعد - عبر سنوات - وأنت تعمل لكنك... لأول مرة تراني عن قرب هكذا. ماذاتراك تفكر في الآن؟ هل تظنني مازلت أهواك؟ تنظر إلي أصابعي هل بها حلقة ذهبية أم لا.. هل تفكر في زوجي وعدد أطفالي؟ لاتري حلقة تخنق أصبعي فهل يصور لك غرورك أفلاما عن عشقي لك لم تغيره السنون؟ هل تظنني لم أر بعدك رجلا يستحق الزواج منه؟ في أول لقاء كنت أقف خلفك وأرمقك وأنت تعمل لساعات بدأب وصبر.. كنت الرجل الاستثناء. ذكاؤك.. كلماتك القليلة.. الموضوعات التي تطرقها. بنطالك الجينز.. نظارتك.. وقفتك.. هدوءك ويرود أعصابك.. حتي سيجارتك كانت مختلفة.. بين أصابعك وفي فمك كانت مختلفة.. كوب الشاي في يدك كان مختلفا... وكنت شابا مختلفا.. لماذا ترمقني هكذا؟! هل تريد تغيير رتابة حياتك فتقلب في أوراقك المطلوبة منذ سنوات وسنوات؟ أنا أجاهد لأتواري عن أنظارك وأنت تقاتل لتراني... رأيتني إذن فهل تراني تغيرت كثيرا؟ هل مازلت في عينيك كما كنت؟ أنت خرجت من عيني.. عين أخري التي أراك بها الآن أشياء كثيرة سقطت منا في الطريق وتبعثرت لألاف الشظايا.. نظريات ومسلمات وحكايا وضحكات. ما عاد اللون الأبيض بيهجني ولايذكرني بك.. هو فقط لون الشحوب.. لون أردية المرض والموت. اللون الوردي لايغلف العالم ولايلفه بشريط أنيق.. تتحرك للأمام والخلف لأصبح في مجال رؤيتك.. لنعيش في أوهامك وخيالاتك بأنه كانت هناك فتاة تعشقك وأنها أحبتك ولم تتزوج بعدك وظلت مغرمة بك حتي النهاية.. تتظاهر بمراقبة العصافير وهي تحلق فوق الشجرة.. تتظاهر بالإنصات لتغريدها. هل مازلت تعشق العصافير؟ هل تظنها تلك الكائنات الرقيقة التي يطربنا تغريدها ونشعر بالحرية والانطلاق حين نراها؟ العصافير ليست كذلك. انها كائنات شرهة تأكل أضعاف وزنها ولاتتورع عن نقر أوراق وزهور نبات الريحان في مزهريات شرفتي بدأب يومي حتي تذبل النباتات وتموت. تنتقي زهرات صباح الخير قبل تفتحها بأيام وتشبعها نقرا بمناقيرها الصغيرة نقرات كفيلة بتفتح الزهرات الجميلة مشوهة شائهة.. مجهصة تموت بمجرد تفتحها. ولا تخجل أن تترك آثار شراهتها علي شكل بقع بيضاء مختلطة بألوان أخري تجف بسرعة وقسوة ويصعب ازالتها من سور الشرفة. هل تظن مازالت أهتم لأمرك وأسأل عن أحوالك؟ في الطريق البديل القلب يسير وحيدا ينزف عشرات والصور والذكريات الحلوة. صدقني لا أعرف ولا يهمني معرفة ان كنت سعيدا أم لا.. متزوجا أم لا.. لديك أطفال أم لا.. مازلت تحبني أم لا.. لايهمني كيف تفكر بي ولاتسألني كيف أفكر بك وهل أذكرك؟ ما أذكره أنني كنت أنتظر الهاتف أن يدق ونقول: - أنا قادم. انتظرت... وانتظرت... ما أذكره أيضا انه كان طريقا طويلا ذرفت فيه دموعي خلسة وواريت دموعي عن الناس. أذكر أنه كان يوم عيد.. أقصد أنه كان - من المفترض - أحد أيام عيد. حين لم تأت كما وعدت أصبح عيدا استثنائيا. وكنت رجلا استثنائيا. حين جاء الرسول ليقول »امهليني وقتا« كان وقتا مضي. صار القلب شائخا والندوب تعلوه فلم يعد يسمع أو يعي ولم يعد يصدق. لم يعد قلبا. لا أدري - في شهور قلائل - كم الكيلوات التي من وزني نقصت وكم السنوات التي إلي عمري أضيفت. كنت تجيد قراءتي.. ما أن أبدأ موضوعا بكلمات متعثرة مترددة خجلة حتي تفتح صفحاتي وتكلمه.. هل لازلت تجيد القراءة؟. لم يقرأني أحد مثلك قط- لماذا لاتقرأ مشاعري إذن؟ هل بليت الصفحات أم بهت المداد؟ حتما الزمن يلقي بظلاله فتسحب الكلمات.. تهرب إلي حيث يجلس عاشقان آخران يفتحان كتابا هي بحب تخط الكلمات وهو يعشق يقرأها. لم تعد العصافير والقمري واليمام رومانسية حالمة كما كنت تظنها من سنين طويلة مضت. ولم تعد الدنيا وردية ورومانسية وحالمة كما كنت أظنها من سنين طويلة مضت. وأنا لم أعد أنا.. تلك الفتاة الرومانسية الخجول الحالمة التي تري الحياة بنظارة وردية كما كنت من سنين طويلة مضت. لذلك... لاتلق بنظرات متلصصة ولاتسترق السمع فأنت رجل عادي... كانت تذكرني بك أيام غير عادية مضت. وما مضي لن يعود ولن تعود رجلا استثنائيا.