يتقدمني الدكتور البلتاجي إلي مقر المكتبة الوطنية، يطل علي الميدان القديم، قديم الطراز من الخارج، يذكرني بالعمارة المجرية، النوافذ المستطيلة، الأفاريز المزخرفة، الحنايا البارزة، كانت سلوفاكيا جزءا من الامبراطورية التي تحكمها أسرة هامبورج والتي ضمت النمسا والمجر ومناطق شاسعة من وسط أوروبا، انتهي هذا كله مع الحرب العالمية الثانية. تحتل المكتبة ثلاثة مبان ترجع كلها إلي القرن التاسع عشر، أحدها كان ديراً للرهبان، بمجرد الخطو من الخارج إلي الداخل تتغير العمارة، تطل الواجهات علي الطريق عتيقة، غير أن الداخل حديث جدا، الاضاءة، المكاتب، الأثاث، بعد لقاء مجاملة مع المدير العام الدكتور تيبور ترجنيا، أخبرني فيه بمقتنيات المكتبة، ستة ملايين كتاب مطبوع، بينها ستمائة مخطوط عربي قديم، أستدعي السيدة المديرة المسئولة عن المخطوطات العربية. دخلت إلي الغرفة وسرعان ما بدأ بثها الأنثوي يفيض علي المكان. سيدة اربعينية، ربما بداية العقد الخامس، بشرتها سمراء، أقرب إلينا، ربما تجري في اوردتها دماء شرقية، وسط اوروبا منطقة تلاقح كبري للأجناس، قوامها فاره، متطلعة إلي الأمام دائما، ممتلئة في اعتدال، تبادلنا الترحيب، تقدمتنا عبر ممرات شتي، وسلالم حلزونية وصالات مطالعة، وغرف بها مناضد عليها أجهزة الحواسب الآلية. لم التقط اسم السيدة، كما أنني أخجل من الاستفسار عنه مرة أخري، غير انني قررت أن أطلق عليها »المديرة«، انها مديرة فعلا، بقوامها، بهيئتها، بحضورها، بسعيها المحترم، رغم أن جمالها عادي، او هكذا يبدو، السلافيات مشهورات بجمالهن طبقا للمقاييس الشمالية، وقد رأيت وجوها تتجاوز ما تتوقعه المخيلة، جمال نقي، خاص، كثيرا ما كنت أتأمله خلسة أو علي مهل، أما هذه السيدة فلها خصوصية وتفرد، جمالها من حضورها، هنا لابد من إشارة، فخلال مرحلة العمر الذي أمر به الآن أو يمر بي، أتأمل الجمال الانثوي بنظر هاديء وروح استكانت إلي التأمل العميق والحنو الرقراق، أتطلع اليهن كما أقف أمام لوحة جميلة ابدعها فنان لا أعرف منه الا الاسم، وهذا انفعال مغاير تماما لذلك المصاحب لزمن المراهقة ومن بعده الفتوة والشباب، حيث كان الخيال جامحا، والمشاعر متأججة مثل الفحم الذي أكتمل اتقاده، لم يعد يبهرني الجمال الصارخ لكنني أتوقف امام ذلك البث المنبعث من الداخل، وهذا مكتمل في تلك السيدة، للأسف غاب عني أسمها تماما.. أخيرا نتوقف امام باب موصد، تفتحه بدقة وعناية، تقف عنده كي نتفضل، أوميء إليها فليس من اللائق أن أتقدمها، نتبعها إلي صالة مستطيلة تتوسطها منضدة انيقة، عليها مخطوطات مفتوحة داخل أوعية زجاجية. تقف المديرة صامتة، أنامل يديها متلاصقة، كأنها تشرف من مقدمة مسرح علي جمهور صامت، متطلع منتظرا التقديم، ثم بدء عرض موسيقي أو باليه، هكذا بدت، وهكذا بدأت تتكلم عن مجموعة المخطوطات التي ترعاها وتشرف علي صيانتها. هذه المجموعة تعد نادرة، جمعها صفوت بك باساجيتن البوسني، ولد عام 0781، وتوفي عام 4391، سافر إلي بلدان اسلامية شتي، وجمع مخطوطات عربية وفارسية وتركية، كانت كلها عنده في سراييفو، لكن بعد الاضطرابات التي أجتاحت البوسنة في نهاية القرن التاسع عشر، خشي صفوت بك علي مخطوطاته النادرة، خاصة بعد الحريق الذي التهم مكتبة سراييفو، بدأ يبحث عن مكان آمن يصونها في زمنه المضطرب، هكذا أهداها إلي جامعة براتسلافا، ثم ضمت إلي المكتبة الوطنية، وفي عام 7991 قررت منظمة اليونسكو اعتبارها جزءا من التراث الانساني ورعايتها. توجد مطبوعات نادرة أيضا باللغات الثلاث، العربية والتركية والفارسية، غير أن الصالة التي نقف فيها تضم المخطوطات، المحها داخل المكتبة ذات الواجهات الزجاجية، مكان معتني به تماما، تخبرنا السيدة المديرة عن وجود قسم للترميم والعناية، قسم كامل للعناية بحوالي ستمائة مخطوط، تذكرت آلافا أنفس وأقدم تتعرض في بلادنا للضياع والتدمير بسبب سوء الحفظ وقلة العناية، غير أنني أجلت الحسرات والمقارنة التي ليست في صالحنا حتي أتفرغ للاصغاء إلي السيدة المديرة. علي مهل استدارت، فتحت أحد اقسام المكتبة، مالت، تناولت مخطوطا متوسط الحجم، بتمهل ناعم واجهتنا، ياسلام علي طريقة امساكها بالمجلد، أنامل يدها اليمني اليسري تسنده من تحت، وأنامل اليمني من فوق، تميل إلي الامام مبتسمة، ابتسامة ليست صريحة، موحية، تتكلم عن المخطوط الأقدم في المكتبة، جزء من كتاب الاغاني للاصفهاني، المجلد الرابع عشر، نسخ في القاهرة في القرن الثالث عشر. حرت والله، هل اتفرغ بكافة حواسي لتدوين المعلومات التي تنطق بها عن المخطوط النادر، والمخطوطات الأخري، أم أوجه العينين والسمع وما تيسر من حواس غير معروفة لتأمل ذلك الحنو الذي تتكلم به وتمسك به المخطوط، المخطوط الذي تنقل من يد، إلي يد، من بلد إلي آخر، يستقر في أهدأ وأرق مراحله، بين يديها، أفكر في رحلة كل نسخة مخطوطة أو مطبوعة، لو دونت، لاطلعنا علي العجب العجاب، لكل نسخة تاريخها الخاص الذي لانعرفه، تاريخ من التطلع إلي السطور، وانتقال الملكية من شخص إلي آخر، فما أغرب! في تناولها ذلك المخطوط بالتحديد تحية متضمنة لشخصي القادم من القاهرة التي نسخ فيها منذ عدة قرون، انتقلت لتطلعنا علي مخطوطات أخري، وفي كل مرة تبدي تجاه المجلدات حنان الام للمولود الذي تراه أول مرة. فارقت مبني المكتبة، وفارقت براتسلافا، أثق أنني لن أري السيدة المديرة مرة أخري، لكنني كلما استعدت حنوها وحضورها ومساكها المخطوطات يترقرق شيء ما في روحي، غامض لايفصح، ولايبين، تماما.. مثل التاريخ المجهول لتلك الكتب.